أضيف في 18 يناير 2012 الساعة 12 : 21
هل يمكن للفن أن يكون فنا هادفا دون أن تدعمه ثقافة ما؟ مؤخرا عادت إلى الواجهة هذه الإشكالية من خلال شاب اكتشفه المغاربة ليس من خلال فنه, ولكن من خلال اعتقاله, حيث ألقي عليه القبض بتهمة ضرب شاب آخر وأودع سجن عكاشة, وتابع الرأي العام المغربي كله مسيرته إلى أن أفرج عنه يوم الخميس الفارط. مباشرة بعد خروج الشاب من السجن اكتشف الكثير ممن كانوا يطالبون بالإفراج عنه والذين وضعوه في لحظة من اللحظات على قدم المساواة مع الصحافي رشيد نيني أنهم ارتكبوا جرما جسيما. الشاب اتضح أنه متواضع فكريا, ولايحتفظ بأي ود أو علاقة طيبة مع صحافة بلاده, وتصريحه الغريب خلال مسيرة الأحد أنه "لايتحدث للصحافة المغربية, ولكن فقط للصحافة الأجنبية" أوضح أنه لايفقه شيئا على الإطلاق في كل شيء, وأن جهة ما لعبت به لعبتها لكي توصل عبره رسالتها لا أقل ولا أكثر. لانريد تحميل الشاب أكثر مما يحتمل, فالناس تضامنت معه لأنه اعتقل بشكل ليس فوق مستوى الانتقاد, ولم تدافع عنه لأنه "فنان عبقري أتى بما لم يأت به أحد قبله في العالمين". لذلك نود إنهاء صفحة هذا الشاب هنا, وفتح المجال لنقاش العلاقة بين الفن والسياسة في الوطن بعد أن أعطانا "الولد" الفرصة والمبرر والذريعة لهذا الأمر. أول من يقفز إلى ذهني عند الحديث عن علاقة الفن بالسياسة في المغرب هو أحمد السنوسي "بزيز". البعض يقول لي باستمرار إن الرجل لم يعد قادرا على تقديم فن أو ماشابه, لذلك يتخفى في السياسة, لكنني أتذكر لبزيز الكثير من الإبداعات الحقيقية مثلما يتذكرها له جمهوره في كل مكان من المغرب, والرجل لازال قادرا على أن يخلق إبداعات كثيرة اليوم ومتميزة من اللاشيء في كثير من الأحايين, آخرها قوله لي ونحن نبحث عن مكان نوقف فيه سيارتنا منذ أيام, حيث لم نجد من مكان لكي نهرب منه إلا باركينغ بيضاوي, فصدرت عن بزيز فجأة جملة "حنا الباركينغ والمسعودين اللي لقينا هاد البلاصة", كما أن الكثير من كلماته التي يلعب بها تكشف عن حس ساخر متميز, وعن ثقافة سياسية كبرى لايمكن أن يجادل فيها إثنان. تبقى مسألة التركيز على النضال السياسي لدى الرجل, وهذه مسألة لايمكن لومه عليها طالما أنه وجد نفسه في قلبها مجبرا على الدفاع عن نفسه في وجه مايعتبره ظلما لحقه منذ سنوات, وجعله محروما من المرور إلى المغاربة عبر سمعيهم وبصريهم الرسمي. مثلما تبقى اختيارات الرجل السياسية, وهذه لا أعتقد أن من حق أي منا أن يجادله فيها أو يستكثرها عليه لأنها تندرج في صميم الحرية الفكرية والسياسية الشخصية لكل واحد منا. النموذجان بالنسبة لي هما النقيضان التامان لبعضيهما البعض: نموذج شاب في مقتبل الحياة, نفخ له النافخون بسرعة في رأسه, فانتفخ حد الانفجار, وكشف أنه فقاعة سريعة الذوبان, ونموذج فنان كبير أمضى العمر كله بحثا عن كلمة ساخرة جديدة, أو عن اسكيتش قالت في سخريته, ولازال إلى يوم الناس هذا قابلا للنقد واللقاء مع الناس والإنصات لملاحظاتهم كيفما كانت. هل من رابط بين الرجلين أو بين الرجل والشاب؟ في الحقيقة, هناك رابط أساسي يدفعنا دفعا لهذه المقارنة وإن كانت ظالمة لأحمد, لكن لامفر منها والفن أساسا لايعترف بسن. هذا الرابط هو رابط الثقافة التي لابد منها لأي ممارس أو راغب في ممارسة الفن لكي لايسقط بسرعة, ويكشف عن خواء لايسير نهائيا رفقة الفن الفعلي. ذلك أن الفنان الحقيقي _ خصوصا في مجالات متشعبة يختلط فيها السياسي بالفكري مثل الحالة التي نتحدث عنها _ ملزم _ حتى وإن كان أميا _ بأن يبحث عن كل الطرق والوسائل القمينة بأن ترفع من مستواه الفكري, وتمكنه من فهم مايدور في مجتمعه, وتساعده أساسا على معرفة موقعه الحقيقي والفعلي في هذا المجتمع, سيما إذا كان راغبا في تسخير فنه لخدمة هذا المجتمع مثلما يفعل بزيز منذ سنوات, ومثلما حاول البعض أن يوهم الشاب المذكور لبضعة أيام قبل انفضاح أمره بعد الخروج من السجن. هنا أيضا لابد من كلمة أساسية وضرورية: ما يقدمه ذلك الشاب ليس فنا نهائيا. هو صراخ. هو "غوات". هو سب وقذف وشتم. هو كل شيء إلا الفن. والذين ألقوا به في السجن هم الذين ساعدوه على أن يتحول بقوة الأشياء, وضدا على كل قواعد الفن الحقيقية إلى فنان. ولقد التقيت بعدد كبير من الفنانين من كل الأجيال طيلة مدة قضيته, كانوا يقولون لي "حشومة عليك آفلان, واش كتعتبرو داك الشي اللي كيدير هاداك خينا فن؟", فكان جوابي الذي كررته على عدد منهم طيلة القضية "يطلقوه وديك الساعة نحكمو عليه نقديا وبالمفاهيم الفنية". أما قبل ذلك فلامجال لأي نقاش إلا إطلاق السراح, وقد كان. والآن أتى وقت كشف هذه الكذبة بكل صراحة ودونما أي نفاق لكي نتفادى خلق "مسخ" آخر نضيفه لقائمة المسوخ التي خلقها لنا تلفزيوننا من قبل, ونحن الآن أسراها لانعرف كيف نتخلص منها على الإطلاق. الفن لايمكن أن يكون فنا إذا لم تدعمه ثقافة حقيقية, أو في حالة الأمية الأبجدية وعي سياسي حقيقي. أما في حالة غياب الإثنين, فآاراك "للتفرشيخ وتعباز الهضرة" لا أقل ولا أكثر. سالينا, نقطة, سير للسطر يلا لقيتيه.
المختار لغزيوي
|