طه لمخير
في رواية سام باتلرErewhon revisitedالتي كتبها عام 1901عن قرية متخيلة اسمها Erewhonزارها بطل الرواية السيد هيجس ثم فر منها على متن منطاد حلق به إلى عنان السماء،فلما قرر أن يعود إليها بعد عقدين من الزمن وجد أن الناس في تلك القرية اتخذوه إلهاً يعبدونه تحت اسم the sun child ابن الشمس، ونسجوا حول قصة صعوده إلى السماء معتقدات دينية واعتنقوا دينا سموهSunchildism ، وعندما أراد أن يفند تلك المزاعم ويكشف لهم حقيقته البشرية، نهاه راهبان من أن يفعل ذلك وحذروه من أن أخلاقيات أهل القرية تدور حول هذه الأسطورة، وأنهم إذا علموا بحقيقة الأمر فإن ذلك سيجعلهم يتخلون عن مبادئهم ويصبحون أشرارا سيئين.
في حين أن المجتمع الذي استفحل فيه الطاعون الإيديولوجي بشكل مريع واكتسب غير قليل من خصائص المجتمعات الفاشستية العنيفة، يلتبس عليه أن طغمة الإسلاميين في حقيقتهم أتباع هرطقة منشقة عن الاسلام، تبلورت في شكل ايديولوجيا لها أنماطها وأزياءها وطقوسها وتصوراتها السياسية وأدبياتها المعرفية التي وإن كانت تمتح من خطاب الاسلام ولغة القرآن فذلك مجرد ديباجة للتسويق،إذ هي في صميمها ديانة معاصرة لا تهتم بعالم الروح والوجدان والجمال الإلهي والإيمان الفطري بقدر ما تكرس جهودها الدعائية المنظمة لخلق المجتمعات الأحادية المعسكرة، المعادية للعلم والحداثة والتعددية ومواثيق حقوق الانسان في شموليتها.
بين أيدينا نموذج حي، حزب العدالة والتنمية الذي كان يتهم المجتمع بالجاهلية والانحلال وشكل وجدان قواعده الشعبية على ثقافة الكراهية للآخر ونظرية المجتمع الحركي الموازي، بات أكثر من أي وقت مضى يعيش أزمة هوية ضاغطة، أزمة الشهوات الممتنعة أو المنقمعة، وتشظي على مستوى الخطاب المعلن والممارسة المضمرة، الخطاب المصنوع على مقاس الطبائع الملائكية يتكسر بعنف وإصرار على واقع الطبيعة البشرية، وبعد تسعين سنة على انطلاق الايدولوجيا؛ بدأت حرارة الأصولية تبرد بالتدريج وتفقد بريقها الذي فتنت به أجيالا من اللاهثين وراء سراب ميتافيزيقي كلما اقتربوا منه ازداد بعدا،سراب دولة أسطورية مؤيدة بالقضاء والقدر يتطلع دعاتها لغزو كوكب الأرض وسبي نساء العالم.
نلاحظ حركة تمرد واعية أو غير واعية في اضطرام وتتابع تشبه في تفاعلها واشتعالها الفقاعات على سطح القدر المغلي، حيث تبرز دينامية النشوز وهي ترشَح وتفيض على الأطراف بمقدار الكبت والتضييق النفسي والجنسي الذي يعيشه النوع الاسلامي المحشور في إطار أخلاقوي بالغ التعنت والحرج، أزمة مع الغريزة الطبيعية، أزمة غلظة روحية وتشنج عاطفي، وأزمة محاذير ومتاريس ضد الرغبة في مواكبة المعروض العصري في سوق ليبرالي يتسم بالإبداع والجاذبية والمنافسة والاستهلاك.
