طه لمخير
من كان يتصور أن الجماعات الإسلامية ورجالات التكفير والإرهاب الذين كانوا غداة تفجيرات الحادي عشر من سبتمبر منبوذين وملاحقين في العالم أجمع، سيجلسون اليوم تحت سقف واحد، واضعين رجلا على رجل يحتسون الشاي مع نصف دستة من الديمقراطيين من أعضاء مجلس النواب الأمريكي؟!
هذا ما حدث بالفعل تحت مظلة منتدى الدوحة الأخير.
يطرح جوردان شاتيل رئيس تحرير موقع the dossier سؤالا على الرأي العام الأمريكي: من مول رحلة هؤلاء الأعضاء الديمقراطيين إلى الدوحة في جنح الليل لقضاء عطلة نهاية أسبوع مشبوهة؟ لماذا لم نعرف الخبر إلا من خلال قصاصة يتيمة نشرتها وكالة الأنباء القطرية عن زيارة الوفد الديمقراطي الرفيع المستوى؟
ليس هذا الشرود السياسي الذي جعل الصحفي الأمريكي يستنكر تلك الزيارة المشبوهة في ظرف دولي يشهد استقطابا حادا و تشير فيه أصابع الاتهام إلى قطر صراحة بتمويل الإرهاب وإيواء المتطرفين، إلا حلقة في سلسلة من الحلقات التي تظهر حجم الاختراقات النوعية التي حققتها المشيخة على مستويات عليا في الفترة الأخيرة.
فمن كان يتصور أن صحيفة عريقة مثل الواشنطن بوست ستتحول إلى بوق للإسلام السياسي تنشر مقالات بأقلام أشد الإسلاميين عداء للديمقراطية، وفي عقر الولايات المتحدة التي تسبب هذا التيار الديماغوجي ذاته في مقتل ثلاثة آلاف من مواطنيها الأبرياء في هجومات برجي التجارة العالمية.. وكانت قناة الإسلاميين الأشهر "الجزيرة" هي الوحيدة التي تلقت الشريط الذي يعترف فيه أسامة بن لادن بمسؤوليته على الهجمات؟
كانت سبقا صحفيا، هدية ثمينة من زعيم تنظيم القاعدة، عربون شكر وامتنان على خدمات قطر الجليلة للإرهاب، والدعاية الرومانسية البليغة التي مررها الصحفي يسري فودة (ببراعة) من خلال برنامجه "سري للغاية" حتى يكاد يختلط على المشاهد: هل المحقق الصحفي يبكي الضحية أم الجلاد!
لكن هل يبرر لصحيفة واشنطن بوست رغبتها في الثأر من النظام السعودي لاغتياله أحد كتاب الرأي لديها لكي تطلق زبانية الإسلاميين المسعورين ينبحون على منبرها الديمقراطي العتيد ؟ هل يبرر لصاحب الضمير الديمقراطي أن يجعل من مسلاخه جلدا لطبل الأيديولوجية الكليانية ؟
من كان يظن أن أحد أقدم مراكز البحوث في العالم "معهد كارنيجي" أصبح يتلقى دعما رسميا من المشيخة القطرية حتى يؤثر في صناع القرار في واشنطن لتبنّي سياسات داعمة لأنشطة الإخوان المسلمين في الشرق الأوسط؟
(انظر في هذا الصدد البيان الصحفي للباحثة سينثيا فرحات عن منتدى الشرق الأوسط في واشنطن، حيث ذكرت فرحات بأن قطر تمول علنا معهد كارنيجي الذي قام بعقد منتدى دولي للدراسات تحت عنوان: قطر تركيا نحو رؤية إستراتيجية لسياسات الدفاع المشتركة والأزمات الإقليمية، وذلك بالتعاون مع مركز القوات المسلحة القطرية للدراسات الإستراتيجية، وأصبح المعهد يعد حجر الزاوية لفهم السياسات القطرية التركية في المنطقة)
أين عمرو حمزاوي؟ ألا يكتب مقالاته الشهرية في القدس العربي التابعة لقطر مثله مثل المعطي منجب؟ أين يكتب علي أنوزلا؟ أليس في مدونات الجزيرة منبر الإسلاميين المفضل؟ أين كان يكتب توفيق بوعشرين؟ أليس على صفحات جريدة العربي الجديد لصاحبها عزمي بشارة مستشار المشيخة القطرية؟ أين يكتب بلال التليدي؟ أليس في موقع عربي 21 القطري الإخواني؟ الخيوط كلها مرتبطة ببعضها، وكل الطرق تؤدي إلى الدوحة.
