كان هناك احتمال وجودي بخصوص أن نكون أو لا نكون، فما المشكلة إذن؟ وحين وجدنا، كانت الاحتمالات عديدة ومتشعبة؛ بين أن نكون يساريين متجدرين أو يمينيين متطرفين، أو لنقل متوسطين بادعاء نوع من الاعتدال. وبين أن نكون منغلقين أو منفتحين، أو لنفترض مدعين لنوع من التوازن بينهما. وبين أن نكون معتقدين أو متحررين من الاعتقاد، أو لنقل في المنزلة بين المنزلتين، وبين أن نكون منتمين لهذه الجهة أو تلك، أو لنقل موفِّقين لما بين الجهتين. لكن القاعدة ـ في كل هذه الأمور ـ هي انتماؤنا لهذا الوطن. المفروض، أن نفضل انتماءنا لهذا الوطن، قبل غيره من الانتماءات، لأن الإدراك يأخذنا إلى هذه الرقعة التي أحببناها ولا زلنا، والوعي يحذرنا من قتل جدوة الأمل فينا وحماسة الطموح. فنحن، وعلى الرغم من اختلاف انتماءاتنا ـ في نهاية المطاف ـ أناس راغبون في عيش يحفظ الكرامة دون قيد، والمساواة دون تمييز، ويوفر ـ حسب الإمكان التاريخي والحضاري والقيمي ـ أجواء التضامن والتسامح لا أقل ولا أكثر. ولنكن مستوعبين جيدا أننا لم نولد كي نكون مستعدين لفقدان جمالية هذه الحياة، أو التفريط في شروط التشبث بالرغبة في البقاء، أو التعرض للأذى والضرر، بسبب تصرفات غير مسؤولة، أو بسبب أخطاء غير مقبولة، ولا قابلين لأن تكون انتماءات ما دون الوطن على هذا القدر من الصفاقة كي تضيِّق علينا مساحات الاستمتاع برحابة وسعة رقعة هذا الوطن. لم نرضع من أثداء أمهاتنا، ولم نقتد بآبائنا وأجدادنا، ولم ننهل من مناهج وبرامج مدارسنا، ولم نخلص في تجارب حياتنا، ولم نتلاقح مع باقي حضارات وثقافات عالمنا، إلا لنوثق لعلاقاتنا وتفاعلاتنا ـ قبل تاريخنا طبعا ـ بذاك القدر اللازم من الجهد والعمل الشاق للوصول بنا وبوطننا إلى القمة، أو الاقتراب منها على أقل تقدير. فقد علمتنا الحياة بأن الاهتمام ينبغي أن ينصب على الأهم قبل المهم، والمهم قبل الأقل أهمية، أما التافه من الأمور ـ سواء في غيرنا أو فينا ـ فشأنه مكفول للزمن، فهو الشافي والكافي لمن ولما لا إجابة له في لحظتنا. في حالتنا الوطنية: أَمِنَ الضرورة أن نكون على قدر من القبح والتسلط والتنكر والإيذاء كي ندخل معترك السياسة؟ فكم هي كلفة التنازلات التي تلزم البعض منا، فقط كي نُمَتِّع الناس بحقوقهم؟ وكم هو الجهد الذي يلزم البعض منا، فقط لنقدر الناس ونحترمهم؟ وما الذي يلزم البعض منا، فقط لنمكن الناس من حرياتهم؟ وكم يحتاج البعض منا ـ في الأخير ـ من تواضع، لبلورة الخطط والبرامج والوقت والوسائل فقط لنتخلص من آفة قمع الناس وإرهابهم؟ يحكي التاريخ البشري، أن هناك من الناس من على أيديهم كان ما كان للشعوب والأمم والحضارات من ارتقاء، ويعوَّل عليهم في التشييد والبناء، فهم أهل للفخر والاقتداء، وعلى قدر كبير من التقدير والاحترام والاهتداء. وهناك من لا يقتات سوى على فتات الموائد، ولا يرتاح سوى للندب والعويل بعيدا أو قريبا من المراقد، ولا يطمئن سوى للركوب على النجاحات لما لها من "الفوائد"، وهم بذلك أتفه من أن يذكروا ـ ولو من باب أسباب التدهور والانحطاط ـ في دروس التاريخ الحديث والبائد. ونحن إن احتجنا أو أردنا أن نسأل عن الأفعال، فما علينا سوى بالبناة. أما تنميق الكلام، وهندسة الخطاب، وتجميل قاعات العرض، وتزيين فضاءات التصوير والتوثيق، من أجل التبريز والسطو على الإنجازات، فقد خلصنا إلى أنه اختصاص أهل التفاهات وأصحاب التوريط والتأزيم لأوضاع الشعوب وإدخالها في أنفاق المجاهيل. كم يكفينا من الوقت؟ وكم يلزمنا من إمكانات وإمكانيات؟ على الأقل للخروج من متاهة الدوران في حلقات هذا المسلسل المليء بأقبح وأبشع أنواع الأذى، التي ما طالت أحدا منا إلا وجرحته، وما جرحت منا أحدا إلا لتترك آثار الندوب على وجوه أفراد عشيرته. ونحن ما فتئنا التوصل ـ في الحديث من تاريخنا ـ إلى نسج خيوط وألوان مصالحة معطرة بعبق خلاصة "حتى لا يتكرر ما جرى". ألهذا الحد يمكن للرأي أن يكون جارحا؟ أوليس في الحياة من وحدة قياس تزن مدى القدرة على تهذيب الموقف؟ ألهذا الحد من العراء وصلنا في وطن تمنينا منذ الأزل أن يظلنا بظله؟ أوليس في العقلاء منا طاقة تفجر احتمالية رسم خط قد يستقيم بين اختلاف الرأي والاعتراف بالآخر والإنصات للجميع والتعبير عن المشترك فيما يخص الوجود وطريقة العيش وسبيل الرفاه؟ ألا يقتضي انتماؤنا لهذا الوطن أن نفكك كل أشكال الطائفية فينا، ونفرق أفراد طوائفنا لنجعلهم متحدين في طائفية هذه الوطن؟ ألا يمكننا التوجه إلى هذا النوع الإنساني من الوحدة الوطنية بقلوبنا الخاشعة؟ أليس في المؤمنات والمؤمنين بالشرائع والنواميس والقوانين والأعراف من يتعقل لإيقاف هذا النزيف الذي يؤذي أقوياءنا قبل الضعفاء فينا؟ يتأكد لنا اليوم، أن الدعوة إلى الله والاقتصاد الحر ودولة التخطيط والتوجيه تفعل فعلها العاطفي في حشد الجمهور والشيعة والأنصار والجيوش الانكشارية، وتملأ سماء وطننا بالمزيد من الغموض والخلط، وتنفث سموم التلقيح لتخصيب بذور التفقير والتهميش والجهل والتخلف والتخدير، كي تستمر محتفظة بمحتواها الهلامي، وكأنها حقائق نهائية ثابتة. وها نحن ندرك أكثر مما فرط من العقود، أن الأزمة في ذواتنا، في دواخلنا، في عشوائية بناء مشاعرنا وأحاسيسنا ونسج إيقاع علاقاتنا وتفاعلاتنا، وليست في اقتصادنا ولا في سياستنا، ولا في عوامل التعرية التي فضحت كل ما هو مشوه فينا، ولا حتى في الكوارث الطبيعية ذات الصلة بالمشيئة الإلهية التي ليتها كانت أرحم وأرأف بنا من هذه الحال التي رسمت خط الاعوجاج فينا. فبما حورب فينا منذ كنا، لم نعد قادرين على التقاط استنتاجات علم العلماء، ولا استيعاب حكم الحكماء، ولا الاهتداء بتقديرات العقلاء، ونخشى أن يكون ما يجري فينا من أقوال وأفعال مما يصدق في حقه مضمون الدعاء القرآني: "اللهم لا تؤاخذنا بما فعل السفهاء منا". ولهذا ما أروعنا إن رددنا مع الشاعر قوله: "أروع ما في حبنا أنه ليس له عقل ولا منطق، أجمل ما في حبنا أنه يمشي على الماء ولا يغرق".
تعليقات الزوّار
الآراء الواردة في التعليقات تعبر عن آراء أصحابها
1- من أجل كتابة حقيقية
الحاجة لطيفةو
خطاكم أيها الشعراء تستشهدون بمقالات ليست لها دلالات ومعاني حقيقية فبالحرى أن تكون صحيحة بدلك يكون النثر أو الكتابة من أجل الكتابة والصراع مع الآخر مجانا لا قيمة له في وطن غني عنكم وعن خيركم .لدلك الشعراء الموسم بين يموتون قبل غيرهم.