عندما يرتبط الأمر بالرسول وحياته، فإن أغلب الفقهاء والعلماء وكتاب التاريخ لا يرغبون في الحديث عن أمور قد تبدو للبعض "مثيرة"، مثل الحديث عن الرسول وأجهزة المخابرات، فالقارئ "الذكي" لسيرة الرسول (ص) سيكتشف أن نبينا محمد (ص) كان رئيسا لأحد أقوى أجهزة الاستخبارات في التاريخ، فالدعوة المحمدية انتشرت عن طريق المخابرات، وأغلب الغزوات كسبها المسلمون عن طريق المخبرين والجواسيس، فالرسول (ص) كان يشتغل معه في هذا الجهاز نخبة من كبار المخبرين الذين يختارهم بعناية، لمهام سرية في غاية الحساسية، وهم الذين كانوا عيونه في شبه الجزيرة العربية.
كما سنقرأ في هذا الملف، فمخابرات دولة الرسول كانت من بين المخابرات الأقوى حينها، والدليل على ذلك أنه كسب أغلب الغزوات التي خاضها باستثناء غزوة "أحد" التي انهزم فيها جيش المسلمين، فقبل كل غزوة كان الرسول (ص) هو الذي يشرف على وضع الخطط الحربية، بعدما يتوصل بالتسريبات وتفاصيل خطط وعتاد وتعداد العدو عن طريق مخبريه الذين زرعهم في كل مكان، بمعنى أنه كان يتوفر على مخابرات عسكرية بمنطق اليوم، وما يؤكد قوة مخابرات الرسول (ص) أن أسرار المسلمين وخططهم لم تكتشف أبدا، كما أن قريشا وأعداء النبي لم يلقوا القبض على أي من مخبري دولة الرسول.
الصورة التي يعرفها الناس عن نبينا محمد (ص) أنه كان رجل أعظم رسالة بامتياز وخير خلق الله، لا جدال فيها، لكن ما سيطلع عليه القارئ الكريم في هذا الملف يؤكد أن الرسول كان أيضا من أعظم رؤساء المخابرات في العالم، فقط طبق مجموعة من الخطط قبل 1400 سنة، ومنها سياسة "الهجوم خير وسيلة للدفاع" التي اشتهر بها في ما بعد القائد العسكري الفرنسي نابليون بونابارت، كما سيكتشف القارئ أن الرسول (ص) كان له حراس لحمايته من مؤامرات مخبري وجواسيس العدو، الذين لم يكن يتردد في اعتقالهم وتصفيتهم إذا اقتضى الأمر.
تفاصيل إحدى أكبر عمليات المخابرات في التاريخ
من القلائل الذين كتبوا عن مخابرات الرسول، الإمام محمد الشافعي، الذي ألف كتابا بعنوان "مخابرات دولة الرسول"، حاول من خلاله سرد أهم "عمليات المخابرات" بمفهومها الحديث، و التي قام بها الرسول وصحابته قبل أكثر من ألف وأربعمائة سنة.
الشافعي يعتبر أن "عملية" هجرة الرسول من مكة إلى المدينة إحدى أعظم عمليات المخابرات في العالم، وعلى سبيل الاستئناس، هذا مقتطف ونظرا لأهميته ننشره حرفيا كما ورد في كتاب الإمام الشافعي، يتحدث فيه بإسهاب عن كيف كانت هجرة النبي (ص) من مكة إلى المدينة من أهم العمليات الاستخباراتية في التاريخ:
إذا كان جوهر عمليات المخابرات هو السرية التامة ثم الحرص على معرفة أكبر قدر من المعلومات وخطط الخصم، وأخيراً عمليات التمويه والخداع التكتيكى حتى يبنى الخصم خططاً وهمية ليس لفاعليتها وجود إلا في ذهنه، فإن ذلك تقريباً ما فعله النبي (ص)، فقد جاء الأمر الإلهي بالهجرة إلى الرسول فتوجه إلى أبي بكر وطلب منه أن يصحبه في هجرته بعد أن أعد العدة لذلك، فقد أعد أبو بكر راحلتيه ودفعهما إلى عبد الله بن أريقط -أحد أمهر الأدلاء- ليرعاهما حتى تحين لحظة الصفر، وكان كل فرد يحفظ دوره فقط عملاً بمبدأ "المعرفة قدر الحاجة"، كما نعرفه اليوم في عالم المخابرات، وفي ليلة الهجرة -وليس قبلها- أسرّ الرسول إلى علي بن أبي طالب أن يتسجى برده الحضرمي الأخضر "أي يغطي نفسه بغطاء النبي" وأن ينام في فراشه في عملية "تمويه" متميزة لم ينتظرها كفار قريش الذين تجمعوا حول بيت النبي يريدون قتله بضربة رجل واحد حتى يتفرق دمه بين القبائل.