من هو سليمان الريسوني الكاتب في أخبار اليوم التي يملكها بوعشرين؟ أليس شقيق أحمد الريسوني الداهية الاخواني رئيس الاتحاد العالمي لعلماء المسلمين الذي تموله قطر.. من حصد المركز الثاني في جائزة قطر العالمية لحوار الحضارات؟ أليس إدريس مقبول عضو جماعة العدل والإحسان؟ من تتبع الخبر واحتفى به ونشره؟ أليس "موقع هوية" السلفي الجهادي؟ يمكن أن نمضي هكذا في سل الخيوط الناظمة للأسماء والمراكز والمؤسسات والأحداث إلى آخر إسلامي في أمعاء آخر أمير.. كلها تنتظم في سلالة واحدة تعمل لغاية واحدة.
ألم تخصص قطر مبلغا قدره 20 مليون دولار سنويا لحملات جماعات الضغط وسياسة الأروقة، واستهداف شخصيات أمريكية وازنة ومؤثرة ومنظمات ومسؤولين بدينامية تصاحبها نشاطات استثمارية بالمليارات في مجالات الصناعة وإنشاء الشركات للتأثير على القرار السياسي في واشنطن لصالح تيارات الإسلام السياسي، وبالخصوص جماعة الإخوان المسلمين.
ونحن نتابع التطورات على الساحة الدولية فعيننا على الساحة الوطنية التي تغلي بأنشطة الإسلاميين المعادية لاستقرار الوطن وسلامة أراضيه، ولها اتصالات مباشرة بدوائر الاستعلامات والإستراتيجية القطرية والتركية والتنظيم الدولي للإخوان المسلمين.
ونؤكد مرة أخرى على خطورة الشيخ أحمد الريسوني على الأمن القومي المغربي، إذ أضحى عنصرا بالغ الضرر، وتنقلاته المشبوهة غدوا ورواحاً بين قطر وتركيا والمغرب كضابط اتصال تتطلب حذرا ويقظة أمنية ورقابة مشددة على أنشطته التي تتخذ مظلات تبشيرية ودعوية.
حسب موقع conservative review فإن منتدى الدوحة بالإضافة لاستضافته لهؤلاء الستة من نخبة الطبقة السياسية المؤثرة بشكل مباشر على سياسات الولايات المتحدة الخارجية ، نجد أن المنتدى كان يعج بأعداد هائلة من النشطاء الإسلاميين الراديكاليين وقادة دول لها علاقة وطيدة بدعم الإرهاب، من بينهم وزير الخارجية الإيراني جواد ظريف، وبيرت البيرق صهر الديكتاتور التركي اردوغان أحد كبار الداعمين لتنظيم داعش، والذي زود التنظيم بشكل غير مباشر بأنابيب النفط.
وحسب موقع مجموعة الدراسات الأمنية الأمريكي SSG فإن من المشاركين في المنتدى مركز الأبحاث المعروف bookings institution إلى جانب مدراء تنفيذيين رفيعي المستوى من مركز المصلحة الوطنية center for national interest ، ومعهد واشنطن لسياسات الشرق الأدنى وكلاهما بدأ يتخذ مواقف تميل للجانب القطري في الشهور الأخيرة. أما مجموعة الأزمة الدوليةinternational crisis group فمنحها المنتدى منصب الشريك الاستراتيجي ووضع اللوغو الخاص بها على موقعه الالكتروني.
