|
|
|
|
|
أضيف في 16 يناير 2012 الساعة 32 : 09
يحيى بوافي
بعد أن بين سارتر في كتابه "الوجود و العدم"، وتحديدا في الفصل الثالث من القسم الثالث، أبعاد العلاقة الأصلية بالغير، انتقل إلى التوقف عند العلاقات العينية معه.
ولما كانت حرية الغير هي التعامل الأساسي للذات في وجودها في ذاته بالنسبة للغير. فإن الذات تحاول الاستيلاء على هذه الحرية كيما تكون أساسا لنفسها، فكأن صلة الذات بالموضوع الذي تبدو عليه بالنسبة للآخرين هي الأصل فيما يسميه سارتر بالعلاقات العينية مع الغير. وفي ظل هذه العلاقات، تبقى الذات أسيرة دورة تحاول فيها الانفلات من الوجود في ذاته مع تعقبها للوجود في ذاته ولذاته. وأول شكل لهذه العلاقة العينية هو الحب؛ فكيف يتحدد الحب كنمط من أنماط العلاقة العينية مع الغير؟ إن كان الصراع هو المظهر الذي تتخذه علاقاتنا بالغير حسب سارتر، مثلما تكشف عنها النظرة’ إذ من خلالها يحاول كل من الذات والغير بشكل متبادل أن يسلبا كل منهما حرية الأخر، وأن يموضعه ’أي أن يتعالى عليه’ "لأن الصراع هو المعنى الأصلي للوجود لأجل الغير"1 كما يقول سارتر والانكشاف الأول للغير عبر النظرة’يجعله يمتلك وجودي، ويحتفظ بسره، أي أن يراني كما أنا فهو يسلبني وجودي لكي يمنحني في نفس الوقت وجودا من عنده، مما يجعلني مسؤولا عن وجودي لأجل الغير ’ من دون أن أكون، في نفس الوقت، أساسا لهذا الوجود. لكن بقدر ما أنكشف لذاتي كمسؤول عن وجودي فإنني أطالب بهذا الوجود الذي أنا هو وأريد استعادته. والتأسيس له بحريتي ذاتها وهو ما لا يمكنني كما يقول سارتر "إلا إذا تمثلت حرية الآخر ودمجته بذاتي وهكذا فإن مشروع استعادتي لذاتي هو أساسا مشروع لابتلاع الغير، إلا أنه لا بد لهذا المشروع ألا يمس طبيعة الغير" 2 أي أن الغير في هذه الحالة لن يكون موضوعا بل حرية لأن وجودي كموضوع هو علاقتي الوحيدة الممكنة مع الغير، فإن وجودي كموضوع هو وحده الذي يمكن استخدامه كأداة لاستدماج الحرية الأخرى؛ أي حرية الغير بداخله. وبالتالي يكون ما هو لذاته يحاول أن يتماهى مع حرية الغير لأجل التأسيس لوجوده في ذاته يقول سارتر: " إن القيمة الرئيسية للعلاقات بالآخر هي أن أكون الأخر تجاه ذاتي. وهو مثال أعلى استهدفه بطريقة عينية بالشكل الذي أكون فيه هذا الأخر تجاه ذاتي،وذلك يعني أن وجودي لأجل الغير يلازمه ما يدل على كائن مطلق يكون ذاته من حيث هو غيره ويكون غيره من حيث هو ذاته’ ويخلق بحرية كونه ذاته" من حيث هو غيره، ويخلق "كونه غيره" من هو ذاته، وهذا الكائن المطلق هو الكائن الذي يتناوله البرهان الانطلوجي أي هو الله"3 وهذا المثل الأعلى لا يمكنه التحقق من دون أن تتجاوز الذات العرضية الأصلية لعلاقاتها بالغير أي عدم وجود أية علاقة سلبية داخلية بين السلب الذي يجعل به الأخر نفسه غيري أنا والسلب الذي أجعل به ذاتي غير ما هو الغير، ولأنه لا يمكن تجاوز هذه العرضية، لأنها واقعة علاقتي مع الغير تماما مثلما أن جسدي هو واقعه وبالتالي فالوحدة مع الغير لا تقبل التحقق من حيث المبدأ لأن اندماج ما هو في لذاته والغير سيؤدي بالضرورة إلى زوال خاصيته الغيرية عن الغير. إن ما يفهم من هذا هو أن الحب يتخذ له كغاية استيلاء المحب على حرية "الغير" والمحبوب مع بقاء هذه الحرية بوصفها حرية. إن حرية الآخر هي ما يؤسس موضوعيتي وماهيتي’ فإذا استطعت أن امتلك هذه الحرية فإنني أصبح أساسا خالصا لذاتي وتبريرا لها أي "الله".
