|
|
|
|
|
أضيف في 23 ماي 2019 الساعة 38 : 13
إذا كان الطفل فعلا أبا للرجل، فإن حدا معينا من التخصيص –فقط يلزمنا لكي نتوصل إلى قرابات قد تفيدنا في كثير من البرامج الإصلاحية إن على المستوى السياسي الإداري أو على المستوى الاجتماعي التربوي.
وعن طريق هذا التخصيص مثلا، نستطيع على سبيل الافتراض القابل للتجريب أن نرتب على القرابة النفسية التي تجعل الطفل أبا للرجل قرابة أخرى فيها يصبح التلميذ أبا لموظف الدولة، والمدرسة أما للإدارة أيا كانت المرجعية التي تنتسب إليها
11حقيقة، نحن لم نصل بعد إلى ما يؤكد بالتمام أن مجموع سلوكات موظفي وأعوان الدولة تحكمها وتؤطرها رواسب مرحلة التتلمذ، فالموظف ليس في العموم مطالبا –في الوقت الراهن على الأقل باستعادة وجه أبيه التلميذ في بداية السنة الإدارية التي وإن كانت تتأسس تدريجيا على مفهوم الدخول السياسي الإدارية، فهي لا ترقى لتصنع كل دلالات السنة الدراسية والدخول المدرسي، ولم يجبرنا التقشف في النفقات العمومية بعد على تكليف الموظفين عند بداية السنة الإدارية باقتناء وإحضار ما يستوجبه العمل داخل المكاتب من أوراق وأقلام ومراجع، وعلى نفقتهم الخاصة، إن ولي الأمر هنا يبقى في أغلب الدول هو الآمر بالصرف المختص بتنفيذ الميزانية العامة، ثم إن ولي أمرنا العمومي لم يضطر بعد إلى مطالبة أولياء التلاميذ ببناء المدارس وتجهيز الحجرات الدراسية تحت ضغط الندرة والخصاص، وهو على العكس من ذلك قد يربط بين تعميم التعليم في بعض المناطق، وبين المكافأة المادية للمتمدرسين وأوليائهم في شلك شائع هو الإطعام وأشكال أخرى معاونة
ومع ذلك، ثمة ما ينبئ بأن كثيرا من النفقات العمومية التي تتحملها الدولة في تسيير مرافقها الإدارية، ستتحول مستقبلا إلى نفقات مخوصصة يتحملها الموظف، سيكون من الأفيد مثلا فسخ كل العقود ذات العلاقة بالهواتف القارة بالإدارات والمرافق العمومية ما دامت التطورات ستؤدي حتما إلى امتلاك كل موظف لهاتف محمول خاص به، وبوصفه مواطنا عليه أن يتدبر شؤونه الاستهلاكية كما يتدبرها الآخرون، وسترة الدول فائدة أو مصلحة مالية عظيمة في إخراج قوانين ومراسيم تحدد للموظفين مقاييس الحروف والكلمات والفراغات المعقولة بين السطور بغية تخفيض تكلفة استهلاك الأوراق إلى مستويات غير محرجة وقد ترى من العدل أن يتحمل كل موظف فاتورة الاشتراك في شبكة الأنترنيت عندما تكتشف أن هذا الاشتراك لا تفرضه المصلحة العامة… وقد تتعدد وتتناسل التوقعات من هذا النوع لدرجة تجعل الفواصل والاختلافات بين ما يطالب به التلميذ من تحملات في سنته الدراسية وبين ما سيطالب به الموظف في سنته الإدارية أقل أهمية وشأنا.
12غير أن القرابة التي نفترض قيامها هاهنا بين التلميذ والموظف، بوصف الأول أبا للثاني، تبقى قابلة للتجريب بشكل أسهل عندما يتعلق الأمر بالسلوكات والقوانين باعتبارها أيضا آليات أساسية في ضبط هذه السلوكات وتنميطها أو تطويعها عند الحاجة.