أليس عجيبا أن تكون هذه المجموعة التي كانت مسؤولة على الإستراتيجية الأمنية لمحاربة داعش في عهد أوباما، هي نفسها الشريك الاستراتيجي مع دولة تشير القرائن المتظافرة وتقارير مراسلات هيلاري كلينتون التي نشرها ويكيليكس، وتصريحات المسؤولين الأمريكيين بمن فيهم الرئيس الأمريكي الحالي نفسه على ضلوعها في تمويل التنظيم ذاته؟ ألم تتخذ طالبان مكتبها السياسي في الدوحة لأنها تعلم أن المشيخة بيئة خصبة ومرحبة بالإسلاميين؟ ألم ينصح بن لادن ابنه حمزة بالإقامة في قطر استعدادا لوراثته؟
ألم يدهش فؤاد عجمي مراسل النيويورك تايمز حسب موقعnews breitbart مما رَآه في ستوديوهات قناة الجزيرة عندما أرسلته صحيفته إلى الدوحة غداة الحادي عشر من سبتمبر وقال يصف المشهد : "صور ابن لادن في القناة تمنحه طابع الزعامة، هنا ابن لادن جالسا على حصير وعلى حجره رشاشه، وهنا ابن لادن يمتطي صهوة فرسه في أفغانستان، فارس العالم العربي المغوار، وفِي خلفية أستوديو القناة الرئيسي علق بوستر ضخم لصورة ظلية ذات جاذبية رائعة لابن لادن".
أليس غريبا بعد كل هذا أن يتلقى الأمين العام للأمم المتحدة بجلالة قدره في منتدى الدوحة صدقة من المشيخة قدرها500 مليون دولار لتمويل منظمات الأمم المتحدة لتحقيق التنمية المستدامة ومكافحة الإرهاب!! ما هذا الهراء، تمول الإرهاب باليمنى وتكافحه باليسرى!
لقد نجح القطريون في اختراق المنظومة الحقوقية والأكاديمية والإعلامية الغربية التي هي بوصلة القرارات السياسية والتشريعات الدولية، وتمكنوا بقدر غير يسير من حرف نظر الغربيين عن الخطر الإيديولوجي لتشكيلات الإسلام السياسي، بل واستطاعوا إقناع فئات عريضة منهم من مختلف المجالات بشكل من الأشكال أن هذا التيار الفاشي يمكن أن يكون بديلا ديمقراطيا للحكم.
باتت الدويلة تتلاعب كما تشاء بدهاقنة السياسة العالمية بشكل ليس له مثيل، مسلحة بشبكة واسعة من المثقفين وأساتذة الجامعات العريقة وصحفيين ذوي سمعة ونشطاء حقوق الإنسان ومراكز بحثية وأعمدة مؤثرة في كبريات الصحف الغربية وأقلام المعارضين وكتاب الرأي العرب من مذاهب شتى ومشارب مختلفة… كل أولئك يعملون كخلايا نحل لترسيخ رؤيا طوباوية لسيد قطب سماها معالم في الطريق!!. هل يعقل هذا الجنون؟
إن الأمر حقا لا يصدق لسخافته الشديدة ولضخامة المبالغ المتدفقة على مشروع ينتهي عند أقدام الرعاع والمرضى النفسيين !!
لا يصدق العاقل أن عددا لا يعد من العناصر المتناقضة إيديولوجيا واثنيا ولغويا وثقافيا يجمعها الجشع وخيانة المبادئ والانتهازية وأحيانا السذاجة تخدم بحماس وإخلاص في مواقع الايدولوجيا الإسلامية !!.
هذا دون ذكر الدعم اللامتناهي للقواعد الأصلية نفسها: محاضن التبشير الإيديولوجي، طلائع الدعاة، تايكونات التجنيد الشعبي، قنواتهم ومواقعهم الالكترونية المتطورة وكوادرهم الصحفية والفكرية، وإمبراطورية الدعوة الاسلاموية وأذرعها السياسية..
كل ذلك لأن شيخا من مصر ينتمي لجماعة الإخوان متأثرا بدوغما سيد قطب قدم فارا من سجون عبد الناصر عام 65 إلى مشيخة متخلفة على تخوم الحضارة، لا زالت في فجر دهشتها مما انبثق تحت أقدام الإبل من غاز مسال و مياه سوداء ساخنة لا هي صالحة للشرب ولا للسقي، وأنشأ فيها أول كلية للشريعة، ثم تولى تربية أمراء المشيخة على عقائد الإسلام السياسي التي غذت في نفوس الأسرة الأميرية الحاكمة حلم الخلافة ويوتوبيا الدولة الإسلامية وحاكمية الشريعة في الأرض…
لا نستغرب هذا الشبق القطري للدفع بالإسلاميين إلى صدارة المشهد السياسي على أرتال من الرؤوس المقطوعة إذا نظرنا إلى تاريخ بني العباس وكيف كان أدباء الفرس وحكماؤها يتولون تربية الخلفاء ويشكلون شخصياتهم وانتماءاتهم كما يشاءون..
