ورش مفتوح :من 16ماي1930 الى الأستاذ بودهان.
بل أقدم من هذا بكثير ؛إذ لا يمكن أن ننكر أن "طاجين" الظهير البربري نضج على نار هادئة ،منذ السنين الأولى لدخول الفرنسيين إلى الجزائر التركية،واقتناعهم بأن جهل قادتهم العسكريين بطبيعة المجتمع الجزائري –خصوصا القبلي- ستجعل مهمتهم التذليلية – التمدينية حسب زعمهم- صعبة؛وستكلفهم خسائر بشرية كبيرة.
وعليه كان لا بد لجيش آخر من الاثنوغرافيين والمؤرخين،وحتى الكنيسيين المبشرين،أن يلتحقوا بركب العسكريين ؛وفي هذا استعادة لنهج نابليون (بومباردي باشا،كما سماه المصريون) الذي أفلح في حملته على مصر ،دون خسائر تذكر.
ويؤكد أكثر من مصدر اثنوغرافي كولونيا لي أن اكتشاف الأكاديميين الفرنسيين لتميز أمازيغ الجزائر عن غيرهم من الجزائريين العرب والأتراك،شكل قوة دافعة عززت الانتشار العسكري في كل البلاد. وبقدر ما كانت الأبحاث الميدانية الاثنوغرافية،الأنثروبولوجية واللغوية تتقدم ،بقد رما بدأت ملامح السياسة الفرنسية الأمازيغية في التشكل ؛في الجزائر طبعا، لكن بعيني زرقاء اليمامة ،الناظرتين إلى العمق الأمازيغي كله، في المغرب وتونس ،وحيثما انتشرت هذه "التامزغا الكبرى" التي آن الأوان لإيقاظها وتذكيرها بخصوصياتها .
يُبَسط الأستاذ بودهان الأمر كثيرا – بل يسطحه أيما تسطيح-حينما يحشر الظهير البربري في خانة الحركة الوطنية فقط؛مركزا على ميلاد غريب لما يعتبره مجرد أسطورة حُبكت حبكا من طرف بعض عائلات ونخب المدن .
عائلات ونخب مدينية,لم تحمل سلاحا قط، يرى أنها كانت مجرد مستفيدة من الوجود الاستعماري الفرنسي ،في شكله الغُفل،قبل اكتشافه لسحر النزعة الأمازيغية المغربية ؛ويراها وقد أصيبت بالهلع إزاء ظهير مبشر بأفول مرحلة عروبة المغرب، وبزوغ أمازيغيته ،بدءا من تثبيت العرف البربري، في كل التضاريس التي يكللها لسان "يوغورطا" ،وتلعلع فيها زغاريد "ديهيا".
هكذا يلغي الأستاذ عشرات السنين من البحث الأكاديمي الكولونيالي،بدءا من ثلاثينيات القرن التاسع عشر ؛وفي ركابها عُمُر مديد من التأصيل الاستعماري لسياسة وَجدت أن فتوحات شارل دوفوكو اللسانية ،ولويس ماسنيون ،وأوغيست موليراس وغيرهم تحقق ما لاتحققه ألوية عسكرية كاملة. ان كل خيول الجنرال ليوطي لا تساوي نعال شارل دوفوكو..
ويلغي من قاموس المغاربة لفظ الوطنية المفارقة للمصلحية ،وكل مرادفاتها ؛ولا يقيم أي اعتبار –خارج العصبية الأمازيغية،المملة منه- لتاريخ مغربي ،قبلي ومديني،عربي وأمازيغي، حافل بالاستماتة في حماية البلاد،عبر تاريخها المعروف، من المغيرين الأجانب على سهولها وثغورها البحرية.