قبل وفاته بأيام قليلة، وضع عالم الاجتماع الفرنسي المتميز بيير بورديو نصا لم ينشر من قبل بين يدي شخص اعتبرته العائلة (عائلة بورديو ) دخيلا لا حق له في التركة، وما يهمنا نحن من هذا النص أنه جاء في شكل مذكرات من خلالها "يعترف" بورديو بأن طفولته كتلميذ كانت حاسمة في مساره العلمي وإسهامه في نقد ومساءلة السلطات الرمزية باعتبارها عنفا.. وللتذكير، ليس بورديو وحده من استعاد وجه أبيه التلميذ وهو يمارس البحث، لقد حدثت نفس الاستعادة على يد فوكو وقبله روسو وآخرين، ولا يبقى غير مذكرات قادمة ومأمولة يكتبها سادة العلوم الإدارية والقانونية –وعلم الاجتماع الإداري بالتحديد بنفس التعليل، أي أن الباحث الإداري فيهم هو الابن الشرعي للتلميذ الذي يظل حيا داخلهم، وقد تصل مثل هذه المغامرات الجديرة بالاحترام إلى تأكيد الأهم: أن موظف الدولة في أغلب الأحوال، ودون تمييز من منطلق جغرافي أو محاسبي، هو ابن أبيه الذي كان ولا يزال حاضرا أي التلميذ.
نستطيع هنا في المغرب على الأقل أن نلتجئ إلى بدائل أخرى للمذكرات والإسهامات العلمية في حقل علم الاجتماع الإداري والسياسي ما دامت مثل هذه المصادر المباشرة نادرة جدا إن لم نقل منعدمة، ومن هذه البدائل المؤكدة لوجود التلميذ فينا كموظفين، هناك ذلك النص الرائع الذي تلقيناه على يد "بوكماخ" صاحب سلسلة "اقرأ" التي كانت مقررة لتلامذة الستينيات والسبعينيات من القرن الذي رحل، في هذا النص، يحلم طفل معين –يريد الكاتب أن يقدمه إلينا باعتباره نموذجا للكسل يتعين علينا ألا نكون مثله بزلزال عنيف يأتي على مدرسته ويحيلها إلى أطلال.. والآن بمقدورنا أن نفهم كون ذلك الحلم لم ينشأ من فراغ، إنه الوسيلة الدفاعية الوحيدة الممكنة لرفض سلطة المدرسة بوصفها مانعة قاسية من اللعب
هذا التلميذ الحالم بفناء المدرسة يفترض أنه لا يزال حيا داخلنا يؤطر سلوكاتنا كموظفين، إنه فقط لم يعد يعبر عن كراهيته للعمل داخل المكاتب الإدارية بمثل ذلك الحلم المتطرف، إنه يستمر كهواجس ورغبات في مستوانا العمري والنفسي، نحن نريد مثلا دولة أو إدارة مانحة لأكبر قدر ممكن من العطل، ومثلنا مثل التلميذ الذي نستدخله لحد الآن، نتمنى ألا تصادف المناسبات الدينية والوطنية والعالمية أيام السبت والأحد أو الخميس والجمعة في المشرق العربي، ونتمنى كذلك ألا يحصل أي طارئ يمنعنا من الاستفادة من حقنا السنوي في العطلة خلال موسم الصيف والاصطياف ومواسم الاسترخاء الأخرى المسموح بها لغيرنا ومن باب السذاجة أن نعلل حاجتنا نحن إلى العطل بأن أبناءنا –في الواقع يحتاجون إلينا في عطلهم، نحن في حاجة مستمر لمواسم الراحة فقط لأن الإدارة المجسدة للدولة والسلطة لم تساعدنا على قتل أبينا الأول، ذلك التلميذ الذي نظل نحتفظ به في مواجهة تنظيمات ومنظمات لم تعلمنا إلا أن نكرهها.
