انعقدتْ مؤخرًا في الرباط، الدّورة الخاصّة بأكاديمية المملكة المغربية، وقد عرفتْ هذه الدورةُ محاضرة ألقاها [فرانسوا كزافْيي فوفيل] مديرُ البحوث بالمركز الوطني الفرنسي للبحث العلمي؛ وهذا الباحث هو في الأصل [عالمُ أرْكيولوجيا] متخصّص في إفريقيا القديمة.. وخلال هذه المحاضرة، ادّعى أنّ [ابن بطوطة] كذِب بخصوص زيارته لبلاد [الصّين]، و[تانْزانيا]، و[مالي]؛ ولم يحْدث أن كذّب باحثٌ أو مؤرّخٌ في زيارة هذا الرحّالة ذي الشهرة العالمية إلى [الصّين] حتى جاء من يكذّبه في عقر دارنا، والمصيبة أنّ الأكاديميين المغاربة صمتوا ولم يردّ واحدٌ على هذه الافتراءات للأسف الشديد، ممّا أوحى للمستمعين أنّ هذا الباحث في [الأركيولوجيا] كان صادقًا في ما ذهب إليه، في ما هو والله لكذّاب ومُفْترٍ؛ ولكنْ هذه هي العيّنات التي ينادى عليها لتكذّب أعلامنا وأقلامَنا وتنتقص من قدْرهم ومنزلتهم، ثم يعودون غانمين إلى بلدانهم الاستعمارية..
فهذه الأكاديمية هي مجرّد مؤسّسة شكلية، فما ناقشتْ يومًا مشكلاً من مشاكل بلادنا، ولا اقترحتْ حلولاً علمية لأزماتنا، ولا تركتْ بصمةً ثقافية في حياتنا؛ فمحاضراتُها تتمّ في قاعة مغلقة فما سمعنا يوما ما قيل فيها، ولا نُشرتْ تقارير إعلامية تُطْلعنا على مواضيعَ نوقشتْ فيها أو عرّفتْنا بأسماء الأعلام، والفلاسفة، والمفكّرين الذين نوديَ عليهم.. نعم؛ نحن نعرف فيلسوفًا تمّت المناداةُ عليه إلى هذه الأكاديمية وأُحيط بهالة دعائية، ويتعلّق الأمر بالفيلسوف [كلود ليڤي شتراوس] زعيم [البِنائية] التي كانت قد انتشرتْ في بلادنا خلال الثمانينيات، وهرولَ نحوها المهرولون، وتمّ تطبيقُها في ميدان التعليم، فكانت النتائجُ كارثية إذ تعتبِر [البنائيةُ] سائر اللّهجات لغات، ممّا حرّك نقاشًا عقيمًا وغيْر مجدٍ في البلاد.. و[البنائيةُ] فلسفة استعمارية لا شكّ في ذلك، ومناقضة للإنسانية، إذِ الإنسانُ لديها مجرّد [ورقة تائهة في يانصيب الممكنات] وأنّ التاريخ مسيرة، ولكنْ بدون ذات، وأنّ الإنسان اختراعٌ جديد يُظهرنا علمُ الآثار (الأركيولوجيا) بكل سهولة، على أنّه يرجع إلى عهد حديث، وأنّه قد يصل في مستقبل قريب إلى نهايته المحتومة.. والبنائيون جميعُهم يرون أنّ البلدان الإفريقية تحت نير الاستعمار، كانت ظروفها أحسن وهي مستقلّة، وهذا الباحث هو واحدٌ منهم، وأكاذيبُه تدلّل بوضوح على ذلك، وبعد محاضرته الكلُّ سكت، ولا أحد واتتْه الشجاعةُ للرّد عليه..
العرب كانوا يعرفون (الصّين) منذ القرن الثامن الميلادي، وقد غزا [قُتَيْبة بن مسلم] (شمال غرب الصّين)، وقد تَهدّدَهم فتهدّدوه؛ وتوعَّدهم فتَوعّدوه، لكنّهم سالموه، وبعث ملكُ (الصّين) إلى (قُتَيْبة) بمال جزيل، و(قُتَيْبة) قائدٌ بطل، لم يعرفْ هزيمةً عسكرية في حياته، فلمّا عزم على عدم مبايعة (سليْمان بن عبد الملك)، بعث بقَتَلة طعنوه وهو نائمٌ في خيمته، فلمّا جاء حرسُه، وجدوه يسْلم الرّوح، وقال بيتًا شعريًا أخْلده في ذاكرة التاريخ، حيث أنشد: [أضاعوني وأيَّ فتًى أضاعوا * ليوم كريهة وسِداد ثغْر]؛ قال [ابن كثير] في (البداية والنهاية)، الجزء: (05) ص (108): [إنّه ما كسِّرتْ له رايةٌ، وكان من المجاهدين في سبيل الله، واجتمع له من العساكر ما لم يجتمعْ لغيره رحمه الله تعالى].. وعاد الجيش حزينًا بدون [قُتَيْبة بن مسلم].. كان هذا في القرن الثامن الميلادي؛ وبعد ثمانية قرون، أي في القرن (14)، انطلق الرحالة [ابن بطوطة] وكان يعرف أين توجد (الصّين)، ولم يكنْ عشوائيا في رحلته الطويلة..