ورغم أننا لا يمكن أن نغفل أبداً "العامل الإلهي" في عملية الهجرة، فإننا أيضاً يجب ألا نقلل من قيمة العامل البشري الذي استثمر "أسباب الله" أفضل استثمار فحصل على أعظم النتائج.
الأوامر المختومة
نجحت الهجرة النبوية الشريفة من مكة إلى المدينة.. ونجح الرسول (ص) في ترتيب البيت من الداخل، ولكن ما كان يشغل تفكيره "قريش" التي لن تصمت ولن تترك الدين الجديد بعد ما راح الناس يدخلون فيه ليشهدوا أن "لا إله إلا الله وأن محمداً رسول الله". وكان لا بد من أسلوب جديد يتعامل به الرسول مع الموقف، والحقيقة التي لا تقبل جدلاً أن من يمعن النظر والتفكير في هذا الأسلوب الجديد سيزداد إعجاباً بعبقريته وإعجازه البشري، ذلك لأن الأسلوب -وببساطة- قد طبقه الرسول قبل مئات السنين من مبدأ "نابليون بونابرت"، القائد العسكري الفرنسي الأشهر عبر التاريخ "الهجوم خير وسيلة للدفاع"، وقد فعلها النبي (ص). كان يرغب في أن تشعر "قريش" أن المسلمين في المدينة قوة في استطاعتها قطع طريق القوافل إلى الشام، وبالتالي تدمير اقتصاد قريش من جهة، وإنعاش اقتصاد الدين الجديد بمغانم النصر من جهةٍ أخرى، وقد تعيد قريش النظر في موقفها من محمد وأصحابه حين تدرك أن مصلحتها في مقابل سلامة تجارتهم.
ثم يجب ألا ننسى أن المهاجرين قد تركوا أموالهم في مكة هرباً من إيذاء أهلها، وهكذا بدأت سرايا الرسول بعد ستة أشهر فقط من هجرته إلى المدينة واعتمدت على الأخبار التي كان الرسول (ص) يحصل عليها من "عيونه" (رجال مخابراته) الذين زرعهم في الطريق، بل وزرع بعض العملاء في مكة نفسها. وخرجت السرايا والغزوات الصغيرة تباعاً، ولكن قريشاً كانت تفلت في اللحظات الأخيرة فتصل السرايا متأخرة بعد مرور القوافل أو يتدخل القدر لمنع القتال بين الفريقين، وحدث ذلك في سرية "حمزة" وسرية "عبيدة" وغزوة "الأبواء" وغزوة "يواط" وغزوة "العشيرة" وغزوة "سفوان" قبل أن يجىء الدور على السرية التي ستوضح لنا كيف سبق الرسول عصره وزمنه ليؤكد كونه رجل مخابرات فذا.
مهمة رجل واحد
في غزوة الخندق كان الموقف خطيراً بحق، فقد استطاع يهود بني النضير أن يُحزِّبوا الأحزاب لحرب رسول الله (ص) ودخلت "قريش" في الأحزاب ثم انضمت إليها "غطفان" ثم "بني فرازة" و"بني مرة" وصمموا على القضاء على المسلمين.
وكانت المواجهة حتمية رغم صعوبتها فاقترح "سلمان الفارسي" حفر خندق يحتمي المسلمون به، ووافق الرسول وشاركهم في حفر الخندق وكان ينقل التراب حتى أغمر بطنه، وانتهى حفر الخندق في ستة أيامٍ فقط، ثم أقبل الأعداء من كل صوب بأعدادٍ مرعبة وبتصميم لا مثيل له، ويصف لنا الله -سبحانه وتعالى- الموقف في كتابه العزيز حين يقول "إذ جاءوكم من فوقكم ومن أسفل منكم وإذ زاغت الأبصار وبلغت القلوب الحناجر وتظنون بالله الظنونا" الأحزاب - آية10.
ثم حدث الغدر الذي لم يكن أحد يتوقعه في هذا التوقيت بالذات من يهود بني قريظة، جيران النبي في المدينة، والذين عاهدوه على عدم التدخل، فلما علموا بموقف المسلمين الصعب نقضوا عهدهم وانضموا إلى الأحزاب في حربهم ضد المسلمين.
ولأن الحصار استمر قرابة شهر تقريباً فقد يئس بعض المسلمين وقال أحدهم، واسمه "معتب بن قشير": "كان محمد يعدنا أن نأكل كنوز كسرى وقيصر وأحدنا لا يأمن على نفسه أن يذهب إلى الغائط"؟!