تشترك الدولة أولا أن يلتحق بها خدامها الإداريون قبل أن يتجاوزوا سنا محددا سلفا، وأن يغاجروها عند بلوغ حد آخر، وإذا كان سن الالتحاق بالمدرسة في ظل إلزامية المرحلة التربوية الأساسية يتجه تدريجيا نحو التوحد بوصفه سقفا يلزم الجميع، فإن الإدارات في كنف أنظمة أساسية مشتركة وخاصة وخصوصية تناسلت بشكل مريب استطاعت دائما أن تختار السن الملائم لها، فهناك من بإمكانه الالتحاق بإدارة الدولة بشرط لا يتجاوز الأربعين، وهناك من سيجبر على هذا الالتحاق في سن الثلاثين، والأهم أن هناك من يلتحق حتى عند تجاوز أعلى سقف بواسطة عقد خاص، وفي نفس الوقت. هناك من بإمكانه البقاء ولو تجاوز السقف المحدد للمغادرة. بهذا الشرط وما يصاحبه من تشددات أو إعفاءات، تبقي الإدارة على التلميذ في موظفها وتمدد عمره وهي تسعى إلى تعميم رموز طاعتها وشرعنة عملها الإقصائي، إن كل مترشح لخدمة إدارة الدولة سيقصى تلقائيا إن لم يستجب لهذا الشرط، وبالرغم من وجود أساليب عديدة لمقاومة هذا الحاجز وتطويعه سواء تعلق الأمر بالالتحاق أو بالمغادرة النهائية، فإن أبانا التلميذ، الذي أجبر دون رضاه على الانتساب للمدرسة بعمر مضبوط، سيظل حيا داخلنا كخدام إداريين للدولة.
نلتحق ثانيا بالإدارة العمومية، كما التحق آباؤنا التلاميذ بالمدارس العمومية، لأننا فقط لم نجد بدائل أخرى، غير أن ثمة بعض الاختلافات يجدر التنبيه إليها، إن القطاع الخاص الذي بطبيعته يسعده أن يسفر التعليم العمومي عن تسربات وتراجعات عن مبدأ التعميم، ويسعده أيضا أن تختاره الدولة شريكا تربويا لها ينعم بكثير من الإعفاءات الضريبية والحوافز، ليس مستعدا لقبولنا كقوة عمل تفضل أن تشتغل لفائدة أشخاص آخرين غير الإدارة. والنتيجة أننا ننتسب ونود الانتساب للإدارة العمومية، وفي نفس الوقت نكرهها لأن انتسابنا لها يفضحنا أمام الآخرين، يعني صراحة أننا لم نجد ملجأ آخر غير الإدارة والدولة، وأننا تلك "الفئران" التي تلتهم ما يؤديه غيرنا من ضرائب ورسوم.. نلتحق ثالثا بخدمة الدولة لنكره إدارتها في أقرب وقت عندما نكتشف أنها تعني بنجاحنا نجاحها هي في التطويع وتنميط السلوكات. في المدرسة، ولكي يعتبر الطفل ناجحا أو نجيبا، يكون عليه أولا أن يحضر جسديا، وفي الإدارة لم نجد شكلا آخر أحسن وأليق من تقسيم الخدام بين أقسام، وهذا لا يفيد كثيرا، إن ما يستحق الانتباه هو أن خدمتنا لإدارة الدولة تقاس أساسا بمدى انضباطنا للوقت، وبمدى قدرتنا على إفراغ هذا الشرط من كل محتوى.
فحين تختار الدولة أو تخطر لظروف خاصة إلى تنظيم إدارتها في ظل "الحياتية"، أي أن يضع خدامها حياتهم بأكملها رهن إشارتها، فإن حظوظها في استدامة التلميذ داخل الموظف تصبح أوفر، وفي المقابل، تصبح حظوظها في أن تكون مقبولة ومحبوبة أقل، فلكي يكون خادمها الإداري مثل أبيه التلميذ صالحا ونجيبا وناجحا بالمعنى السابق، يتعين عليه أن يحضر جسديا فقط لأن طارئا معينا لا نعرف نوعه بالتحديد قد يجعل حضوره هذا ضروريا، وقد يجعل غيابه أحد الدلالات على فشل ذريع في التطويع، وسيقاوم التلميذ المترسب بآليات وسلوكات تكره هذا الأمر دون أن تثير غضب الدولة أو المؤسسة، سيحضر الموظف فعلا امتثالا للتوقيت، ولكن بوصفه جزءا ذائبا في الجماعة يتحاشى التميز عنها بشكل لا يعرضه للسؤال والمساءلة، ينتهز كل غياب للرقيب كي "يلعب"، سيعمل ليرتاح من راحة مملة، سينتظر دقات الجرس المعلنة عن التحرر المؤقت بفارغ الصبر..
