تعاني أمّتُنا من سوء اختيار وزراء للحكومة؛ فأغْلبهم، هم مجرّد (خوردة) سياسية مترهّلة، سئِمَ الشعب منها، وعانى من ضُعفِها، فهي تحافظ على مصالحها، ومصير الأمّة هو آخر همِّها إنْ كان لها أصلا همٌّ غيْر جيوبها، وضرْب أرزاق مواطنيها، بأكذوبة الإصلاح، وأوهام التنمية، وأكاذيب فرص الشغل، وأحلام المغرب الأخضر الذي صار بسبب الجفاف أصفر، والاقتصاد الأزرق، والمواطن هيهات له أن يذوق سمكَ بلاده التي لها بحران غنيان بثروات تسير أموالُها إلى جيوب الوزراء التجار؛ ومحروقات أحرقت جيوبَ المواطنين الذين استحالوا إلى مجرّد زبائن مخدوعين، يشترون بترولاً هو الأغلى في كافة بلدان المعمور؛ ثم شهرُ الصّيام على الأبواب، فتسمّيه تلفزةُ (الطّبالة) الشهر الأبرك، فيما هو شهر المضاربة في الأسعار، واستغلال الصّائمين بتوظيف الدّين للرّبح غيْر المشروع، ثم يتلو الشهرَ عيدان، يقال عنهما (مباركان)، فيما هما فرصتان للتجار، والمطفّفين، والغشّاشين، حتى بدت أعيادُ المسيحيين أرحم وأيسر من أعياد المسلمين، في مغرب صار جحيمًا، فيه العين بصيرة، واليد قصيرة، لا؛ بل مقطوعة أصلا؛ فترى المواطنَ لبس الهمَّ والغمَّ، وهو في يوم عيد قيل عنه إنّه سعيد، وما هو بعيد سعيد يا سيّدي (سَعيد)، ولكن شبّه لنا فقط.. هذا هو مغرب اليوم..
هذه الليلة، طرقتُ بابَ فيلسوف حكيم، تجرّع السّم، بدلاً من أن يبدو كذّابا في ما جادل فيه العامّة، وسألناه عن كيفية انتقاء الحكومات، واختيار الوزراء، لتكون لنا دولةٌ فاضلةٌ نباهي بها دولَ العالم ونفْخر، فوجدْنا لديه صِدْقًا، وصدرًا رحبًا، وقولا سديدا..
سألناه: كيف نختار وزراءَ حكومتنا يا سيِّد (سُقراط)؟
* يلْزم أن نختار من جمهور المسؤولين، الأفراد الذين ظهر لنا، بعد المراقبة المفروضة، أنهم يمتازون بالغيرة على القيام بكلّ عمل مفيد للدولة مدى الحياة، وينبذون ما يحسبونه ضارّا..
صدقتَ يا سيّد (سقراط)، لكنْ كيف لنا أن نراقبهم؟
* أرى لزامًا أن نراقبهم في كل أطوار الحياة، لنرى هل هم وزراء ثابتون في هذا اليقين؟ ولا تزحزحهم عنه قوّةٌ كالطمع في مال الدولة، ولا رقية لإطراحه، بل يحرصون على الاقتناع بأنهم يجب أن يفعلوا الأفضلَ لدولتهم بصدق، وبمعزل عن أية أطماع أو امتيازات..
نعم؛ سيد (سقراط) كلام جميل، ومنطقٌ سديد، وقوْل مقبول؛ وماذا أيضا؟
* يجب أن ننشد أفضل الوزراء ذوي الإقناع الداخلي، بأنهم يجب أن يفعلوا ما يحسبونه أفضل لمصلحة الدولة، ونراقبهم منذ حداثتهم.. فمن غلب هواهُ عواملَ ضلاله، وغلبتْ ذاكرتُه بواعثَ النسيان، فإيّاه نختار للوزارة؛ ومن لم يكنْ كذلك نبذْناه قصِيّا.. وعلينا أن نمتحنهم بالأعمال والآلام، ونرقب خوْضهم مَعْمعَانها لنرى ظاهراتِ صفاتهم.. فمن جاز الامتحانَ المرّةَ بعد المرة، حدثًا، وشابًا، وكهلاً، وخرج من التجربة سليما، فهو الذي نختاره وزيرًا ومدبّرا، ويجب إكرامُه في حياته وفي مماته، ومَن كانت صفاتهم نقيضَ ذلك، رفضناهم، وما كلّفناهم بمهامّ في الدولة..
ما أروع الحوارَ معك يا سيد (سقراط).. قال فيلسوفٌ من عصر النهضة: إذا أردتَ أن تعرف مدى تقدُّم أمّة ورقيّها، فاستمعْ لفلاسفتها.. زِدْني زِدْني يرحمكَ الله يا سيّد (سقراط)!
* يجب إقصاءُ مَن سفُل من مواليد المسؤولين إلى فئة أدنى، ورفْع من تفوّقَ من أنسال العامّة إلى مصافّ الحكّام.. والقصد من كل ذلك، تأهيلُ كل فرد من سكّان الدولة لممارسة الفن الذي أهّلتْه الفطرةُ له، فيتمكّن بذلك من إنجاز عمله، ولا يكون متعدّد الذّاتية، بل إنسانٌ واحد.. وعلى هذا القياس، تكون الدولة كتلةً واحدة، غير منقسمة..
ألا ترى يا سيّد (سقراط) أنّ هذه واجباتٌ ثقيلة نوعًا ما؟
* كلاّ؛ ليست هذه واجبات ثقيلة، ولكنّها تهون إذا اعتصم المسؤولون بالنقطة المهمة جريًا على القول: (دولةٌ مكتفية خيرٌ من دولة عظيمة).. إنّ القانون الذي وضعناه في بدْء تأسيسنا الدولةَ هو العدالة.. فقد قرّرنا، وأعدنا القولَ مرارًا، أنه على كلّ من أبناء الدولة أن يلوذ بشيء واحد تميل إليه فطرتُه، فيظهر، يا صديقي، أنّ العدالة هي اقتصار الإنسان على ما يخصّه.. وإذا تقيّد كلّ منهم بعمله الخاص المنوط به، مُعْرضًا عمّا لا يعنيه في دوائر الصناعة، والتجارة، والفلاحة؛ فذلك التصرّف عدالة، وبه تكون الدولة عادلة.. فلا يجوز أن يكون الوزيرُ تاجرًا، أو فلاّحًا أو صيّادًا..
* وكيف نتصور هذه العدالة يا سيّد (سقراط)؟
* إذا تصوَّرنا العدالةَ في الوسط الكبير أوّلا، هانَ علينا إدراكُها في الوسط الصغير، في الفرد الواحد من الناس، وقد رأينا الدولةَ أفْضل وسط نختاره لهذا الغرض.. وبوضع الدولة والفرد جنبًا إلى جنب، والجمع بينهما، تسطع منهما شرارةُ العدالة؛ ومتى سطعتْ أنوارُ العدالة أمام عقولنا، حكمْنا في حقيقتها.. لكنْ دعني أسألُكَ أيها الزائر الغريب، من أيّ عصرٍ أو قرن أتيتَ؟
لقد جئتُكَ يا سيّد (سقراط) من عصر التقنيات، وبالضبط من القرن (21)، حيث ولج السياسةَ والحُكْمَ في الدولة (خوردة) باليةٌ تسيّر الأمور ببطنِها وجيبِها، وهي أفرغ من بطنِ أمّ موسى..