لذلك يكون الحب صراعا لا يبلغ منتهاه ومحاولة لإذلال حرية الغير وإخضاعها لسلطان الذات العاشقة دون أن تفقد الذات المعشوقة في نفس الوقت حريتها فالحب يتجاوز مجرد كونه امتلاكا حميميا’ لأنه تطلع من العاشق إلى أن يصبح معشوقا في نفس الوقت، وإن لم يتم له ما يريده فشل الحب. فما يريده هو امتلاك حرية الغير بوصفها حرية وأن يصير معشوقا من قبل هذه الحرية؛ أي أن تختاره هذه الحرية باستمرار وكما يقول سارتر"من يرد أن يحب لا يرد استعباد المحبوب ولا يهمه أن يصير موضوع وجدان عارم آلي ولا يريد امتلاك كائن آلي’ وإذا أردنا إذلاله يكفي أن نصور له أن الشغف الذي تشعر به حبيبته ليس سوى نتيجة لحتمية نفسية سيفقد العاشق حينئذ شعوره بقيمة الشخصية في حبه وكينونته" 4 كما أن المحبوب لا يريد أن يكون سببا في هذا الاختيار وإنما المناسبة الوحيدة والمميزة له؛ ففي الحب يريد العاشق أن يكون بالنسبة إلى الحبيب "كل شيء في العالم" أي أن يختصر العالم ويرمز إليه أي انه يريد أن يكون الموضوع الذي فيه يفقد الغير حريته، و يريد أن يكون تبريرا لوجوده وبذلك توضع لحرية الغير المحبوب حدود بحيث يتجاوز تعاليه كل المواضيع دون أن يتجاوز هذا الموضوع، فما يريده العاشق هو أن تكون حرية الغير محدودة في تعاليها وكما يقول سارتر مستنتجا:" إنه "العاشق" لا يريد التأثير في حرية الآخر، بل يريد أن يوجد قبليا من حيث هو قيد يحد من هذه الحرية؛أي انه يريد أن يكون معطى دفعة واحدة معها و خلال انبثاقها بالذات’ من حيث إنه القيد الذي عليها أن تقبله كي تكون حرة"5. بذلك تشعر الذات بالأمن؛ لأنها تخلصت من وجودها كأداة ووسيلة يمتطيها الآخر لبلوغ أهدافه و بعد أن أصبحت شيئا لا يمكن تجاوزه بل صارت القيمة العليا والحد المطلق بل الأساس الذي يقوم عليه كل حكم أو تقويم وهو ما يجب أن يتم بكامل الاختيار للغير دون إرغام أو إكراه.
والشعور قبل العشق والحب ليس هو بعده إذ يعتبر المعشوقين إحساس بأن وجودهما مرغوب فيه بكل تفصيلاته و أنه قد تم العثور على ما يبرره. لكن ما الذي يجعل الحب بالنظر إلى تكوينيه محكوما عليه بالفشل؟
المحبوب يرى المحب كموضوع بين غيره من الموضوعات، و كأداة يستخدمها للأجل تعاليه، ولكنه لن يحاول أن يجعل من ذلك الموضوع حدا له.أو أن يجعل من نفسه أسرا و رهينة لحريته، فعلى المحب أن يغريه و يغريه، باعتبار الإغراء محاولة لامتلاك الغير عن طريق موضوعية الذات؛ أي أن أن تكون بالنسبة له موضوعا مغريا و فاتنا ؛بحيث يتم السعي بالأفعال المختلفة إلى توجيه تعالي الغير نحو إمكانياتها الميتة لكي تصبح في نهاية الأمر الحد الذي لا يمكن عبوره. أو تحاول القيام بدور الوسيط بين المحبوب و بين العالم بأن تظهر ارتباطها بالعالم من خلال الثورة أو القوة أو النفوذ... إلخ، و كلتا المحاولتين لا قيمة لهما من غير الاعتراف الحر الذي يبديه المحبوب نحوهما، فهذه المحاولات لا يمكنها أن تتنبأ بأي تأثير ما دام الآخر في تأويله كما يريد، مما يجعل دلالة و معاني أفعال "المحب" منفلتة منه. لكن الإغراء في النهاية ليس هو الحب، لأنه قد يغريني خطيب أو دجال أو فنان... فيفوز بإعجابي دون يظفر بحبي، و هنا يطرح السؤال متى يصير المعشوق عاشقا أو الحبيب محبا؟
إنه يصير كذلك عندما يحاول أن يكون معشوقا، و بذلك يصير في نظر العاشق موضوعا يحرص على امتلاكه، وهو ما يتنافى مع المثل الأعلى للحب باعتباره امتلاك الآخر بوصفه ذاتية ناظرة subjectivité regardante، فكأن الحب هو أن يكون الإنسان محبوبا. وبالتالي فالمصير هو أن نظل في حلقة مغلقة ونهبا لتناقض مستمر، إذ تسعى الحرية إلى القضاء على نفسها، وترفض الذات أن تضع نفسها كذات، وإلا اختفت نظرة الغير واستحال إلى موضوع، ومن ثم تنمحي و تتلاشى كل إمكانية للحب، بعدما اقتصر أمره على الموضوعية، فإذا حاول المحبوب أن يضع الأساس لوجود المحب لم يستطع ذلك، إلا بعد أن يتعالى عليه كما يتعالى على الأشياء.