ولكي يكون خادم الإدارة ناجحا يتوجب عليه على غرار أبيه التلميذ أن يحصل على نقط جيدة في نهاية السنة، هناك كما في النظام التربوي نقط موحية للرسوب والتكرار وأخرى تسمح "بالانتقال" إلى رتب عليا، لكن المسافة تبقى بعيدة شيئا ما بين نظام التنقيط الإداري ونظام التنقيط التربوي، فالمانح في النظام الثاني يشتغل بمعايير أقل عرضة للنقد والمقاومة، إنه يعطي النقطة الجيدة لما يعتبره مجهودا جيدا، في حين، لا تتوفر لمانح النقطة السنوية في النظام الأول إلا بعض الفرص الضئيلة لتحاشي النقد، ومع ذلك، تتقلص الفوارق بين النظامين بالتدريج، فالمعلم مثله مثل مدبر الموارد البشرية الإدارية يتجه بوتيرة ملحوظة نحو استعمال أكثر إنسانية لحقه في تقرير الرسوب، وهنا نستطيع أن نبحث عن السبب باستحضار الأهداف من النظامين، لقد كانت النقط التربوية صارمة إلى حد ما في فترة "زاهرة" كان النجاح التعليمي خلالها يكافأ بالانتساب لإحدى هيآت الإدارة إذا عجزت الدولة عن مكافأته بأشكال أخرى، وعندما تقلصت هذه الأساليب في المكافأة، لم يعد هناك ما يجبر رجال التربية على التقيد الصارم بمعايير الرسوب والنجاح، لقد وصل المربي إذن إلى ما انتهجه مدبر الموارد البشرية دائما وهو يتساهل في منح النقطة للموظف لأن النتيجة النهائية لن تتعدى بعض الدراهم المعدودة، نفس الصرامة افتقدتها معايير الانتقال إلى مستويات أعلى في النظامين، فنحن نستطيع أن نجد مثلا للتساهل في معايير الانتقال من التعليم الأساسي إلى الإعدادي –ومنه إلى الثانوي والجامعي شبيها له في التطبيقات الاستثنائية للحق في الترقية الإدارية إلى درجات وسلاليم أعلى، كما نستطيع أن نتحدث عن امتحانات تربوية وأخرى مهنية تتجه نحو مزيد من التقارب من حيث الاختلالات على الأقل.
