|
|
|
|
|
أضيف في 03 يونيو 2019 الساعة 21 : 10
ظل الخطاب الفلسفي المغربي المعاصر خجولا في إثارة القضايا الجوهرية المتعلقة بفلسفة التربية، لكن في المقابل انصب التفكير والتأمل على الجانب الإبيستيمولوجي والمفاهيمي والتجريدي دون عناية خاصة بالظواهر والإشكاليات التربوية التي تؤسس الجهاز القيمي للمجتمع المغربي. وإذا كانت هذه المؤشرات تبدو بديهية للباحث التربوي، فإنها تطرح أكثر من علامة استفهام حول مساهمة الفكر الفلسفي المغربي الراهن في صياغة مكونات الميثاق الوطني للتربية والتكوين.
ولعل المتتبع للمشهد الفلسفي المعاصر، يدرك بعمق مدى أهمية التأمل الفلسفي وقدرته على رسم خصائص الشخصية المغربية في تنوعها وثرائها وجذورها الوجدانية والتاريخية والحضارية، غير أن الباحث في مجال العلوم الإنسانية يجد نفسه محاصرا بعدة أسئلة وغير قادر على تمثل وإدراك طبيعة ونوعية الفعل التربوي في علاقته بمكونات الشخصية المغربية وبقضايا المعرفة والثقافة الإنسانية. وإجمالا، نستخلص أن الفكر المغربي بصفة عامة لم يستطع إلى حد الآن –رغم بعض الاستثناءات الفردية أن ينتج نظرية للتربية تنسجم مع المرتكزات الثابتة والمبادئ الأساسية والغايات الكبرى التي تعكس فلسفة المجتمع وتطلعاته وقيمه، لذلك ينبغي التأكيد في هذا السياق، أن تحقيق أي مشروع إصلاحي في مجتمعنا لا يمكن أن يتم إلا من خلال تعميم الاستشارة من جهة، والاعتماد على منظور فلسفة التربية من جهة أخرى، سواء على مستوى النظام التربوي أو الاقتصادي أو الاجتماعي أو الثقافي أو القانوني أو على مستوى الخطاب الفلسفي أو العلمي أو الديني..
وعليه، تندرج هذه المقاربة ضمن تصور فلسفة التربية بهدف إغناء النقاش الدائر حول المبادئ الأساسية للميثاق الوطني للتربية والتكوين، كما أنها تستجيب لرغبة الفاعلين في تقديم المقترحات الموضوعية لتدعيم توجهات الإصلاح التربوي والتكويني ببلادنا موازاة مع مرحلة الانتقال الديموقراطي والاجتماعي التي تميز حركية المجتمع المغربي المعاصر. ومساهمة منا في تطوير المساءلة الفلسفية النقدية لمنظومتنا التربوية، ووعيا منا بأهمية التساؤل عما يمكن أن يوجه مرتكزاتنا الثابتة، فإننا نطمح إلى مناقشة ومساءلة النسق القيمي للميثاق الوطني في أبعاده الفلسفية والتربوية والثقافية بهدف كشف المرجعية الأخلاقية والسياسية التي تحدد وتميز كافة المنظومات التربوية السائدة.
ومما لا شك فيه، أن المحاولات التأسيسية والإصلاحية التي رافقت نظامنا التعليمي منذ بداية الاستقلال قد اختلفت في صياغة غاياتها انسجاما مع الظرفية التاريخية والشروط الإيديولوجية، لكن هذا الاختلاف لم يترجم تطلعات المجتمع المغربي كالقضاء على الأمية وتعميم التعليم ومحاربة الجهل والفقر والحد من الفوارق الاجتماعية وتبني الممارسة الديموقراطية. ومن بين الأسباب التي أدت إلى إخفاق تلك المحاولات نذكر على سبيل المثال غياب مفهوم واقعي للتربية كمشروع مستقبلي يحقق للمجتمع المغربي توازنه الاجتماعي والثقافي والاقتصادي. ومن جهة أخرى، يبدو أن المنهاج التعليمي الذي أفرزته السياسات التربوية المتبعة في بلادنا لم يكن نابعا من دراسات ميدانية وبحوث تطبيقية تمتح مقوماتها من جوهر فلسفة التربية بمعطياتها الأخلاقية والسياسية.
وعلى ضوء التناقض الواضح بين الغايات والواقع التربوي والاجتماعي، تميز التخطيط التربوي بسوء تقدير السلوك المستهدف في العملية التعليميةالتعلمية نظرا لاعتمادنا على خبراء أجانب لا علاقة لهم بالمتعلم المغربي، الشيء الذي جعل من الخطاب التربوي وسيلة لتمرير توجهات النسق السائد، وبالنتيجة، غابت التساؤلات الفلسفية المؤسسة للفعل التربوي الشامل مثل: لماذا التربية؟ ولماذا ينبغي أن نربي؟ وكيف سيكون مصير المغرب بدون مدرسة هادفة؟ وباختزال شديد، ظل سؤال الغايات التربوية معلقا !