صدمات صامتة على السطح الهامد تبدو لوهلة كحوادث فردية أو انحرافات شاذة عن التيار العام المنضبط بإيقاعات الطقوس الصارمة والتعاليم العسكرية التي تفرضها الايديولوجيا في الحزب والحركة على الأتباع والمجندين. في بيئة التلقين والإجبار تنمو حاجة محمومة إلى مقارفة محرمات الايديولوجيا تندُّ في الوسط الراكد كالصرخة المكتومة ضد الاضطهاد الايديولوجي الذي يشعر به العضو في عقله الباطن، قد تصل أحيانا إلى حد الشراهة الجنسية العنيفة كما رأينا في ملف توفيق بوعشرين الذي كان يظهر مقدارا غير يسير من الوقار والاتزان في العلن في حين يستشيط معربدا على كل القيم الإنسانية خلف الكواليس.. الكواليس، كل شيء يدور خلف كواليس الأيديولوجيا..
في زمن ما بعد الايديولوجيات، زمن الاختيارات الواسعة وتدفق المعلومات والانفتاح الثقافي والعولمة، تفككت الثقة العمياء التي كانت تتمتع بها آخر الايديولوجيات أيام شبيبتها،أمست شرنقة الالتزام على النسق النضالي النازي تشكل عبئا ثقيلا على كاهل من اكتشف أن هيكل الايديولوجيا بني على مجموعة من الأنماط والمثاليات التي لا تمت بصلة إلى رسالة الاسلام ولا إلى طبائع البشر، تماما مثل من أدرك في قريةErewhon أن السيد هيجس ابن الشمس المزعوم لا يمت إلى السماء بصلة.
وأضحى كل من توفرت له الوسائل المادية والقدرة على اقتناء تذكرة السفر يقوم بالتنفيس على نفسه من أجواء الاختناق في بلدان خارج رقابة الوسط الايديولوجي المشددة، ليس لأن المملكة بلد ثيوقراطي يخسف بحريات المواطنين على نمط الجمهورية الاسلامية في ايران التي تعاقب النساء على خلعهن الحجاب من سنة إلى خمس سنوات سجنا، أو دولة ثيوديموقراطية مثل باكستان حيث رهوط الأصوليين الهائجين يقتصون من الأفراد المغردين خارج السرب الفاشي بهمجية الشارع جلدا بالسياط ورجما بالأحجار.
إنهم يسافرون لا خوفا من المغاربة، فالمغاربة لا يَرَوْن في شعر المرأة ولباسها العصري إلا تناغما مع العصر الذي نعيش فيه وتفاعلا مع جماليات عالم الأزياء الذي يعكس عشقا حقيقيا للحياة، يظهر ذلك جليا في الحراك الحداثي الخلاق الذي يشهده حقل التيكستيل المغربي التقليدي والارتقاء بالقفطان إلى آفاق الموضة العالمية على يد جيل ذهبي طموح من المصممات المغربيات.
إنها فئة جديدة من الاسلاميين بدأت تطل برأسها خارج القفص الحديدي البارد للمجتمع الحركي الإسلاموي لترتعش ساعة تحت دفء الشمس، فئة منبثقة من النواة الصلبة للإيديولوجيا وليس من الأطراف البعيدة أو المستقلة، تهاجر إلى معانقة البهجة والحياة التي حرمهم منها سدنة الحزب وحواريوه المتربصون والقاعدون في كل مرصد يحصون على الناس أنفاسهم وخطرات قلوبهم.
إنها في الابتسامة المثيرة التي علت محيا أمينة ماء العينين..ابتسامة تحمل معاني عميقة بالغة الدلالة ولغة الجسد فيها أبلغ من ألف مقال.. إنها في تلك اللحظة تعانق الحياة متخففة من أثقال المظهر الرجولي الوقور للمرأة الاسلاموية، مظهر انطوائي شاحب عبوس منكفئ على ذاته كاره لجسده..