والخلاصة أن الموظف النجيب بمعايير الإدارة ومعاييره هو أيضا ليس غريبا –ولن يكون عن ذلك التلميذ النجيب بمعايير المدرسة وفترة الطفولة، فهو يحضر ويغيب، يعمل ولا يعمل، يرسب ويترقى، ينتسب للدولة ويكرهها، لأن ذلك يتم وفقا للمنهج الذي سنه والده التلميذ الذي لم يمت بعد ولا أحد له مصلحة في موته
2 – بالقاعدة القانونية وحدها، لا تتغير وتتجدد السلوكات والمعايير والقيم، فالنص التشريعي أو التنظيمي لا يستطيع مهما كانت جودته أن يصنف سلوك الإداريين –شأنهم شأن السياسيين وغيرهم إلى ما يجب وما لا يجب، أن السلوك عندما ينظر إليه كمدخل للإصلاح أو التغيير، سيحتاج إلى سلوك مضاد على مستوى دوافعه أولا.. نعرف الآن أن خادم الإدارة لم يساعد على قتل أبيه الآتي من عصر التلمذة وليست له هو كذلك في التنكر لهذا الأب مصلحة، ينقصنا شيء واحد كي نتحرر نسبيا من التجريد الضار، أن ندقق في معنى الإدارة والدولة وفي الحدود التي تسعفنا هاهنا في قلب ما هو مجرد إلى ما هو مجسد ستصبح الإدارة –صاحبة المصلحة في استدامة التلميذ المطواع داخل خادمها المثالي أناسا طيبين في الغالب وبالفطرة، يحتكرون سلطة التطويع والمكافأة والجزاء لأن السير الطبيعي لإدارة الدولة يتطلب أن يكونوا كذلك، ولأن ولاءهم للدولة والإدارة لا يمكن أن يقاس بشكل آخر، فهم إذن إما تلامذة كبار أو قدماء أو أوائل ضمن التلاميذ، أو رجال تربية إدارية لم يقتلوا هم أيضا آباءهم التلاميذ، من هنا تخلص إلى أن العملية كلها لا تتعدى قدرا من التطويع بوصفنا نماذج كبرى يخوله إلى الآخرين بوصفهم نماذج صغرى، ولكنهم كعدد أو رقم، يشكلون دليلا ساطعا على أن الآليان تشتغل على أحسن ما يرام.
غير أن هذا التشخيص ينبغي ألا يوظف فقط لإنتاج مزيد من الصور الكارثية لأوضاع الإدارة ولإيهام الآخرين بأننا نحسن التصوير ولدينا البدائل المناسبة بما فيها الخطابة الإصلاحية، إن الخطاب الإصلاحي سواء تأسس على بلاغة الكلمة أو الرقم أو الصورة، وعندما يصادر على الخصاص التشريعي والتنظيمي أو خصاص آخر على مستوى مراقبة السلوكات وزجرها، يصبح هو نفسه برهانا ثمينا على أن المصلح الإداري –شأنه شأن الموظف والمدبر لم يقتل أباه التلميذ، نذكر هنا بأن التلميذ الذي يحفظ جيدا ما يتلقاه من دروس قد يرسب عندما نتعمد امتحانه في دروس لم يحفظها، وعلى العكس من ذلك، لن نتمكن من خداع التلميذ الذي يؤهله رصيده اللغوي وطريقته المتميزة في الكتابة والإجابة، إنه عندما تخونه الذاكرة الحافظة للمقررات، يلتجئ إلى بلاغته الخاصة لإقناع المصحح أو الممتحن بأنه يستحق التقدير.
إن ما ينقصنا –كفرضية متفرعة يتعدى القاعدة القانونية ليشمل كل التدخلات الممكنة لإيقاف فعل ما نعتبره بالحدس ظواهر معتلة، ما دام الفعل الذي لا نستسيغه يتطلب رد فعل نستسيغه يتساوى معه أو يفوقه في القوة، والأمر هنا يتعلق بالأسباب والدوافع.
سنرى أولا أن القاعدة القانونية المنظمة لحياتنا كموظفين عموميين من النوع الممتاز القادر على إعادة إنتاج رموز الدولة في التطويع موجودة بشكل لا بأس به، موجودة لأننا نقتبس ونستورد كل ما نعتقده مفيدا لنا من إدارة الأعمال وحقول أخرى قمنا أو لم نقم بتوطينها، ولأننا نصدر وننشر الإصلاحات الإدارية والتوصيات أكثر مما نصدره من دواوين شعرية. وعندما نتفق على أن الخصاص القانوني هو مجرد حيلة نستخدمها لنظل سادة لا بد منهم في الإصلاحات، قد نتفق على ما هو أهم، على أن ما ينقصنا هو الإبداع سواء قررنا قتل الأب أو قررنا أن يكون سرمديا، إن الإبداع في الإصلاحات هو الشرط الوحيد الذي يقي الإصلاح من التلاشي في كل الاحتمالات وأسوئها، إنه إذا لم يجد من يطبقه ويجسده بالملموس، يستحق أن يعيش على الأقل ويستمر بوصفه أدبا يقرأ وتعاد كتابته بحثا عن المتعة والإمتاع أو اللذة التي استشعر بارث وجودها كموجب للأدب
21لكي نكتشف أن القاعدة القانونية في حياتنا الإدارية ليست هي ذلك الغائب المبحوث عنه، وإنها فقط تنهزم أمام السلوكات المقاومة دون أن تنسحب، يكفي أن نتأمل الجدول التالي، وهو محاولة في التوصيف لا نرمي بها أن تنطبق بالتمام على إدارة معينة عندنا أو عند غيرنا.