إن الانضمام إلى ورش الظهير البربري ،الحي دائما ؛وسيظل مفتوحا على قراءات أخرى،لا يجب أن يكون بنية الاستحواذ التام ،ولي عنق الحقائق، حتى يستقيم القول بأن هذا الظهير:
"لعب الدور المؤسس "للحركة الوطنية"، التي خلقت من ظهير 16 ماي 1930 أسطورة حقيقية، دخلت بها التاريخ بعد أن طردت أصحاب الحق في هذا التاريخ. إنها أكبر عملية نصب في التاريخ لابتزاز التاريخ، وسرقته واختطافه وتحويله . فأسست هذه الأسطورة حدثين متنافيين ومتعارضين: أسست شرعية "الحركة الوطنية"، ولاشرعية الأمازيغية"(ذ بودهان)
هكذا يلقي الأستاذ بودهان في الماء بكل الكتابات الوطنية والأجنبية – بما فيها الفرنسية المُقِرة- والشهادات التي أرخت للحركة الوطنية ،وبصفة خاصة المنعطف الاستعماري حيث ظهرت فرنسا أشد ظمأ للمياه المغربية الجوفية ،بعد أن أتت على السطحية.
ان المقولة الجغرافية الاستعمارية،المتعجرفة و المتهورة، التي اعتبرت أن الصحراء هي حدود أوروبا الجنوبية ،وأن إفريقيا تبدأ جنوب الصحراء ؛كانت بحاجة الى سياسة أشد استكبارا و تهورا ،تقلب الوضع السكاني المغاربي – وليس المغربي فقط- رأسا على عقب؛لتجعل من تامزغا الكبرى، التي شرعت في إرساء أسسها ومقوماتها منذ 1830،رأس حربتها في هذا الطموح القاري المفصلي الذي يتأسس –ويا للغرابة- حتى على الجغرافية المناخية وليس البشرية واللسنية فقط.
أوروبا باردة- تامزغا باردة- إذن تامزغا أوروبية.. لا مكان للعرب والعربية في هذه الأرض؛وهذا بالضبط ما يكرره الأستاذ بودهان الذي يبدو وكأنه يعيد كتابة مقال واحد لاغير.حتى هذا عود أبدي ..
لعلي أرشده هنا إلى الحجج المناخية التي لم يفكر فيها ؛خصوصا والأمازيغية فقيرة في المعجم المناخي الخاص بدرجات الحرارة ،في مقابل وفرة حد التخمة في لسان العرب الصحراوي.أستند في هذا الى الزناتية التي أتقن ،وهي الأقرب الى العربية. ألا يثبت هذا أمرا من الأمور التي باتت الأمازيغاتية المغرضة تحتطبها ،بنهار وبليل؛حتى احتطبت ثعبانا وهي تهوي بفأسها على صرح من صروح الحركة الوطنية،عرف كيف يمزج بين أصالة المعمارين الأمازيغي والعربي؟
بوحمارة يلتحق بورش الظهير البربري:
في موضوعي المنشور تحت عنوان :"السلطان والفتان:ماذا قال الروكي من داخل القفص؟" أوردت حقائق جديدة عن فتنة ونهاية الثائر الدعي الجلالي الزرهوني؛استنادا الى مراسلات رسمية فرنسية، كشف عنها الأرشيف الحربي للخزانة الوطنية الفرنسية .
ما سأعرضه اليوم ،من طموح هذا الرجل ،ذي التكوين الهندسي الطوبوغرافي،والذي حكم أغلب شرق المغرب لمدة سبع سنوات ،مشعلا نيران الفتنة حيثما حل و ارتحل ،ليس جديدا فقط ،بل صادما لهؤلاء الغلاة الأمازيغيين، الذين لم يعد يرضيهم غير صدور ظهير ملكي أمازيغي آخر،يميزهم عن سائر المغاربة ؛ليس عرفا فقط ،كما استهل الفرنسيون مؤامرتهم،بل في كل شيء .
يريدون مغربهم الخالص لهم ،عرقا ،لغة ،ثقافة وأبجدية.مغرب مفارق لكل العروبة وتراثها وقضاياها ،بما فيها القضية الفلسطينية التي يناصرها حتى اليهود المنصفون. لعلهم لن يمانعوا لو أفردوا حتى بمقابر خاصة تمتح من المعمار الجنائزي الأمازيغي القديم.
