لقد سبق أن أبنت عن تهافت خطاب المظلومية في قضية الأمازيغية ،وأدليت بالتاريخ المغربي القديم والحديث؛حيث قامت للأمازيغ دول ارتقت إلى إمبراطوريات،ذات اشتغال حضاري – وليس عسكريا فقط- قدم الكثير للإنسانية في مختلف المجالات المعرفية،السياسية،الاقتصادية والمعمارية ؛دون أن يسائل اللغة الحاملة ؛ليس فقط لأن العربية كان لها حضور علمي ،لايضاهى ؛وليس لأن رحال العالم المسيحي ،وقتها، كانت تُشد إلى مراكز تعلمها ،حيثما تواجدت،وبمباركة البابا أحيانا؛بل لأن نفوس ملوك الأمازيغ ،وأمرائهم وعلمائهم، لم تكن تُضمر أي حقد للغة الدين والحضارة،يجعلهم – على غرار هوس الغلاة اليوم- يغيرون اللسان الحي الوافد، باللسان المحلي الراقد ،معرفيا،والحاضر ثقافيا.
لو طغت اللغة العربية واستبدت وأكرهت –حال وفادتها- لتحطمت وتمزغت،عن بكرة مصادرها ومعاجمها ؛وما كان هذا ليُعجز رجالا كيوسف بن تاشفين ،محمد بن تومرت،وعبد المومن بن علي وآخرين.
في كل ما عابه الداعية الموحدي ،المتشدد، ابن تومرت ،على المرابطين لا ذكر لغير فساد المُلك والخُلُق واستبداد النساء.لا ذكر لأي مظلومية لغوية،نابعة –مثلا – من موافقة المرابطين للأدارسة على لسان الدولة العربي. بل حتى المولى إدريس الأكبر لم يلتفت في خطبة التأسيس والبيعة إلى الأمازيغية التي بايعته ،وبايعت لسانه ،عن بكرة حروفها ؛كأن يُفعل دبلوماسية لغوية تجعله – مثلا – يعد بالتمزيغ رديفا للتعريب .
لقد كان الرجل مستضعفا ،مهيض الجناح،مطاردا من أقوى دول الأرض وقتها (الخلافة العباسية)؛ولم يكن ليرفض مطلبا بتمزيغ دولته ،اعتبارا لجغرافيتها ؛كما يطالب أحد الغلاة اليوم،متهما كل المغاربة بالشذوذ الجنسي.
بل لم يكن ليرفض حتى الإكراه (الأوْربي) على تعلم لسان مازغ ،ليستقيم له الملك .لم ينتبه شيخ الغلاة لهذا الواقع الموثق تاريخيا ،فطالب ملك المغرب بأن يُعلم ولي عهده الأمازيغية ؛حتى لا يخطب في أعياد العرش إلا بها ؛مادامت حتى طيور المغرب لاتشدوا إلا بها.
يضاف إلى هذا التاريخ كله ،والذي باعه الغلاة اليوم بحفنة من رموز صخرية ،ولدت ميتة في صحراء الطوارق ؛بشهادة دهاقنة الاستعمار، من الاثنوغرافيين واللغويين ؛مفارقة لغوية ،لا يبحث فيها الغلاة ،بحثهم في الهوية ، لأنها حُجة عليهم.يتعلق الأمر بالعطاء اللغوي الأمازيغي الباذخ في مجال تقعيد العربية الفصحى.
لا أرى هذا إلا تكملة لصفاء الطوية من أي حقد لغوي ؛نراه اليوم وحشا أسطوريا يخبط خبط عشواء. لقد قتل الغلاة كل هذه المَلَكة التي بز فيها الأمازيغ غيرهم ؛دون أن يتصدى المختصون لتفسيرها؛خصوصا حينما يتحدثون عن فلسفة بالأمازيغة،فيزياء بالأمازيغية ،رياضيات ، موسيقى..وما شئت من الأماني الحلوة التي نتمناها جميعا.
لا ننتظر منهم أن يشرحوا لنا هذه الظاهرة ،كما لا ننتظر منهم أن يفسروا لنا البيعة التي خُص بها حتى لسان المولى إدريس،دون أي شرط؛لأن أجندتهم أصبحت واضحة للجميع ؛جُبَّ منها كل ما يُقوي اللُّحمة ،ويقوي الجسور القائمة بين اللسانين؛بدءا من الحرف العربي الذي ينظر إليه وكأنه نجِس ،وانتهاء حتى بأمازيغيات الجهات والقبائل، التي غدت ،بحكم التساكن والتلاقح ،مفهومة حتى لغير الناطقين بها من عربي اللسان؛كما غدت مستعملة – بشهادتهم – حتى ضمن دوارج الجهات.
صادر الريع الاركامي، الذي مُتعت به بعض الجهات دون غيرها ،كل الأمازيغيات لفائدة البنك اللغوي السوسي.
خسر أمازيغ الجهات ،وخسر من معهم أمازيغيات تعلموها خارج المؤسسات التعليمية ،وخارج فزاعة تفناغ التي يُهدَّدُ بها ،مستقبلا، كلُّ من رام وظائف الدولة. لا حَظ لمن لم يأت بها مُشَعَّرة ،معرورقة، كما أرادها الطوارق في أحد عشر حرفا؛وأرادها الغلاة مزيدة ومنقحة .
لا يحتاج الأمر لكثير من البحث لنتأكد من القطيعة التي أحدثها الريع الاركامي في مسار الاشتغال الأمازيغي باللغة العربية ؛كما جرت به الأيام،ورحلت به المطايا وفاخرت به الدول الأمازيغية،اختيارا وليس إجبارا. ابحثوا في كل التراث العلمي المريني ،كما راكمته المدارس المرينية،وغيرها ؛ وأعمدة المساجد ،في فاس وغير فاس ؛فلن تجدوا ولو عمودا واحدا ،أو مخطوطا واحدا، يمكن أن يعتبر سندا للعمل الاركامي الحالي .
