ليبيا: أعيدوا لنا بومنيار
أتذكر أنني جرجرت يوما إلى المحاكم في المغرب من طرف القائمين بالمصالح الليبيبة أيام الجماهيرية والعقيد معمر القذافي، لأنني وصفت بومنيار زعيم ثورة الفاتح المغلوقة بأنه "مضحك" (فقط لاغير). اليوم أنا نادم أشد الندم على ذلك الوصف، الذي أغاظ العقيد المقتول من طرف الليبيين ودفعه إلى تسخير من كانوا يقومون له بالواجبات هنا في الرباط إلى مقاضاتي، إذ أعترف أن ضحك الرجل أهون بكثير من حالة التشرذم التي ترك عليها ليبيا والتي تجد صداها في القتال المبكي الدائر بين الليبيين والليبييين من أجل نصرة…ليبيا للأسف الشديد
اليوم القطر هناك موزع بين الحفتريين وبين السراجيين، أو لنقل بين الإماراتيين والسعوديين من جهة وبين القطريين والأتراك من جهة ثانية. الدول العظمى هي الأخرى تبحث عما يمكن أن تضعه تحت ضرسها من بترول ليبيا الكثير، والفرنسيون والأمريكان والبريطانيون - الذين يريدون الخروج من أوربا لكن يريدون دخول ليبيبا للمفارقة الرائعة - بالإضافة إلى الروس الذين يمنعون كل قرارات مجلس الأمن، يتخيلون شكل استفادتهم من كل هذا الخير المدفون تحت أرض لا يمتلك أهلها عقلا واعيا قادرا على جعلهم يستوعبون قيمتها ويستوعبون ما هو أهم من هاته القيمة: يستوعبون حرمة دمائهم على بعضهم البعض
الأكثر حزنا لمن يتابع المشهد الليبي المقيت اليوم هو أن تشاهد الحفتريين يقصفون بالطائرات وهم يصرخون "الله أكبر"، فيما السراجيون يردون بمضادات الصواريخ وهم يصرخون أيضا "الله أكبر".
إله من الأكبر بين الفئتين؟؟؟؟
الله الحقيقي، الواحد الأحد، ذلك الذي نعبده، هو الأعلم بأنهما معا ضالان تائهان، يقتلان بعضيهما بكل غباء الكون ويكبران تكبيرا كاذبا، يراد به فقط منح الشرعية لكل الإجرام الذي يمارسانه في حق نفسيهما.
فقط لا غير…
السودان: الانتظار وبس !
في الخرطوم يجلس المعتصمون قبالة مقر قيادة الجيش. ينتظرون أن يخرج لهم رجل يشبه السيسي في مصر أو يشبه القايد صالح في الجزائر لكي يقول لهم "هيا بنا، لنسقط الرئيس". يطول الاعتصام ويفقد الأمن هناك أعصابه ويشرع في إطلاق الرصاص الحي على المعتصمين. يموت من يموت، ثم يعود المعتصم إلى انعقاده مع توسيع الدائرة الأمنية حول قيادة الجيش، ومع تحذيرات لا تنفك تتزايد أن الدولة هناك - والقصد بها عمر حسن البشير - لن تصبر كثيرا على حالة الانفلات ولن تقبل بها
من يتابعون الشأن السوداني منذ سنوات عديدة عن قرب يعرفون أن البشير كان رجلا صالحا ذات يوم، أتى إلى الحكم على ظهر شعارات إسلاموية كثيرة. كان هو أيضا من الذين يصرخون "الله أكبر" بمناسبة وبدونها، وكان يغني الأناشيد الإسلامية في الساحات رفقة شباب الصحوة، وكان يستضيف أناسا لطفاء للغاية على أرض السودان مثل ابن لادن أو كارلوس أو غيرهما، وكان يقول للسودانيين إنه أتى لكي يعيد الشريعة الإسلامية ولكي يحكم بما أمر الله ولكي يقود من الخرطوم أمة الإسلام نحو الصلح مع دينها
ثلاثون سنة ونيف منذ ابتدأت تلك الشعارات هناك يقف الأهل في الخرطوم عاجزين عن تخيل الدنيا دون البشير
في السودان شباب ولدوا والبشير يحكم، وهم اليوم في الثلاثين من العمر لا يتصورون أنه من الممكن أن يحكم البشير رجل آخر غير السودان
الشعارات الإسلامية بقيت شعارات، كالعادة تقريبا. وتطبيق الحكم الوحيد الذي أتقنه هذا الرجل ومن معه، هو القبض على خيرات البلد الفلاحي الأكثر اخضرارا في الكون لكي تتحول إلى الحسابات الخاصة، وفرض الصف على الناس لأجل نيل قليل وقود للسيارات في بلد قدرته الطاقية أيضا تمنحه الاكتفاء ويزيد...