الوحدة المعتمدة في قياس أداء الموظف.
طبيعتها
ما تقرره القاعدة القانونية كجزاء ومكافأة
السلوكات المقاومة والمتحاشية
اليوم: حضور/غياب
زمنية
اقتطاع من الراتب
الاستفسار، التبرير، الترخيص الإداري والطبي بالغياب.
فترة التمرين
زمنية
*تمديد الفترة أو الإعفاء كجزاء لضعف الأداء.
*الترسيم كمكافأة
*كل متمرن له الحق في الترسيم.
*حملات وطنية ترسيمية.
الشهر زمنية
أجر مرتبط بإنجاز فعلي للخدمة.
*استئجار للحضور والتواجد دون انقطاع.
*التعيين في مناصب المسؤولية يتحول من تلقاء نفسه إلى دليل على الإنجاز الفعلي للخدمة.
الشهر، نصف السنة،
زمنية
*حرمان من بعض التعويضات.
*تعويض مادي مكافئ لحسن الأداء.
أجور لا يمثل فيها الراتب الأساسي أكثر من 30%، مقابل 70% تمثلها التعويضات القارة.
السنة زمنية
*نقطة سنوية من 0 إلى 1 جزاء ضعف أو انعدام الأداء.
*نقطة من 2 إلى 3 مكافأة للأداء المتوسط والجيد.
*كل الموظفين يحصلون في نهاية السنة على 3/3.
*أقل من 3/3 يعتبر انتقاما.
*معايير ذاتية في منح النقطة.
*ترقية في الرتبة متسامحة.
أربع سنوات – عشر سنوات.
زمنية
*إقصاء أو تأجيل من الترقية إلى درجة أعلى.
*الترقي إلى درجة أعلى.
*كوطا وامتحانات مهنية.
*حملات استثنائية في الترقية لاحتواء بعض التوترات الاجتماعية.
فطبقا أو اعتبارا لهذا الحد الأدنى من المقابلات بين ما تحاول القاعدة القانونية أن تخضع به من سلوكات، وبين ما نسلكه نحن كمدبرين أو كموارد قابلين للتطويع بأشكال أخرى مقاومة ومريحة، من ستكون له مصلحة في قتل أبيه التلميذ؟ ومن سيغامر مجددا بالمناداة بمزيد من القواعد القانونية هروبا من مسؤولية التدخل على مستوى أسباب ودوافع المقاومة والتحاشي؟ وما الذي يجبرنا لحد الآن على أن تتسبب للإدارة أو نتحدث عنها كمصلحين بأكبر قدر ممكن من الخمول، وبأقل قدر مطلوب من الابتكار إن على مستوى الممارسة أو على مستوى التفكير؟
22بالطبع، قد يرفض علماء الاجتماع الإداري والسياسي –تحت ضغط أنا الانتماء والتخصص أو استجابة لتقسيم عالمي لا رجعة فيه للعمل المعرفي كل نداء يدعوهم إلى أن يكونوا مبدعين، قد يقولون مثلا لو كان الإبداع خيرا ما سبقنا إليه أحد، والحقيقة أن العلم هو ذلك الساحر الذي يهمه أن يحول ما نعتبره الآن خيالا إلى ابتكارات وتقنيات وفوائد ملموسة، ثم إن ما ندعي أنه علم اجتماع لا يعدو في المجمل كونه فلسفة سياسية غير معلن عنها أو تاريخا أو خدمة أمنية ضبطية لصالح السلطة.
