سعيد الكحل
ساد الاعتقاد أن الحراك السياسي والاجتماعي الذي تعرفه كثير من البلدان العربية كان نابعا من وعي جماهيري حقيقي بضرورة تغيير الأوضاع نحو الأفضل . إذ كل ثورة اجتماعية تكون تتويجا لهذا الوعي وترجمة له . كذلك ظهر الأمر عند اندلاع "ثورة" الفل في تونس ثم تلتها "ثورة" الياسمين في مصر .
كانت الجموع البشرية تتدفق في الشوارع والساحات العمومية مطالبة برحيل النظام ، لكنها لم تدرك حقيقة الجهات الخفية التي تلاعبت بالشعب وبالشباب وكيف سيق الجميع إلى نفق لا يسمح لهم بالتراجع ولا بالاختيار . فتحولت تلك الجماهير من فاعلة إلى منفعلة بعد أن ظهر على ساحة الأحداث المتحكمون الحقيقيون في اندلاع الحراك ومساراته ومآلاته.
انطلقت هذه "الثورات" عمياء لا تستشرف المستقبل ولا تخطط لما بعد سقوط الأنظمة . كما تخلى الشباب طواعية ، بسبب قلة التجربة والدراية ، عن دورهم المحوري في رسم معالم المستقبل ضمن الدولة الوطنية الموروثة عن النظام المنهار . كانت الولايات المتحدة الأمريكية هي مصممة مسارات "الربيع العربي" لتجديد الهيمنة على الشرق الأوسط الكبير بما يجعل العداء لأمريكا ولإسرائيل في المنطقة يتوارى خلف الصراع المذهبي والطائفي . وفي هذا الإطار دعمت أمريكا هذا "الربيع العربي" لخدمة مخططها الإستراتيجي الذي كشف عنه رئيس المخابرات الأمريكية الأسبق سنة 2006 كالتالي (إذا نجحنا في إقناع المسلمين في العالم .. أننا نحن إلى جانبهم ، سوف ننجح في النهاية .. سوف نجعلهم (الحكام) متوترين .. وإذا نجحنا في تحرير العراق وبدأنا التفرغ إلى سوريا وليبيا والدول الأخرى ونضغط عليهم لمحاولة تغييرهم ،سيأتينا آل سعود ومبارك ويقولون : نحن متوترون جدا جدّا .
وجوابنا يجب أن يكون : هذا جيد . نحن نريدكم أن تكونوا متوترين ، نحن نريدكم أن تعرفوا أنه الآن وللمرة الرابعة خلال المائة سنة الماضية أن هذه الدولة وحلفاءها قادمون للزحف وسوف ننتصر ، لأننا إلى جانب شعوبهم هذه التي يخاف منها الحكام العرب . ) . تنفيذا لهذا المخطط ، اختارت الولايات المتحدة ــ قبل سنة من بدء الحراك ـــ مجموعة من الشبان يعيشون على هامش المجال السياسي ببلدانهم ويجهلون قواعده ، ومنهم وائل غنيم الذي كان له دور كبير في اندلاع الاحتجاجات عقب مقتل خالد السعيد ، والتي تحولت إلى "ثورة" .
فالولايات المتحدة الأمريكية أدركت أن الحاجة إلى التغيير في الوطن العربي باتت ملحة وضرورية بعد أن استنفذت الأنظمة "صلاحيتها" على اعتبار أن ما يهم أمريكا هي مصلحتها وليس مصلحة الأنظمة أو الشعوب . لهذا لن تترك أمريكا للشعوب العربية أية فرصة لامتلاك قرارها والتحكم في مستقبلها خصوصا وأن ردة فعل شعوب «الربيع العربي» كانت الأكثر عنفاً ضد السفارات الأمريكية في كل من تونس وليبيا ومصر ثم اليمن ؛ وكلها بلدان دعّمت أمريكا «ربيعها» . ومقتل السفير الأمريكي في بنغازي كان صدمة للأمريكان جعلهم يستعجلون نشر "الفوضى الخلاقة" .
وقد أشار الباحث الأميركي آرون ديفيد ميلر الذي شارك كمبعوث ومفاوض في مفاوضات السلام بين العرب وإسرائيل في إدارات أميركية عديدة، في مقال له بعنوان ً: "الربيع العربي... الشتاء الأميركي"، إلى أن أمريكا لن تسمح بتآكل مصداقيتها في منطقة "الربيع العربي" . فهذه الشعوب تحمل حقدا للأمريكان عبرت عنه في احتجاجاتها ضد الفلم المسيء للرسول محمد (ص) . وأولى مداخل "الفوضى الخلاقة" هي المذهبية ودعم التنظيمات المتطرفة بهدف جعل الصراع المذهبي والطائفي صراعا أساسيا تجند الشعوب كل إمكاناتها لتأجيجه ولتترك الصراع ضد إسرائيل وعدائها للأمريكان خلف ظهرها . ومن هذا المنطلق الإستراتيجي ، جاء مشروع الشرق الأوسط الكبير الذي بشرت به أمريكا وهي الآن بصدد تنفيذه . وهذا ما كشفت عنه الصحافة الأمريكية نفسها .
فقد تحدثت صحيفة "نيويورك تايمز" عن "إمكانيَّة إعادة رسمِ الخريطة السياسيَّة في بلدان الحراك، بصورة تفضِي إلى تقسيمهَا إلى عدَّة دوليَات، فِي أعقابِ ما عرفته من انقسَامات عرقية ومذهبية ، حُيَال حكَّامهَا الجدد، وهشاشة توافقهم على من خلفوهم" . وهذا ما نشهده في مصر وتونس وليبيا واليمن من رفض للحكام الجدد الذين جاءت بهم "الثورة" ، الأمر الذي سيسرع بتقسيمها ــ هذه الدول ــ إلى دويلات عرقية ومذهبية بدءً بسوريا التي باتت عمليامقسمة إلى ثلاث مناطق مختلفة عن بعضها البعض، لكل منها عَلمها وقواتها العسكرية الخاصة .
وكذلك الحال في ليبيا حيث توقعتْ "نيويورك تايمز" أنْ تدفع بها النعرات القبليَّة إلى الانقسام إلى 3 دوليات، واحدة في الشمال الغربِي للبلاد، عاصمتها طرابلس، وأخرى في الشرق تتبعُ لبنغازِي، زيادة على دولة "فزان"، التابعة لسبها، التِي عرفت بولائهَا للقذافِي، خلال ثورة 17 فبراير. الإستراتيجية الأمريكية هذه هي مقدمة لسايكس بيكو 2 لن تنجو منها إلا الشعوب التي ستحافظ على وحدتها الوطنية وتماسكها الاجتماعي والثقافي .