ورغم كل المأساة وجرائم الإبادة الجماعية للطوائف والاثنيات ومئات الآلاف من اللاجئين والمهجرين وإهدار مستقبل أجيال من شباب المسلمين في مشاريع الإرهاب؛ فإن الأمير القطري المترف يعتبر نفسه يتسلى بلعبة "بلاي ستايشن" يتحكم في شخصياتها عن بعد في حرب شعارها الحرب المقدسة والصراع على النفوذ.
إن الأمر لابد وأن يكون مثيرا لدى المشايخ القطريين وهم جالسون على الأرائك الوتيرة، يحتسون القهوة العربية من أعلى برج يناطح السحاب في الدوحة، ويتابعون الأخبار على شاشة الجزيرة، ويشاهدون كيف هم قادرون فعلا على قلب أنظمة وإطاحة عروش والتنكيل بزعماء وتهجير طوائف وإبادة إثنيات وإغراق العالم المتمدن بهجمات الأحزمة الناسفة وسيارات الدهس العشوائي وعمليات الذئاب المنفردة…
شكلت قطر إمبراطورية معقدة ومتشابكة من الكيانات الدعائية والعقائدية والسياسية والثقافية عابرة للقارات والأيديولوجيات والقناعات الشخصية تشتغل من داخل المنظومة الديمقراطية، و بطرق معقلنة ومتمكنة من الوسائل التكنولوجية، تدير رحى التمكين لأشد الأفكار فاشية وظلامية…
وليست قطر وحدها التي تلعب على الساحة الأيديولوجية، وإن كانت أكثر الفاعلين تأثيرا وأقدرهم على الإنفاق السخي، هناك ربيبتها تركيا وهذه مثل المنشار تستفيد من رباط مقدس مع قطر، وتعقد الصفقات مع إيران وروسيا، وتتغلغل في الأقاليم السورية، وتشن حملة علاقات دولية لاستمالة الأقليات التركمانية في آسيا الوسطى، واستقطاب الطوائف السنية في منطقة الهلال الخصيب، وتدعم الميليشيات المتناحرة في ليبيا، والآن وصل تأثيرها إلى الجارة الجزائر التي باتت قلعة بلا أبواب تعيث فيها القوى الإقليمية كما تشاء !.
ونختم بالسؤال الأغرب:
لماذا يكرم منتدى عبد الرحمن النعيمي المعارض البحريني الراحل السيدة نبيلة منيب في هذا الوقت؟ لماذا تستضيفها قناة الميادين الممولة من إيران والموالية للنظام السوري بالتزامن مع هذا التكريم؟ هل بات لفدرالية اليسار ميل للثورة الإيرانية أو عقائد الإمامية وولاية الفقيه أو دوغمائيات النازية التي يروج لها القومجيون النائمون بين أفخاذ حزب الله؟
أليست السيدة منيب على دراية بأن قناة الميادين التي تمولها طهران الخمينية ويرأسها الشيعي القومجي غسان بن جدو ومديرها العام نايف كرايم المدير السابق لقناة المنار (والتي ليست إلا الوجه الآخر، الوجه الشيعي، للإيديولوجيا الاسلاموية حيث تلتقيان مرة أخرى عند المنبع، سيد قطب، الذي تأثر به الخميني إلى جانب علي شريعتي) على عداء مع الوحدة الترابية للمملكة، وأن المملكة قطعت علاقاتها الدبلوماسية مع طهران بعد أن وفرت الاستخبارات المغربية معلومات دقيقة عن تورط حزب الله في تسليح جبهة البوليساريو؟
ألا يصبح السياسي الوطني مرتهنا لأجندات أجنبية وعرضة للتجنيد على مستويات عليا بمجرد وضع قدمه في الفخ المنصوب هناك في بيروت؟ هل يحتفي الإيرانيون بزعيمة الفدرالية لسواد عيونها وعيون ماركس وتروتسكي؟ أسئلة مفتوحة نتركها للدكتورة نبيلة منيب لتجيب عليها.
الملكية هي الحل