وبذلك لا يمكن لهذا التعالي أن يجعل من الموضوع الذي يتعالى عليه حدا لتعاليه وهذا هو مكمن وموطن التناقض في الحب. ومرد ذلك إلى أن الذوات بينها قوة لا تردم و يستحيل عبورها لأن كل ذات هي عبارة عن سلب داخلي للأخرى، وعدم قائم بين هذين السلبين الداخليين، والحب يريد أن يعبر العدم القائم بين الذوات مع احتفاظه بالسلب الداخلي، و ينتهي الأمر بالمحبين إلى أن يظل كل منهما في ذاتيته وأن يشرع في اتخاذ الأخر وسيلة من الوسائل و يكفي ظهور الثالث ليشعر المحبين بموضوعيتهما وموضوعية الآخر، ويصبح الحب موضوعا يتجه نحو الآخر، لهذا يلتمس المحبون الوحدة، لأن ظهور الثالث فيه قضاء على الحب، و الوحدة هي ما لا يمكن العثور عليه.
ما دمنا لسنا موجودين على الدوام إلا بالنسبة للذوات الأخرى. والذوات الأخرى هي على الدوام موجودة بالنسبة إلينا. هكذا يكون الحب محكوما بالفشل لثلاثة أسباب: * أنه حلقة مفرغة لا نهاية لها، إذ الحب معناه أن نحب وأن نحب معناه أن نحب وهكذا. * أن تحول المحبوب إلى ذات يحيلنا إلى موضوع ممكن في كل لحظة. * الوحدة التامة لا وجود لها، وبذلك يصبح الحب وهو هذا المطلق شيئا نسبيا إزاء الآخرين.
وهذا الفشل وما يصاحبه من غضب، هو الذي يجعل الأنا والغير ينحرفان جهة المازوشية حيث يحاول أن يموضع الواحد منهما نفسه بعنف، بل أن يؤدي نفسه ويشوهها أمام الأخر حتى يأسر انتباهه ويملأ أفقه، وبذلك تكون المازوشية محاولة رديفة لمحاولة الحب الفاشلة، لأجل فض الصراع بين حرية الأنا وحرية الغير، ففيها يحاول الأنا أن يجعل من نفسه موضوعا بصفة مطلقة، ويستخدم في هذه المحاولة حريته لكي يسلب الحرية من نفسه، فهو يسعى إلى تلمس اللذة في التنازل عن حريته إزاء خصم يريده الأنا حرا، ويحاول أن يشعر بأن الآخر يسوده ويقهره ويتسلط عليه، عندئذ يلتذ بإحساسه بالعبودية التي يفرضها عليه الآخر. ومعنى ذلك أن الأنا يلجأ إلى حرية الآخر لتجعل منه موضوعا أو وجودا في ذاته، فالأمر هنا متروك للآخر لكي يجعل الأنا يوجد، ولكن هل يمكن للأنا تحقيق هذه الغاية؟.
إن هذه المحاولة كسابقتها مقضي عليها بالفشل أو هي تحمل في ذاتها فشلها، وذلك لأن الأنا إذ يسعى لأن يجعل نفسه شيئا فهو يستعمل حريته الخاصة كذات حرة ومن ثم فإن المحاولة التي يبذلها لأن يصبح موضوعا تحيله إلى ذات. وبعبارة أخرى، إن الأنا يستطيع أن يصبح موضوعا بالنسبة للآخر ولكن لإتمام ذلك لا يكون موضوعا بالنسبة لذاته لأنه سيظل واعيا بمحاولته لجعل نفسه موضوعا للآخر.
وهو يذهب إلى أبعد من ذلك فيستعمل الآخر كأداة أو وسيلة لكي يصل إلى غايته. وهذا هو ما يفرضه من جديد على الآخر كذات إزاء موضوع، مما يحكم على المازوشية بالفشل من الأساس.
1- جان بول سارتر، الكينونة والعدم، ترجمة د/نقولا متيني، المنظمة العربية للترجمة، مركز دراسات الوحدة العربية، بيروت، أكتوبر 2009 ص476. 2- نفسه، ص477 3 نفسه 4 نفسه ص481 5 نفسه، نفس الصفحة
|
|
2810 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|