لكي تحصل الدولة على خدام جيدين يخدمونها دون أن يكرهوها على الأقل، لا بد إذن من شيء من الإبداع، وبما أننا على ما يبدو لا نرغب ونحن نخدم الدولة في إماتة آبائنا التلاميذ، فإن إصلاحاتنا وتدخلاتنا المبدعة ستكون أكثر قدرة على الإمتاع عندما تنطلق من شروط حب المدرسة بوصفها شروطا لحب إدارة الدولة.
في عيون آبائنا التلاميذ، ليس ساذجا أو تافها ذلك المربي الذي يكافئ بالحلوى بدلا من النقط الوهمية، أو يمارس التربية داخل اللعب، أو يقتصد في الدرس ليوفر وقتا إضافيا للراحة والتعطل، أن الساذج أو التافه على العكس هو ذلك المربي الصارم الذي كلما تمادى في أساليب التطويع الفاضحة، كلما أصبح خداعه جائزا ومحققا للفرجة الجميلة.
لا نتوفر لحد الآن على ذلك النوع الطريف والثمين في نفس الوقت من الإحصائيات والمعطيات، وبالرغم من هذا النقص، نستطيع بالحدس أن نجزم بأن أمراض السكري والأعصاب منتشرة أكثر داخل الأجهزة التنفيذية للدولة على خلاف أجهزتها القضائية والتشريعية، لذلك فلا مجال لإبداع بدائل للمكافأة على حسن الأداء في إدارة الدولة باستحضار كل ما يراه التلاميذ حوافز ملموسة، ما يمكننا فعله وإبداعه سيتعلق أساسا برغبتنا –كأبناء بررة بآبائنا التلاميذ في أكبر قدر ممكن من العطل… وللإبداع في العطل، نحتاج أولا إلى إبداع في الدرس يجعله أكثر توفيرا للوقت.
نحتاج ونحن نخدم الدولة دون أن نكرهها لجيل جديد من المدبرين يأتون إلينا بوصفهم معلمين لديهم دروس ومقررات مضبوطة. لقد انتبهت مارغريت تاتشر إلى هذا الأمر، فقررت أن تكون مناصب المديرين موضوعا لإعادة النظر بصفة دورية، فيما أن الإدارة هي التنفيذ المفصل للسياسة الحكومية، وبما أن السياسات الحكومية والبرامج قد تتباين ولو جزئيا باختلاف الأغلبيات التي يوصلها الاقتراع المباشر إلى الحكم، فإن مناصب المسؤولية الإدارية يفترض فيها أن تتحرك باستمرار، وعلى الوزير الجديد –طبقا لهذه الممارسة التاتشيرية أن يتعاقد مع مديرين جدد لهم برامج محددة ملائمة ومطبقة لبرنامجه القطاعي وبرنامج الحكومة برمته. ومع ذلك، فإن ما أبدعته تاتشر كان قابلا للتحقق فقط لأن إنجلترا والبلدان الأنجلوساكسونية عموما أسسا إدارتها على فلسفة المنصب وجسور أخرى تسهل الانتقال بين القطاعين العام والخاص، أما الإدارة المنغلقة المبنية على الحياتية والفصل بين العام والخاص في أوروبا –باستثناء، بلجيكا، فهي لا تستجيب طوعا لمثل هذا الابتكار، لكن الاستجابة تبقى ممكنة ولو في حدود معينة بقليل أو كثير من الإبداع. ففي الأنظمة الإدارية المنغلقة نفسها، نستطيع تزويد الجهاز التنفيذي بالكفاءات التي نريدها عن طريق التعاقد أو عن طريق الانتخاب، وعليه، ثمة إمكانية لكي نبدع في خدمة الدولة هنا وهناك دون أن نكرهها، سيكون بإمكاننا مثلا أن نكلف أصحاب المسؤوليات العليا في إدارتنا العمومية، على إثر كل تعديل أو