في الصورة تختفي القديسة المتألهة المستحيلة، وتصادفنا امرأة سعيدة حقا ترِنُّ رنيناً، شابة مسلمة عادية وممكنة من بنات الجيل، الصورة تصف قصة حب بديع، من بدئه إلى منتهاه، ومن أمله إلى خيبته، يختفي القالب الملائكي المتصلب الذي يفرضه الحزب على المنتسبات، يختفي ابن كيران وزبانيته.. إنها حرة الآن تفتح ذراعيها للحياة، غدائرها تراقص الريح، يكاد قلبها يخفق كعصفور طار من قفص العبودية، إنها تتنفس وتحلم وتصغي للحن الحياة، إنها ببساطة تعيش وتتفتح..انظروا إلى وجوه الإسلاميات الكالحة البائسة المضطهدة، إنها تخفي ما وراء القناع من بؤس وأسى وعقد نفسية ومعاناة حقيقية مهما تصنعن غير ذلك، لكن ماء العينين مع ذلك تكون انتهازية ووصولية عندما تعود إلى أرض الوطن ثم تستمر في مزاولة النفاق والرهبنة أمام الأضواء لأنها مغروسة في نعيم الحزب وتجارته.
نادية ياسين عندما ذهبت إلى يونان كانت تفر من اضطهاد مجرمي الجماعة وكبسهم على أنفاسها، وقد تم على إثر ذلك بالفعل تدمير مستقبلها السياسي الواعد كإمامة مرشحة لخلافة والدها،أو على الأقل أجهض أملها في لعب دور جوهري كانت تتوق له على رأس ما يسمى بالقطاع النسائي، ولم لا بمجلس الإرشاد الذي لا زال حكرا على عتاولة الإخوان من الرعيل الأول والثاني.
لقد تم إقصاءها بوحشية منقطعة النظير، وتم إلغاء هيئة الأخوات الزائرات التي كانت ترأسها وطرحت في زاوية معتمة كخرقة قذرة بالية بعد أن تخلت عن الدوغمائيات المتخشبة وأرادت أن تفرض مبادئ النسوية الحداثية في سياق يرفض الاعتراف بالمرأة خارج جدران المطبخ. كفرت نادية بنظرية المنهاج الفاشستية فاستحقت الطرد كليا من جنة الجماعة، اغتيل تاريخها في ذاكرة المريدين وأعدم كل أثر يدل عليها. آخر مقال اطلعت عليه بقلم "المرحومة" كان منشورا على موقع عدنان ابراهيم منذ ثلاث سنوات قبل أن يحذف مع الإبقاء على صورة الكاتبة.. جزاء سنمار !!.
محمد يتيم، الزعيم في الحزب الاسلامي، رغم أنه في مجتمع ذكوري يتيح للرجل ما لا يتيحه للمرأة للترويح عن نفسه، ولا يحمل على كاهله من الأغلال ما يقيد حركة الإسلاميات، فهو نفسه نفر إلى باريس ليستمتع ولو للحظات بتلك المشية الدافئة لحبيبين يذرعان شارعا متشابكي اليدين، كان رائعا يتيم، جنتلمان عتيد، صحيح أن الايديولوجيا حرمته من تلك المتعة في ريعان شبابه إلى عتبات شيخوخته التي قضاها سجين البؤس واحتقار الذات والخوف المرضي من أهوال العالم الآخر، لكنه كان أذكى من غيره من إخوانه وقرر أن يرتشف رحيق الحياة ولو من ثمالة الكأس. وهذه الحكايات تحدث كل يوم مع الأعضاء الأقل تأثيرا في قاع المجتمع الحركي للإسلام السياسي والتي لا تجد طريقها إلى الإعلام.
الأيام وحدها كفيلة بأن تلقي إلى ضفاف النهر بمزيد من الأسماك التي تنفر من المياه الآسنة، وفِي ذاتها، الأيديولوجيا، تحوي نقيضها وبذرة فناءها.
ويمكرون ويمكر الله والله خير الماكرين.
الملكية هي الحل