وفي الواقع، تطرح مقاربة الغايات التربوية تصورين مترابطين هما:
1 – تصور يتعلق بالفرد: ويتلخص في مجموعة من المواصفات التي تخص النمط الفردي المنبثق من السيرورة التربوية.
2 – تصور يتعلق بالمجتمع: ويتجلى في قدرة النمط الاجتماعي على إظهار الفرد المرغوب فيه. وبالنسبة للتصور الفردي نلاحظ الحضور القوي لمجموعة من الآراء الفلسفية التي حاولت اقتراح النمط الإنساني المستهدف، مثلما أكد أفلاطون على أهمية التعايش التناغمي بين الغايات في المجتمع اليوناني القديم. أما ماركس فاعتبر أن تربية البروليتاريا تتوخى تكوين الفرد الواعي بمصالح طبقته والقادر على تجسيد ذلك في سياق تحولات المجتمع البورجوازي. وقد ركزت الإيديولوجيا الماركسية اللينينية في تحديد غاياتها التربوية على تكوين الفرد المخلص للنظام الجماعي. أما الإيديولوجية النازية فقد كانت غاياتها من التربية هي احترام التراتبية القائمة بين الإنسان الأعلى والإنسان الأدنى في نظرهم. وإذا انتقلنا إلى الحديث عن غايات المنظومة التربوية للحضارة الغربية فسنلاحظ أنها في المرحلة السابقة كانت تتوخى تشكيل الفرد المتكيف مع بنيات اقتصادية وسياسية معينة وجعله قادرا على الإفادة والاستفادة، لكن في المرحلة الراهنة أصبحت الثقافة الغربية تراهن عمليا على التكوين الذاتي للفرد وجعله قادرا على الخضوع للمستلزمات التي ينجزها أو يتعرفها.
أما منظومتنا التربوية الحالي (قبل الميثاق ) فتتأسس غايات منهاجها التعليمي على تصور تربوي عام يهدف إلى تكوين المواطن المغربي تكوينا منبثقا من حاجات المجتمع وثقافته وحضارته وجعله متشبثا بعقيدته ومعتزا بمغربيته وبأصالة حضارته.
فهل حققت هذه السياسة التربوية ما كانت تصبو إليه؟
مما لا شك فيه، أن الانطلاقة الصحيحة لأي منهاج تعليمي يجب تبدأ من وضعية التعلم كفعل وظيفي يهدف إلى إشباع حاجات المتعلمين ورغباتهم، وبقدر ما تكون هذه الوضعية وغيرها منبثقة من الواقع التربوي تكون النتائج ذات مردودية شاملة وعالية.
أما بالنسبة للتصور الاجتماعي فنلاحظ أن السيرورة التربوية قادرة على تحقيق استقلالية الفرد لكن ضمن سياق سوسيوسياسي، ومن ثم، تبدو العلاقة الجدلية بين الغايات الفردية والغايات الاجتماعية للتربية، غير أن ما يلاحظ في الكثير من الأنظمة التربوية الإفريقية والأسيوية هو تجاهل قيمة التعلم الذاتي للفرد والتركيز على مبدأ الانسجام الجماعي دون مسايرة للتحولات الكمية والكيفية التي مست كافة الحقول المعرفية والتكنولوجية المتنوعة. وقد فشلت العديد من التجارب والمشاريع التربوية في الوطن العربي نظرا لغياب التفكير في التفكير التربوي الشامل. إذن، ما هو النمط الفردي أو الاجتماعي الذي يقترحه الميثاق الوطني للتربية والتكوين؟ وضمن أي سياق نمارس علمية التربية والتكوين والتأهيل؟ وما هي مرجعية وأصول الغايات التربوية؟
في الواقع، تقربنا هذه التساؤلات المنهجية من جوهر إشكالية الغايات التربوية، كما أنها تفيدنا في تلمس دلالة المعايير المؤطرة لاختياراتنا الأخلاقية والسياسية. وبتفحص محتويات الميثاق، نلاحظ أن الغايات الكبرى تتأسس وفق استراتيجية "محورية الطفل والمتعلم" في العملية التربوية والتكوينية، كما تم التأكيد في هذا السياق على ضرورة إكساب المتعلم مجموعة من القيم والمعارف والمهارات التي تؤهله للاندماج في الحياة العملية أو مواصلة التعلم. وعلى ضوء هذه الاستراتيجية يتضح أن مفهوم التربية يقترب من التصور المتعلق بالفرد المندمج مع محيطه والمتوافق مع مجتمعه. ولفهم طبيعة هذا التصور، لا بد من جرد دقيق لأهم المواصفات السلوكية الواردة في الميثاق والتي جاءت على الشكل التالي:
ـ السلوك السياسي القانوني: الوعي بالواجبات والحقوق –التمسك بالملكية الدستورية حب الوطن – الإيمان بالله – المشاركة الإيجابية في الشأن العام والخاص – تبني الممارسة الديموقراطية.
