المعارضون في بلادنا كثير، من كل صنف ولون، كلهم يبشرون بالمجتمع المثالي الذي ينشدونه، وفِي الغالب لهم ميل كبير الى الشعارات العنيفة وحماس ضارب نحو التهييج والاثارة الديماغوجية. يبرز اليسار واليمين كتصنيف كلاسيكي عام، يتراشق هؤلاء مع الاسلاميين الحاكمين والذين يَرَوْن انهم (مع اعترافهم بعدم جدواهم) ضروريون في الحكومة لحراسة حدود الايديولوجيا، ويعدون ذلك كافيا لإخلاء مسؤولياتهم تجاه ما ورطوا فيه البلاد من فساد وركود اقتصادي وفشل تنموي.
يقفز صناديد الاسترزاق الحقوقي الناقمون، وهم طائفة حديثة النشأة أفرزها سياق دولي وإقليمي لها مذهبها في طلب الرزق والتفتيش عليه، وهم عادة ما يتألمون مما تُوجهه لهم من سهام جهات يصفونها بالأقلام المأجورة، والتي على ما يبدو تشكل لهم أرقا حقيقيا ولا يخفون رغبتهم في كسرها، وهم يمضون كل صباح للاسترزاق والتحشيد فلا يعودون الا اخر الليل يحمل الواحد منهم على ظهره الجيفة التي صادها وقدماه تقطران دما.
وهم لا يسألون انفسهم عندما يتضامنون مع الاسلاميين ان كان هؤلاء على صواب أم على خطأ، ولا يريدون ان يفتحوا اعينهم على الطبيعة الاستبدادية التي تقوم عليها دعوتهم، لكنهم يبحثون عن كيف يجعلون الاسلاميين يبدون على حق، وان كانت حقيقة الارتباط بهم قائمة على معادلات القوة، لذلك فهؤلاء لا يدافعون الا عن الأقوياء اجتماعيا وخاصة من يشتغل منهم بالسياسة أو يهدد السلم الاجتماعي، اما غيرهم من الأقليات فلا تهمهم في شيء، رغم ان الاسلاميين منذ ثورة الخميني وهم يلاحقون المسلمين الاشتراكيين والليبراليين والمثقفين الأحرار، لكن منطق الاسترزاق له القدرة على التجاهل.
هناك المعمرون من حملة الشواهد الذين تقادمت صلاحيتها وكفّن العلم الحديث ما تحمله لفافات أدمغتهم من معارف بنظريات جديدة وهم قد كونوا حول شهاداتهم عقيدة راسخة وايمانا وجوديا بحيث لم يعد بمقدرة أحدهم أن يبتكر لنفسه حلولا أخرى خارج الصندوق. و أرباب الأحزاب الذين يقال انهم باتوا عرايا بلا ايديولوجيات هم في حقيقة الأمر قد تأدلجوا لصالح الحزب الحاكم، وعندما ترى الماركسي نبيل بن عبد الله الذي التصق الكرسي الحزبي بجلده حتى بات جزء من جسده وقد صار من السلفيين التقدميين فهنا تطرح علامة استفهام عن مفعول الأفيون.
وحزب الاتحاد الاشتراكي، ذلك الحزب الذي عقمت رحمه عن انتاج الشخصيات الكاريزمية ذات المبادئ، اذا ألقيت نظرة على ما ينشره من مواد التنويرالفكري في جريدته الغراء، فلن تفرق بينها وبين ما يصدر عن العَلَم العجوز بل ولا عن جماعة التوحيد والإصلاح الوهابية، تماهت الخطوط وتلاشت التباينات، وليست الا صورة الشهيد بن جلون التي لا زالت تقف على الأطلال.
أما زعيمة اليسار، وإذا قيل الزعيمة فليس غير المرأة الحديدية نبيلة منيب بنرجسيتها الصاخبة ولكنتها الصارمة، فهي لا زالت تناضل ضد الإمبريالية والرأسمالية بغرور وكبرياء تروتسكي وستالين، وفِي الوقت نفسه تتقلب في نعيم ثقافة الاستهلاك والسوق الليبرالي مأكلا ومركبا وملبسا، ولله في خلقه شؤون. أما الأطباء وطلبة الطب وأضرابهم الذين لا يتوقفون عن الإضرابات فهم لا يفعلون ذلك الا بنية الانتقام من المواطن بمجرد حصولهم على الوظائف، ولا شك ان الجامعات التي تسلط عليها التيار الاسلامي ومعهم جحافل المعلمين الذين انقلبوا الى راهبان وقساوسة لا يملك احدهم قدرة على النهوض لنقاش علمي عميق في ما تخصص فيه، وليس هو بالذي يكلف نفسه عناء تطوير مؤهلاته و الاطلاع على ما يجري في عالم الطب والبيداغوجيا من طفرات.
أما رهط المثقفين الحداثيين فقد ركبهم الغرور، وكل واحد منهم يريد ان يكون الوحيد في حلبة التنوير، وتراهم -بدل ان يتكتلوا ويؤلفوا في ما بينهم رابطة وطنية لها رؤية واضحة واستراتيجية فعلية وينزلوا إلى الشارع من أبراجهم العاجية -متفرقين متنابذين بينهم ما طرق الحداد، ولا يلبث احدهم ينبت له جناح حتى ينتبذ ناحية ويشيد مركزا باسمه او يحتفل بعدد متابعيه على فايسبوك او يقدم برنامجا على قناته في يوتوب يتوجه به الى جمهور الشرق الاوسط الواسع بطريقة تثير السخرية بقدر ما تثير الاشمئزاز.
وهكذا كل من هذه الطوائف التي تحتها طوائف أشد راديكالية من جنسها تزعم انها تملك الحل الجذري، وكلها تجد لذة ورضا في تقريع المخزن والتفنن في جلده بفنون النقد، وتكاد تمزق لحمه إربا وتسلكه في سفافيد وترميه في النار ليشوى، وما ذلك الا لانه الحائط القصير الذي ينط فوقه كل ذي دعوى للظفر بنياشين البطولة والنضالية والدفاع عن الكادحين، ويبقى من يعمل حقيقة لهذا الوطن يعمل في صمت، ونرى إنجازاته واقعا على الارض عمرانا يبنى، وبنيات تحتية تتطور باستمرار، واقتصادا يتمدد، ودينامية فعالة.