وكاد الرسول -مع هول الموقف- يبرم اتفاقاً مع غطفان يعطيها من خلاله ثلث تمر المدينة على أن يرجعوا ولا يحاربوه، وكاد الأمر يتم لولا الصحابي الجليل "سعد بن معاذ" الذي قال للرسول: "يا رسول الله أمراً تحبه فنصنعه أم شيئاً أمرك الله به لا بد لنا من العمل به، أم شيئاً تصنعه لنا"، فقال: "بل شيء أصنعه لكم"، فقال له "سعد بن معاذ": "يا رسول الله قد كنا وهؤلاء على الشرك وعبادة الأوثان، لا نعبد الله ولا نعرفه، وهم لا يطمعون أن يأكلوا منها ثمرة واحدة إلا قرى أو بيعاً، أفحين أكرمنا الله بالإسلام وهدانا له وأعزنا بك وبه، نعطيهم أموالنا؟ ما لنا بهذا من حاجة، والله لا نعطيهم إلا السيف، حتى يحكم الله بيننا وبينهم"، فوافقه النبي ليفكر في حلٍ بديل للأزمة ويستخدم سلاحاً آخر، هو سلاح المخابرات.
> التحول:
في ظل كل هذه الظروف الصعبة أسلم "نعيم بن مسعود"، أحد فرسان غطفان، ودخل على النبي وقال "يا رسول الله إني قد أسلمت وإن قومي لم يعلموا بإسلامي فمرني بما شئت"، فقال رسول الله (ص): "إنما أنت فينا رجل واحد، فخذَل عنا إن استطعت، فإن الحرب خدعة".
> الخدعة:
يضع الرسول (قائد العملية، مدير المخابرات الإسلامية الأولى) المبدأ، فيحاول "نعيم بن مسعود" تنفيذ العملية بناءً على هذا المبدأ الحربي الشهير، يذهب إلى يهود بني قريظة -الذين يحترمونه ويظنونه أحد أصدقائهم- وينصحهم أن يأخذوا رهناً من قريش حتى يواصلوا القتال معهم ويجبروهم على عدم تركهم إذا ما انتصر جيش محمد، ففي هذه الحالة سينتقم المسلمون من بني قريظة على اعتبار أنهم الأقرب، ثم ذهب إلى قريش وقال لهم إنه علم أن اليهود ندموا على ما فعلوا وخافوا من جيش المسلمين، ووعدوا محمداً برجال من أشراف قريش وغطفان ليضرب أعناقهم، ونصحهم ألا يدفعوا إلى اليهود أي رهن من فرسانهم إذا ما طلبوا ذلك، وفعل "نعيم" ذلك مع غطفان الذين صدقوه، فلما حدث ما حذر منه "نعيم" كل طرف أيقن الجميع صدقه، ولكن الفتنة حدثت بين صفوف قريش وغطفان من جهة ويهود بني قريظة من جهة أخرى، وكانت خدعة متقنة لعبت على وتر "فرِّق تَسُدْ"، وبينما الجميع كذلك بعث الله بريح شديدة جعلت المشركين من قريش وغطفان في الموقف الأضعف، ولكن الرسول (ص) كان يجب أن يتأكد من نيتهم بعد ذلك، ولم يكن ليفعل ذلك حينها إلا عن طريق زرع جاسوس له داخل معسكر الأعداء، وقد كان.
جاسوس في قلب العدو
نظر الرسول إلى جنوده ورجال مخابراته وقال مَنْ رَجُلٌ يقوم فينظر لنا ما فعل القوم ثم يرجع أسأل الله أن يكون رفيقي في الجنة". نظر الجميع إلى بعضهم البعض وبعث صوت الرياح العاتية الرجفة في أوصال بعضهم، خاصة وأن الرسول اشترط عودة "الجاسوس" مرة أخرى، ولما لَمْ يقم أحد اختار الرسول أحد أبرع رجال مخابراته عالماً بأن هذا الرجل هو الرجل المناسب لهذه المهمة.
> العملية:
دعا الرسول الصحابي "حذيفة بن اليمان" ليقوم بهذه العملية وقال له: "يا حذيفة.. اذهب فادخل في القوم فانظر ماذا يفعلون ولا تحدثن شيئاً حتى تأتينا"..
