إغلاق الحدود البرية بين المغرب والجزائر جريمة إنسانية بامتياز.
تطرق برنامج "المحققون" على القناة المغربية ميدي 1 تي في، مساء الأربعاء المنصرم، إلى الخسائر الفادحة التي يتكبدها الشعبان الشقيقان، المغربي والجزائري، جراء إغلاق الحدود البرية في شتى المجالات... غير أن ما شدني بتأثر كبير هو المجال الإنساني الخالص الذي ركز البرنامج على إظهاره، حيث استطاع أن يوصل الصورة حية من عين المكان... ومن داخل البيوت... وعلى لسان المتضرّرين أنفسهم... من غير تصنّع ولا "فبركة" وبكل إنصاف وتجرد، دون استعمال أي لغة استعدائية أو رسائل استفزازية أو ما شابه، ممّا زاد البرنامج نجاحا و "المحققين" تألّقا.
هي شهادات حية إذن توالت علينا طيلة البرنامج حُبلى بالعبارات الحزينة والمواقف الإنسانية التي تُمزق الأبدان قبل تمزيق الأوطان...
أنا لا أريد في هذه السطور معالجة موضوع الخسائر الاقتصادية والتنموية، وما إلى ذلك لدى الجانبين خاصة، ولدى المنطقة المغاربية عامة، على أهمية هذه الخسائر والتي يمكن وصفها بالفادحة والكارثية على أقل تقدير... فالمسألة الإنسانية الصِّرْفة طغت على كل جانب آخر مهما كان هامّا وعامّا.
إن تمزيق أسرة واحدة إلى جزأين اثنين، وبين بلدين جارين شقيقين، ومنع جزء منهما من التواصل الجسدي مع الجزء الآخر بسبب إغلاق الحدود لهو جريمة نكراء شرعا وقانونا وعرفا وخلقا... فكيف بتمزيق آلاف الأسر؟ وقد رأينا نماذج منها عيانا، ووقفنا على فصول معاناتها في الواقع المعيش قبل أن تُذَكّرنا به - مشكورة - قناة "ميدي 1 تي في"؟
رأينا وسمعنا كيف يُثني المغاربة المطرودون من الجزائر تعسّفا على أشقائهم الجزائرين، ولمسنا مدى الحب والتقدير الذي كان يجمع الأشقاء على التراب الجزائري... بل إن بعضهم طُرِد من هناك دون أن يشفع له كونه ابن مجاهد مغربي قاتل الفرنسيين من أجل تحرير الجزائر في ذهول من الشعب المغلوب على أمره. بئس الوفاء وفاؤكم ياحكام الجزائر..
أي جُرم اقترفه هؤلاء الناس - مغاربة وجزائريين - حتى يمارَس عليهم هذا القَطْع والقطيعة؟ متى كانت الجنسية المغربية جريمة في حق الشعب الجزائري؟ والعكس صحيح. ومتى تنتهي هذه الفاجعة بين الشعبين وتعود الأرحام إلى صلتها ويعانق الشقيق شقيقه، كما أمر الله عزّ ثناؤه؟ أم نحن في حاجة إلى مسيرة مليونية سلمية من الجانبين لفتح هذه الحدود عنوة وبمباركة العالم كله؟؟؟
اليهود في فلسطين المحتلة والفلسطينيون في القطاع والضفة شعبان عدوان لدودان ومتحاربان... ومع ذلك لا تعرف الحدود ونقط العبور هناك مثل ما تعرفه الحدود المغربية الجزائرية هنا من ويلات...
إن إغلاق الحدود من طرف واحد، وهو الطرف الجزائري، لا يعود ضرره الإنساني على المغاربة وحدهم. فالجزائريون متضرِّرون أيضا ضررا لا يقل عن ضرر إخوانهم هنا. فكيف تعاقب دولة شعبها إنسانيا وتنمويا واجتماعيا ؟ وهل هناك عقابٌ فوق تقطيع أوصال أسَر إرْبا إرْبا، وفصْل بعضها عن بعض كما تُفصل أطراف الجسد الواحد؟ إنها جريمة إنسانية نكراء بامتياز.
أليست المواثيق الدولية الخاصة بحقوق الإنسان تنص على الحق في التنقل والحرية في التواصل؟ ومع كل هذا تتباكى الجزائر على حقوق الإنسان في الصحراء، ولله درّ ملك البلاد وهو يرفض هذه التهمة من قِبَل الجزائر بالذات، وفي هذا المجال تحديدا بسبب ما تقترفه هي من انتهاكات جسيمة في حق الشعب الجزائري برمته قبل حقّ أشقائنا في تندوف. تتحدث دولة الجزائر عن حقوق الإنسان في الصحراء المغربية كما لو كانت هي السويد أو دانمارك ...