كل ما تحقق أمازيغيا، للمغاربة كلهم ،وليس للأمازيغ فقط ؛أو كل ما بدا مرحليا،فقط، صعب التحقيق،لم يعد مقنعا .كل من سكت يُشتم ،وكل من نطق حقا يهاجم ويتهم ؛حتى ولو أدلى بأوشام جدته. كل الأمازيغيات لا قيمة لها عدا أمازيغية سوس كما "أركمت". حتى أمازيغية بودهان الزناتية لا تجد من يدافع عنها لأن الأستاذ في شغل عنها بهوية الطير والحجر.
استغربت بدوري كثيرا حينما وقفت على دهاء هذا الرجل ،وهو يبدع ،وفي أواخر القرن التاسع عشر، خطابا أمازيغيا جديدا على المغرب ؛وقتها وليس اليوم. سعى من خلال هذا الخطاب الذي روجه ضمن رسائل كان يوجهها الى القبائل الزناتية الأمازيغية بالجهة الشرقية،الى استقطاب هذه الكتلة القبلية الكبيرة التي قدر الإخباريون الفرنسيون أن بوسعها ،مجتمعة،تجنيد مائة ألف فارس. وحدها قبائل بني يزناسن كانت قادرة على دخول القتال بعشرين ألفا من هؤلاء.
يقول الروكي بوحمارة في رسائله،كما يورد ها باللفظ العربي الدارج ،ثم يترجمها"، الاثنوغرافي الفرنسي بجامعة وهران "أوغست موليراس"؛ في الصفحة29 من كتابه:
Une tribu Zénète anti musulmane au Maroc(les Zkara)
Augustin Challamel,PARIS 1905
" يا زناتة لُكان تتولى لي المملكة ،ما نقبلشي العربي يلبس البلغة ،يكون لي في المشور. راني نْرد المملكة زناتية .تْوليوْ أنتما تدخلوا للمشور بَنْعايلكم ،والعربي ما نقبلوشي. يكون الوزير زناتي والمشاوري زناتي والأمين زناتي.
كيفاش تركتو النِّيف يا زناتة ،حتى ولَّاو لعرب اتسلطنوا عليكم ،ويحكمو فيكم ؛والتسلطينة والراي الأول كان لواليديكم .اليوم أنايا جابني النيف عليكم ،باش نرد لكم التسلطينة على يديكم كما كانت. ايوا غير اوقفوا معايا حتى ندخل فاس ،وأنا نعرف كفاش نرد زناتة" انتهى كلام الروكي
فعلا دخل الروكي الى فاس ،لكن في قفص،ومحمولا على ناقة،لينتهي طعاما لأسود أمازيغية ،كانت بحديقة السلطان مولاي عبد الحفيظ. وبقيت قبائل زناتة في مضاربها لأنها تعرف كيف تفري الكلام ،وتلقي بالكاذب منه في هوامش التاريخ .
لم يبدع الروكي شيئا في خطابه" العربفوبي" هذا ؛بل كان يستمع الى مستشاريه الفرنسيين والاسبانيين ؛من المرتزقة وتجار السلاح ؛والساسة الذين عرفوا كيف يلعبون على الحبال في مرحة حرجة من تاريخ المغرب.
ان الظهير البربري يتجاوز لحظة اللطيف ،في ضريح المولى إدريس ،لأن جذوره استنبتت في التربة الجزائرية ؛واذا كنت تختزل الحركة الوطنية في ما تعتبره أسطورة أمازيغوفوبية مغرضة وخبيثة ،فبماذا ستفسر الثورة الجزائرية التي شارك فيها حتى المغرب المستقل؟
ان كل من يعيد إنتاج نفس خطاب الروكي ،وان بصيغ أخرى، عليه أن يخجل من أبنائه وأحفاده ،إن لم يخجل من هذا الوطن الذي يعض على وحدة هويته ،بكل لغاته ولهجاته وثقافاته.
رمضان مصباح الإدريسي
Ramdane3.ahlablog.com