فيما عدا ذلك لا شيء، "والو، ناضا"، العدم والهباء والشعارات الكثيرة والتمسك بالكراسي ومراقبة ساحة المعتصم أمام قيادة الجيش، لعل وعسى يبزغ من هناك ماريشال مثل السيسي أو جنرال مثل القايد صالح يبشر الشباب مرة أخرى في عالنا العربي أن الحل يأتي من طرف الشياب وكفى
وفي هاته الأثناء…
وفي هاته الأثناء تجري انتخابات ديمقراطية في إسرائيل، ينافس فيها الليكود بقية خصومه وعينه على عهدة خامسة لنتنياهو شبيهة إلى حد ما بعهدة بوتفليقة الخامسة التي لم تتم…
الفرق الوحيد هنا هو أن عهدة بنيامين إن تمت ستكون بصناديق الاقتراع وبالاستماع لأصوات الإسرائيليين وهم ينتخبون. عهدة العالم العربي الحزين يلزمها مسيرات دموية عديدة ومعتصمات واعتصامات، ورصاص حي كثير وقتال مضحك بين أطراف كلها تصيح "الله أكبر" بكل ذهول وتستكين، وقنوات تلفزيونية تتفنن في سب بعضها البعض أكثر مما تتفنن في سب عدوها الرئيسي.
مهلا…هل قلنا عدوها الرئيسي؟ هل نعي جيدا هاته الكلمة اليوم؟ هل لدينا عدو رئيسي مشترك؟
قطعا لا، هذه كذبة كبرى قيلت لأجيال قبلنا صدقتها بكل الغباء الممكن. اليوم اتضح أن الأشياء أصبحت تصفي نفسها بنفسها. فهم العرب أخيرا أنه من العيب أن يتصرفوا مع العالم كله باعتبارهم عربا. اليوم على كل بلد أن يفهم مصالحه أين هي، وأن يستوعب مساراته إلى أين ستؤدي به، وعليه أساسا أن يدخل إلى ذهنه مسلمة بسيطة وبديهية أبسط: ليست هناك أمة عربية
هناك دول عليها أن تدبر أمر مصالحها، وفق شراكاتها الخاصة ووفق ماتراه مناسبا لها، وبانفصال تام عن الشعارات البليدة التي عطلت هاته الدول كل هذا الوقت دون أي فائدة تذكر.
علينا أن نكون أكثر شجاعة في الدفاع عن مصالحنا الوطنية الخاصة، أن نرى أين يوجد الخير وأن نتبعه، وأن نراقب جيدا الشر وأن نغني له وأن نبتعد عنه مثلما يقول المثل المصري صادقا إلى أبعد الحدود
أحيانا يكون من باب الإدمان على الغباء والإصرار على البلادة أن ترى مصلحتك وأن تهرب منها، وأن ترى بالمقابل هوانك والسلبيات وأن تواصل التمسك بها وأنت تغني المحفوظات والأناشيد وترتل الشعارات.
أحيانا لابد مما ليس منه بد، وهذا الذي ليس منه بد قادم وهو أقرب إلينا من حبل الوريد لمن ألقى السمع وهو شهيد طبعا، ومن يعش…ير.