تغيير حكومي، بتحضير دروس منسجمة مع تصريح الوزير الأول أو رئيس الحكومة بعد حصول على تزكية البرلمان، وسيقومون من جهتهم بإلقاء هذه الدروس وتلقينها جيدا للموارد البشرية الموضوعة رهن إشارتهم، وبالتالي سيعرف كل موظف ما له وما عليه من خلال هذه المقررات، سيكون حفظ المقرر وتطبيقه بإتقان هو المطلوب، وسيحل الدرس الافتتاحي الدوري محل تلك الأهداف الفضفاضة التي تنص عليها الهياكل التنظيمية المحددة للاختصاصات نظريا. وستصبح الترقية وغيرها من أشكال مكافأة الأداء مرتبطة بالحصيلة النهائية التي تحققها الحكومة قبل رحيلها، وفي نهاية التحليل، سنلبي حاجة آبائنا التلاميذ إلى معلمين يطالبون بالامتثال لدرس محدد يتم استيعابه قبل تطبيقه، وتتم كل المحاسبات والمراقبات والمكافآت في ظله.
سيؤدي هذا الإبداع وعلى هذا المستوى الأول إلى ظهور حاجة أخرى يلبيها الإبداع على مستوى ثاني وهو العطل، فنحن عن طريق أهداف مرحلية محددة بدقة للإدارة، نستطيع أن نخلص أنفسنا من كثير من أسباب ضياع الوقت، وما سنوفره قد يصلح لنا –بوصفنا أبناء آبائنا التلاميذ لتمديد فترات الراحة والعطل.
ليس هذا فحسب، بل إن فترات الراحة باعتبارها مقياسا مقبلا للتقدم، تستطيع أن تطول أكثر بتدبير جيد لما هو بين أيدينا الآن، ففي العديد من الدول، نمت الإدارات بشكل لافت للنظر، وأصبح عدد الموظفين هاجسا في حد ذاته، وكل الاختلالات تنسب إلى هذا العدد ولو تعلق الأمر بنظام السير وضوابط البيئة السليمة، وبناء على ذلك، ليس هناك حل آخر لهذه الاختلالات أحسن مما يتيحه الإبداع في العطل. لنتصور أن إدارة عمومية تعمل بنظام الأفواج، فوج من الموظفين يشتغل صباحا، وفوج آخر يشتغل بعد الظهر، وفوج ثالث يعمل ليلا عند الاقتضاء، لنعمم هذا التصور على كل القطاعات وسنرى أن النتيجة مفيدة للجميع بمن فيهم علماء البيئة، وبوصفها كذلك، فإنها قد تجعل تقنية التوقيت المستمر، الشامل للكل في نفس الوقت، مجرد ذكرى من ذكريات التدبير التقليدي. سيؤدي التناوب على المكاتب إلى شفافية حقيقية وإلى مردودية أكبر عندما نتوفر على أدوات قياسها بالملموس، وحتى عند غياب هذه الأدوات، ستكون هناك مردودية بمقاييس علم النفس الحضري وعلوم أخرى، أو على الأقل بمعايير آبائنا التلاميذ، أولئك الذين يقدرون جيدا معنى أن يكون الشخص في عطلة، وأولئك الذين بإمكانهم أن يقاوموا التشدد في التوقيت بكل الصيغ المتاحة..
إلا أن كل ما سبق لن يرقى إلى إعفائنا من إبداع على صعيد آخر وأهم، علاقة بين مدارس خصوصية وقطاع خاص مشغل يأخذ ويعطي.
هذان المجالان يشتركان في كثير من النقط، فإصلاح نظام التربية والتكوين هو الجسر إلى إصلاح الإدارة، وحقوق الإنسان هي أولا حقوق الطفل في معارف تؤهله لتبادل الثقة مع الإدارة والدولة.
بقلم الدكتور يونس العمراني
|
|
3750 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|