كل ما يمكن أن تدلي به هذه المؤسسة الريعية ،كسند معرفي،هو المرجعية الاستعمارية التي أكملت في المغرب ما بدأته في الجزائر=معهد الدراسات البربرية.
وكل أدائها المزدوج –الرسمي وغير الرسمي – يؤكد أن الاشتغال على تقوية الرباط اللساني ،العربي والأمازيغي،هو آخر همومها؛في خروج صريح حتى عن الظهير الملكي المؤسس. لقد تم الانقلاب - في إسقاط فاضح لأبسط أشكال الاعتراف بالجميل-على الحرف العربي للظهير،وقبله القرآن ؛وبلغ الأمر منتهاه بمطالبة الجالس على العرش – حرقا لغير قليل من المراحل- بجعل الأمازيغية لسان البلاط ،والخطب الملكية.
وقبل هذا سقطت من واسع اهتمام الغلاة كل المخطوطات الأمازيغية التي اعتمدت الحرف العربي، في مجال فقه المعاملات والعبادات،وغيرهما.
وليس من يشتغل على إغلاق الأمازيغية في وجه المغاربة، بما اتفق من رسوم حجرية، كمن يشتغل على فتحها لهم ،ولغيرهم من العرب، بحرفهم .
قبل الطوفان:
ان تاريخ المغاربة خال من أي منزع اثني عنصري ؛بفضل التكامل بين اللسانين المغربيين ،في التعبير عن عطاء المغاربة ،ضمن الأمم .عطاء اختلط فيه التراث العالِم بالتراث الثقافي الاجتماعي.
إذا اتفقنا على هذا الطرح فيجب تغييب كل صوت يقول بخلافه؛ويزعم أنه يتحدث باسم كل الأمازيغ ؛وهم منه براء .
يعرف كل من يعيش الواقع المغربي ،كما هو ،أن حاجيات المواطنين وانتظار اتهم من حكوماتهم – في البوادي كما في المدن- واحدة ؛وليس منها ما يخص الأمازيغ فقط أو العرب فقط.
إن دسترة الأمازيغية لا يمكن أن تدخل ضمن الخاص الذي يشتغل لفئة دون أخرى ؛بل ضمن العام الذي يهم الجميع .
من هنا يجب في كل قانون يروم التنزيل السليم لهذه الدسترة أن يراعي العام وليس الخاص. بمعنى بناء قانون لا يزرع ولو حبة خرذل من تمييز أو فرقة أو كراهية.
( قانون لا يبتل ولو ألقي في الماء).
من حروف الكراهية، الإكراه والإجبار على تعلم اللسان.الإكراه لم يرتضه الله تعالى حتى لدينه. الإكراه ظلم وقد حرمه الله تعالى على نفسه ،وجعله حراما بيننا.
ومن حروف الكراهية داخل الجسم الأمازيغي اصطناع لغة مخبرية لقتل لغات القبائل.
ومن حروفها أيضا تعليم الناس ما لا يفيدهم،تنمويا، في حاضرهم وغدهم؛سواء أتى من جهة العربية –كما هو شأن بعض البرامج العقيمة- أو من جهة الأمازيغية.
ومن حروف التمييز أن يمارس الغلاة نقيض كلامهم ومناداتهم. ينشطون في البحث لأبناهم عن منح في الخارج ،ويوجهونهم صوب الرقي اللغوي والعلمي والاجتماعي ؛في الوقت الذي يخدعون الأمازيغ بجنة أمازيغية مغربية، من حروف ،نقود،وثائق إدارية،أسماء مؤسسات ومواليد .
إن الدسترة تَجُبُّ ما قبلها ،وترفع الشأن الأمازيغي الى ما فوق الريع الاركامي الذي أوغل في المحاباة؛ومن هنا ضرورة إبعاد أغلب ما اشتغلت عليه هذه المؤسسة -خصوصا في قضية المعيرة والحرف- عن المستندات التي سيعتمدها التنزيل.
يقتضي الأمر حذرا كبيرا، ويتطلب لجنة محايدة ؛تنصف جميع الجهات والقبائل. لا يعقل أن نبني قوانين محكمة للتدبير الجهوي المتقدم ؛وفي نفس الوقت نلغم الجهات لغويا وثقافيا.
يجب التفكير في المعيرة الجهوية ،وتشكيل لجان متخصصة لهذا الغرض.
إن ما قد يبدو – اليوم - ثانويا، متحكَّما فيه ،أو مُسكتا لأصوات ،ومرضيا لمطالب ؛قد لا يغدوا كذلك غدا ؛حينما يُفعل ميدانيا،ويُتخذ مطية لتحقيق أغراض أخرى.
خير مثال مرسوم فصل التوظيف عن التكوين،الذي أوقعت فيه الحكومة نفسها، بكيفية غبية جدا.
قانون الأمازيغية حمال مكاره اجتماعية عديدة، إن لم تشمر فيه الدولة على حكمتها وحنكتها وترويها؛وان لم تدرس الواقع الثقافي واللغوي ،بعيدا عن غلو الغلاة.
وهو أيضا حمال آمال ورهانات ومناشط عديدة للمغاربة ،إن سار في اتجاه الجمع والضم وتكريس التنوع الايجابي.
وحتى لا ننتج – غدا - أمازيغ كالذين احتفلوا في الخارج ،بدون عَلَمِ الوطن ،علينا أن نحتاط لكل شيء.
رمضان مصباح الإدريسي
Ramdane3.ahlablog.com