ـ السلوك الأخلاقي الاجتماعي: الاستقامة والصلاح – الاعتدال والتسامح الإنتاج النافع – المبادرة الإيجابية – التشبع بروح الحوار – قبول الاختلاف.
ـ السلوك الثقافي المعرفي: طلب العلم والمعرفة – التوفيق الإيجابي بين الأصالة والمعاصرة – الاطلاع والإبداع – التواصل بالعربية تعبيرا وكتابة – التفتح على اللغات الحية.
تسمح هذه السلوكات النمطية بتحديد طبيعة المرجعية المعتمدة في الميثاق، كما أنها تفسح المجال لدراسات متعددة حول علاقة الغايات بكافة عناصر المنهاج التعليمي (الأهداف – المحتوى – الطرق – التقويم ). إذن، أي محتوى يكون قادرا على التلاؤم والانسجام مع السلوكات المذكورة؟ وبأي طريقة نستطيع تمرير تلك الغايات إلى المتعلم؟
انطلاقا من المعطيات السابقة، يحدد الميثاق توجهات المدرسة المغربية الوطنية الجديدة في الانفتاح على المحيط الخاص والعام لجعلها مفعمة بالحياة والحركة والنشاط، كما تسعى هذه الاختيارات التربوية إلى تشكيل المواطن المتكيف والمندمج مع بنياته الاقتصادية والاجتماعية والبيئية دون لمس حقيقي لأبعاد الوعي الإنساني ودون مراعاة لمبدأ الجودة والإتقان والمردودية. وإذا تأملنا بعمق، خصائص تلك التطلعات المبدئية ستتضح مدى الصعوبات التي تطرحها عملية اختيار وتنظيم الغايات خصوصا إذا ما تم تجاهل أو استبعاد منظور فلسفة التربية الذي يحدد شكل الوجود الاجتماعي للكيان الإنساني.
ومن أجل التغلب على الإكراهات المستحدثة وتحقيق الغايات المذكورة، راهن الميثاق على قاعدة التناوب (مدرسة/مقاولة ) كما أكد على أهمية أسلوب ترشيد الإنفاق التربوي وإنجاح مجال الشراكة لتقوية الموارد البشرية والتمويلية، غير أن ما لا يلاحظ على هذه الرهانات المستقبلية هو تجاوبها مع بعض بنود تقرير البنك الدولي الخاص بالنظام التربوي المغربي والذي بين أن نظامنا التعليمي لا يحسن استخدام الموارد المخصصة له بفعالية، كما تنسجم هذه المرجعية مع توصيات وتقارير منظمة التعاون والتنمية الاقتصادية التي أكدت وشددت على ضرورة الاستجابة إلى نظام المقاولة المشروط بمبدأ الكفاءة والخبرة في اليد العاملة.
في الواقع، يبدو أن هناك مجموعة من الحقول المتنوعة التي تؤطر الغايات التربوية المعتمدة في الميثاق. ومن ثم، يصعب الحديث عن مرجعية واحدة ولكن مع ذلك يمكن الإشارة إلى بعض الحقول الأساسية مثل:
ـ الحقل التربوي: يقوم على مبدأ التوفيق بين الفرد والمجتمع، وبين الأصالة والمعاصرة وبين اللغة العربية واللغات الحية. وباختصار شديد، يتضح الطابع الإصلاحي لمشروعنا التربوي تحت شعار الحداثة، التغيير، الهيكلة، التنمية المستديمة.
ـ الحقل الأخلاقي: يتمظهر فيه نمط السلوك المرغوب فيه لتكريس مبدأ التوفيق من حيث الاعتدال والتسامح والاعتقاد والقيم والمواقف والاتجاهات. وبعبارة أخرى، تتحدد فعالية السلوك المستهدف بالإنتاج النافع أي بالعمل الصالح كما دعا إلى ذلك رواد الحركة الإصلاحية منذ النصف الثاني من القرن التاسع عشر.
ـ الحقل السوسيولوجي: يحدد أشكال التعامل والتعاون والتشارك بين الفاعلين في العمل التربوي والتكويني، كما أنه يضمن الحقوق والواجبات للأفراد والجماعات بناء على وظائف معينة يحددها التشريع المدرسي والمؤسساتي، غير أن تأثير الحقل الأخلاقي على هذا الحقل يبدو قويا خصوصا على مستوى ارتباط الفرد بعاداته وتقاليده.