> البطل:
بلا تردد قام "حذيفة بن اليمان" وامتطى جواده وخرج وسط الرياح، ولندعه يخبرنا بما حدث. يقول حذيفة: "فذهبت فدخلت في القوم والريح وجنود الله تفعل بهم ما تفعل، لا تقر لهم قدراً ولا ناراً ولا بناءً، فقام أبو سفيان فقال: يا معشر قريش لينظر امرؤ من جليسه؟". وكان يمكن للمهمة أن تفشل حينها، خاصةً وأن أبا سفيان، قائد مخابرات قريش، شعر بما يمكن أن يحدث وسط هذه الاضطرابات وخاف من أي دخيل أو جاسوس، ولكن هنا تتجلى حنكة الرسول في اختيار رجاله. ولندع حذيفة يكمل. قال حذيفة: "فأخذت بيد الرجل الذي كان إلى جنبي فقلت من أنت؟ قال فلان بن فلان".
هكذا انقلبت الآية إذن، سارع حذيفة بسؤال من بجانبه وكأنه يشك فيه فسارع الرجل بالرد ليذرأ عنه الشبهة، والواقع أن الكتاب في هذه القصة قال إن حذيفة ضرب بيده على يد الجالس يمينه ليقول له من أنت فيرد: معاوية بن أبي سفيان، ويسأل بعد أن يضرب بيده على يد الذي عن شماله من أنت فيرد: عمرو بن العاص. أي أن العملية كادت تفشل وكاد حذيفة بن اليمان يموت شهيداً لولا ذكاؤه الشديد. وسمع حذيفة أبا سفيان وهو يقول: "يا معشر قريش. إنكم والله ما أصبحتم بدار مقام. لقد هلك الكرام "الخيل" وأخلفتنا بنو قريظة وبلغنا منهم ما نكره، ولقينا من شدة الريح ما ترون. فارتحلوا فإنني مرتحل". وعلمت غطفان بما صار إليه حال قريش فعادوا من حيث أتوا ليتفرق شمل الأحزاب. أما "حذيفة بن اليمان" فقد عاد ليبشر الرسول(ص)، ويثبت له أنه كان رجل هذه المهمة.
وراح الرسول (ص) يهتف: "لا إله إلا الله وحده.. صدق وعده.. ونصر عبده.. وأعز جنده وهزم الأحزاب وحده.. فلا شيء بعده".
سرية عبد الله بن جحش
كانوا سبعة وثامنهم أميرهم (عبد الله بن جحش)، ولم يكن أحد منهم يعلم مهمته على وجه التحديد، فمن باب تطبيق مبدأ المعرفة على قدر الحاجة وفي الوقت المناسب أعطى الرسول (ص) كتاباً إلى عبد الله بن جحش وأمره ألا ينظر فيه حتى يسير يومين، ثم ينظر فيه لما أمره به، ولا يستكره من أصحابه أحداً، وقد كان. فتح عبدالله بن جحش الكتاب بلهفة فوجد فيه "إذا نظرت في كتابي فامضِ حتى تنزل نخلة بين مكة والطائف فترصد بها قريشاً وتعلم لنا من أخبارهم".
نحن إذن أمام عملية تجسس عالية المستوى، فالسرية جماعة من المقاتلين وأقصاها أربعمائة مقاتل، ولكن هذه السرية الصغيرة لها دلالاتها القوية على أن الرسول "القائد" كان يريد عملية سريعة ودقيقة. أما الأسلوب الذي اتبعه في إملاء أوامره وتعليماته فقد اصطلح على تسميته "الأوامر المختومة" واستُخدم أول ما استُخدم بعد ذلك في الحربين العالميتين: الأولى والثانية، أى بعد مئات السنين.
معلومــات تســاوي الكثيــر
بعد كل المناوشات والسرايا كان لا بد من مواجهة حقيقية.. وحاسمة، فقد خرج أبو سفيان في أوائل الخريف من السنة الثانية من الهجرة في تجارة كبيرة يقصد الشام من خلالها، ولما علم الرسول (ص) بأمر القافلة تهيأ لها وخرج إليها ولكنها أفلتت ومرت مبكراً فاعتزم الرسول انتظار القافلة، وعلى الجانب الآخر علم أبو سفيان هو الآخر بما يعتزمه الرسول فاستأجر رجلاً وبعثه إلى مكة ليستنفر قريشاً إلى أموالهم، ووصل الجمعان قرب بدر ليأتى دور "الفرقة الاستكشافية" التي بعثها الرسول بقيادة علي بن أبي طالب والزبير بن العوام وسعد بن أبي وقاص فوجدوا غلامين من موالي قريش فأتوا بهما إلى رسول الله ،الذي استجوبهما بنفسه وحلل المعلومة التي حصل عليها منهما بأن قريشاً تنحر تسعاً أو عشراً كل يوم ليصل إلى عدد جيش الخصم ويؤكد أن القوم ما بين التسعمائة والألف، ويؤكد كذلك على أهمية المعلومات لدى رجل المخابرات.