من شاهد معي البرنامج المذكور، لا شك أنه لم يلتفت كثيرا إلى الجوانب المادية المترتبة سلبا على إغلاق الحدود. فآلام الأسر الممزقة وصرخاتهم ومناشداتهم لفتح الحدود من جديد، أكبر من كل معالجة اقتصادية وتنموية... ما قيمة المال والأعمال أمام عجْز قريب عن دفن قريبه إذا توفي وهو يُقبَر في مقبرة على مرمى حجر؟ أو أن يَزُفّ زوجا إلى زوج لأن حضرات "الجنرالات" قرروا التمادي في غيّ الإغلاق ومعرّة الظلم والطغيان....
كم هو مؤلم وغير إنساني أن يسافر شخص من وجدة إلى مغنية المجاورة لصلة رحم مثلا، فيضطر للذهاب حتى مطار محمد الخامس بالدار البيضاء جوا أو برا، ومن ثمة جوا إلى مطار الهواري بومدين بالجزائر العاصمة ثم إلى مغنية بَرّا... آلاف الدراهم وساعات من الوقت وحرمان من حمل الأمتعة إلا ما قلّ.... في حين لا تتطلب الرحلة بين المدينتين عبر "زوج بغال" - نقطة العبور - سوى بضع دقائق ودريهمات معدودات... ! قبّح الله العناد...
كم هو مؤلم أيضا أن يضطر شخص لتجاوز الحدود خُفْية وخِيفَة من أجل صلة رحم، أو غير ذلك، معَرّضا نفسه للقتل من طرف الجيش الجزائري أو الحبس في أحسن الأحوال !
متى يعلم حكام الجزائر أن قطع صلة الأرحام هو من الفسق العظيم؟ {وما يُضلُّ به إلا الفاسقين الذين يَنقضون عهد الله من بعد ميثاقه ويَقطعون ما أمر الله به أن يوصَل ويُفسدون في الأرض، أولئك هم الخاسرون} [البقرة: 26 / 27]
هكذا { أولئك هم الخاسرون} وضمير الفصل بين الاسمين المعرّفين يفيد قصْر الصفة على الموصوف كما هو مقرر. فالصفة هي الخسارة، خسارة الإنسان نفسه يوم القيامة، والموصوف "أولئك" أي الذين يَقطعون ما أمر الله به أن يوصَل . فتأملوا ياجنرالات الجزائر، وانظروا إلى حجم الورطة وعمق الحفرة التي حشرتم فيها أنفسكم. دِينا ودُنيا...
لماذا كل هذا؟
إغلاق الحدود كان ردا جزائريا متطرفا جدا على فرض المغرب التأشيرة على الجزائريين بسبب تفجيرات فندق "أطلس آسني" بمراكش يوم 24 غشت 1994م حيث ثبت تورّط المخابرات الجزائرية في هذا التفجير الإرهابي الذي أوْدى بحياة ثلاثة سياح من الأجانب وترويع الآمنين وتقويض أمن دولة شقيقة وجارة. فياليت الجزائر تعاملت بالمثل واكتفت بفرض التأشيرة على المغاربة مثلا ! ولكنها العَنْجَهِية والعجرفة التي أضافت إلى جريمة التفجير الإرهابية جرائم فادحة في حق آلاف الأسر التي تدفع الثمن الباهظ، لا لشيء إلا لأن حفنة من السياسيين والعسكريين في الجزائر ارتأوا معاقبة الشعبين الشقيقين بإغلاق الحدود البرية، في محاولة للهروب إلى الأمام كمحاولة مكشوفة للتغطية على جريمة التفجير بمراكش، وبعدها من أجل ابتزاز المغرب في صحرائه.
لكن التهمة ثابتة في حق المخابرات الجزائرية بشهادة أحد عملائها وهو المدعو "كريم مولاي" الذي صرح لجريدة "قدس بريس" اللندنية بما يفيد تورطه في هذه الجريمة بمراكش تنفيذا لتعليمات المخابرات الجزائرية. [انظر موسوعة ويكيبيديا]
اليوم، وأكثر من أي وقت مضى، سقط القناع عن وجه الجزائر الرسمي حين أقحمت قضية الصحراء المغربية كشرط من الشروط التعجيزية لفتح الحدود. وهذا ما تداولته جهات أوروبية كثيرة أذكر منها تقريرا إخباريا صادرا عن لجنة الشؤون الخارجية بمجلس الشيوخ الفرنسي الذي نصّ على التورط الجزائري في النزاع حول الصحراء المغربية، وهو الأمر الذي كانت تتجنبه الجزائر دائما وباستمرار.
هل يمكن لأي دولة أن تفرّط في نصف أرضها مقابل فتح الحدود مع دولة جارة؟ أي خبال هذا وأي منطق؟ إن المغاربة لن يتنازلوا عن شبر واحد من صحرائهم ولو بقيت تلك الحدود مغلقة إلى يوم القيامة.
ليْتَ شِعْري كيف ندندن حول بناء المغرب العربي الكبير، أيْ توحيد دوله الخمس، في الوقت الذي تسعى فيه الجزائر لإضافة دولة سادسة على أرض المغرب الجنوبية وبساكنة مغربية أصيلة؟