ـ الحقل الديني: يظل الحقل أكثر احتشاما من حيث الحضور لكنه مع ذلك يعتبر المرجعية الثابتة في الخطاب التربوي، وإذا تأملنا أغلب الغايات والسلوكات المذكورة، سيتضح أنها ذات مصدر ديني هو الإسلام بتعاليمه وقيمه المقدسة. ويكفي أن نذكر في هذا المجال مواصفات مثل: الإيمان بالله – الاستقامة والصلاح – الاعتدال والتسامح.
ـ الحقل السياسي: يقربنا من طبيعة العلاقة التي تؤطر كافة الحقول الأخرى: فهل هي علاقة قانون أو قوة أو زبونية أو ديماغوجية؟ وهل الواجبات والحقوق تندرج ضمن تراتبية معينة باسم دولة الحق والقانون؟
أمام هذه الإشكالية المعقدة، نجد أنفسنا أمام الحدود القصوى لفلسفة التربية والتي لا تقل أهمية عن التفكير الأخلاقي والسياسي. وإذا كانت فلسفة التربية تحاول أن تنظم التفكير حول تكوين الإنسان، فإن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار مرجعية ملائمة للأحوال المعيشية للفرد والجماعة، وعليه، يمكن التساؤل في هذا السياق عن أصول الغايات التربوية في الميثاق؟
يقود التفكير العقلي إلى تحليل السيرورة التربوية على ضوء المنهاج التعليمي، غير أن هذه العملية لا تستطيع أن تبرر بشكل منطقي الاختيارات المتعلقة بالتعلم الفردي أو الاجتماعي ومن ثم، يمكن اعتبار الغايات ثمرة أو حصيلة للفعل الصادق الإنساني أكثر من كونها تفكيرا عقليا يقوم على قواعد رياضية أو إحصائية، ومن هنا جاءت صعوبة تحقيق الغايات في العمل التربوي. ولو تأملنا أبعاد غاياتنا التربوية لتبين لنا أنها تهدف إلى إسعاد المواطنين بمختلف الأشكال المتوفرة، لكن ماذا تعني كلمة إسعاد في السياق التربوي؟ إنها معطى يتموقع خارج أي تبرير عقلاني لأنها اختيار، غالبا ما يكون مناقضا للوضعيات البيداغوجية والاجتماعية والعملية.
صحيح أنه يمكن تأسيس طريقة أو تنظيم محتوى أو تحديد هدف معين، لكن الأمر مختلف حينما ترتبط العملية بتكوين الإنسان وفق نموذج محدد. وقد أكد أفلاطون على الدور الإيديولوجي الذي تقوم به الغايات في تكريس المجتمع الطبقي، غير أن أرسطو كان مخالفا لأستاذه من حيث البناء الفلسفي لأنه اشترط في الفعل التربوي أن يكون مقترنا بالبحث عن طريقة العمل والاشتغال وليس على الغاية أو الهدف من الفعل، لأن العقل قادر على إضاءة وسائل وأدوات العمل لكنه غير قادر على توضيح الغايات.
إذن، كيف يمكن للميثاق أن يبرر غاياته التربوية بشكل منطقي يجمع في نفس الوقت بين الوسيلة والغاية والمحيط الدراسي والاجتماعي في مشروع تنموي شامل؟
تأسيسا على ما سبق، يتضح أن عملية اختيار الغايات التربوية لا تقوم على مبدأ الإرث أو الوراثة نظرا لأنها إجراء دينامي معقد يخضع لشروط وجدانية وقيمية وبيئية، ومن تم، فالمتعلم ليس في حاجة إلى درس في علم الأخلاق أو الجمال، بل هو في حاجة إلى نوع من التوازن والتوافق والاستقرار الشامل النابع من المحيط العام. فأي نمط إنساني تسعى السياسة التربوية إلى تحقيقه؟ وإلى أي حد كانت غاياتنا التربوية منسجمة مع طبيعة تفكيرنا وقناعاتنا؟ وإلى أي حد كان أداؤنا التربوي مقنعا في الأسرة والمدرسة والتلفزة والإدارة والمقاولة والمستشفى والمحكمة والشارع والحزب والنقابة والجمعية؟ ثم هل المدرسة المغربية الوطنية الجديدة المبشر بها في الميثاق الوطني للتربية والتكوين قادرة على تحقيق تطلعاتنا المستقبلية؟ وهل بإمكاننا القضاء على جميع أنواع الفساد الأخلاقي والإداري والمالي والسياسي؟ ثم ما هو دور المجتمع المدني عملية التربية والتكوين.
بقلم الدكتور يونس العمراني
|
|
3674 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|