لما وصل [ابن بطوطة] إلى (الصين)، توجّه إلى قصر الملك، فأذن له الملكُ بالدخول، فقدّم له ملكُ (الصّين) ضيفين من (المغرب) الأقصى، وبالضبط من مدينة (سبتة) المحتلة وكانت آنذاك مركزًا علميًا وثقافيًا؛ فمن هما هذان الضيفان؟ إنه [أبو العباس السّبتي] وكان في (13) من عمره، وأبوه؛ فسلّم عليهما [ابن بطوطة] ووضع يدَه على رأس الطفل [أبي العبّاس] وقال لأبيه: [سيكون لهذا الغلام شأنٌ عظيم] وصدق (ابن بطوطة) في نبوءَتِه؛ وهذه القصة موجودة في كذا مرجع عربي وصيني، كما يرويها بتفاصيلها (أبو العبّاس السّبتي) لطُلاّبه ممّا يسفّه كذِبَ هذا الباحث الاستعماري الذي يحاول الانتقاص من شأن الأعلام المسلمين.. لما كان [ابن بطوطة] عائدًا، دخل مسجدًا في (دمشق) وكان [ابن تيمية] يلقي خطْبة الجمعة؛ ولـمّا كان نازلا من المنبر، قال: [إنّ الله ينزِل من على العرش كما أنزل أنا من على هذا المنبر]، ومعلوم أنّ (ابن تيمية الحرّاني) كان من المجسِّمة، فقطع [ابن بطوطة] صلاتَه من وراء هذا الإمام، وقال: [لابدّ أنّ هذا الفقيه يعاني من شيء في رأسه].. أما قول هذا الباحث الكذّاب إنّ [ابنَ بطوطة] لم يزُرْ [مالي]، فقولُه مردود، لأنّ [مالي] كانت بمثابة سوق أو مركز تجاري يتوافد عليه المغاربةُ باستمرار، ومنه كانوا يذهبون إلى (السودان)؛ ومعلوم أنّ الإسلامَ كان قد انتشر بفضل رحلات التجار، واختلاط المسلمين بغيرهم؛ فكانت رقعةُ الإسلام من [غانا إلى فرغانة، ومن طنجة إلى جاكارتا]؛ وخلاصة القول إنّ [بن بطوطة] كان مسلمًا، تقيًا، ورعًا، ولا يمكن أن يكذب في ما رآه أو سمعه؛ وحاشا ذلك! ولكن علماء (الأركيولوجيا) المتأثّرون بـ(البنائية) يقولون إنّ (المطبوخ سابق على النّيِّئ)؛ والمطبوخ وجد بعْد اكتشاف النار، فمن سيصدّق ترّهات هؤلاء الكذبة والمفترين باعتماد عِلْم زائف مثْل النازيين؟!
وقبل الختام، أودُّ أن أطرح سؤالاً على العالم الأركيولوجي الفرنسي [كزافْيي] وهو: لو كان يحاضر مثلاً في جامعة عِبْرية، أو يلقي خطابًا في (الكنيست) الإسرائيلي، هل كان بإمكانه أن يقول إنّ (الهيكل) هو مجرّد كذبة من وجهة نظر أركيولوجية صِرْفة، وإنّ الحفريات التي تقوم بها (إسرائيل) تحت (المسجد الأقصى) بحثًا عن (الهيكل) المزعوم، إنما الهدف منها هو تدمير هذا المسجد الإسلامي ليس إلاّ؟ هل كان باستطاعته أن يقول إنّ الستة ملايين من اليهود الذين قتلهم (هتلر) إنما هي كذبة ضُخِّمَت لتبرير قيام دولة إسرائيل، وأن هذا العدد من اليهود لم يكن موجودًا في العالم بأسره؟ أتحدّاه أن يقول ذلك أو يسفّه أكاذيبَ ترعاها (إسرائيلُ) لأنها تخدم مصالح الصهاينة؛ فهي إذن أكاذيب (مقدّسة) لا يُسْمَح بالمساس بها إطلاقا؛ ولكنّه في بلادنا، كذّب حقائقَ تاريخية، وكذّب أعْلامنا، وافترى علينا في عقر دارنا، وأهاننا، ولم يجرُؤ أكاديمي واحد ممن يأكلون أموالنا سحتًا وباطلا للرد عليه، وتسفيه أكاذيبه بالحجّة والدليل والمراجع التاريخية؛ يا لخيبة الأكاديميين عندنا!