وَمِنْهُم مَّن يَلْمِزُكَ فِي الصَّدَقَاتِ فَإِنْ أُعْطُوا مِنْهَا رَضُوا وَإِن لَّمْ يُعْطَوْا مِنْهَا إِذَا هُمْ يَسْخَطُونَ” الآية 58 من سورة التوبة.
للأسف الشديد، هناك تماثلات كثيرة وقواسم مشتركة عديدة بين أحكام هذه الآية الكريمة من سورة التوبة، التي نزلت في سياق زمني يعود لأكثر من أربعة عشر قرنا، وخصّ بها الحق سبحانه وتعالى فريقا من أهل النفاق، وبين واقع حال “الفيلسوف” العائد لتوّه من براثن الغي، والقافل من أثون الانحراف السلوكي، والذي وسمه مُقرئ العدالة والتنمية بعبارة فيها من الذم أكثر من المديح:” المخمور التائب”.
فالرضا كل الرضا بعطايا السلطان، عندما كان يعطي ويجزل العطاء، ليس منّة منه ولا طلبا في حمد المعطى له، ولكن لأنها شيمة الملوك الكبار الذين تكون عطاياهم بقدر سعتهم، وبمقدار وجاهتهم ونبل سلالتهم. فعندما كان “أوفقير الجديد” يقف عند أعتاب القصر، كان يرضى بما أُعطي، متقلبا بين المناصب السامية في رحاب دار المخزن ووزارة الداخلية. ولم يكن وقتها يُسمع له لا فحيحٌ ولا حفيفٌ، ولمّا خذله إحساسه بالواقع، وانبرى واهم يتوهم بأن المناصب لم تعد تتسع لعلمه ووجاهته، وأن الكراسي أضحت تضيق بأردافه، جنّ عليه الليل وهو وحيد يهيم على نفسه في الطرقات بالرباط، فأضحى كالشاة الجرباء التي لا يقربها الراعي ولا الرعية، لعيب مرضي فيها. وللذكرى والتشبيه، فإن هذا الوصف البليغ كان قد أطلقه عبد العزيز بلخادم على حال الشقيقة الجزائر إبّان سنوات العشرية السوداء، وحال صديقنا اليوم من حال الجزائر بالأمس.
وفي الوقت الراهن، وبعدما ضّن العطاء وقدر الرزق وأدبر الصديق والرفيق، فإذا هو يسخط! وقد كانت التباشير الأولى لهذا السخط مع مقالات مأجورة تؤلب وأخرى تنفث سموم التفرقة الاثنية باسم الأمازيغية، قبل أن ينصرف مؤخرا إلى اللمز والهمز، ثارة عبر ذكر وقائع سابقة جمعته بأصدقاء الدراسة، وثارة أخرى عبر استعراض مهمات معينة كُلّف بها في سياق معين..وهي إشارات يعتقد أنه يضغط بها على أصحاب القرار، ناسيا أو بالأحرى متناسيا بأن مثل هذه التصرفات تكرس الانطباع بأن صاحبها بعيد عن طباع رجالات الدولة. وقديما قال الشاعر الحكيم (السموأل) “إذا المرء لم يدنس من اللؤم عرضه … فكل رداء يرتديه جميل”. ولعمري، أي رداء يسجي عورة صاحب رَواء مكة بعدما استعصى عليه أمر أن يحفظ سرا بسيطا من أسرار مهامه السابقة.
لكنك، وأنت تتابع حلقيات “العربيد التائب” في أحد المنابر الإعلامية الوطنية، أو أنك تطالع حجه المبرور في رواء أم القرى، ستجده أقرب إلى السذاجة منه إلى النباهة. فكيف لشخص يُقرّ صراحة بأنه كان في مهمة رسمية بإحدى دول جنوب شرق آسيا، ويعترف بأم لسانه بأنه عاقر الخمرة وقتها حد الثمالة! أليس هذا تبذير للمال العام؟ أو ليس هذا استهتار بالواجب المهني الذي تفرضه مهمة الدفاع عن المصالح العليا للبلد في المهام الرسمية؟ أم أن الاعتراف والتجرد من الذنوب، كما فعل جان جاك روسو في مذكراته، جعلت صديقنا يُقرّ بعربدته وسهراته الماجنة بأموال وزارة الشؤون الخارجية والتعاون آنذاك.
أكثر من ذلك، فعاشق أبي الطيب المتنبي ربما لم يعشق فقط أبياته وقصائده، بل ارتوى كذلك من شخصيته الهلامية التي كانت تنتقل بسلاسة وانسيابية من المديح إلى الذم والهجاء، كما تُقلب الكف من بطنها إلى ظهرها. ولعلّ هذا التأثر بشخصية المتنبي هو الذي أوحى له باختيار شعار المرحلة “اليوم ذم وغدا مدح”، بمعنى أنثر عبارات الذم اليوم علّها تثير حفيظة رفاق الأمس.. فتنفرج بعدها العطايا كما كانت دافقة بالأمس القريب.
وأول الناصحين لمسلم “السليقة والفطرة”، والذي لم يعد من “الـمُقمحين” بعد رواء أم القرى، كان هم أفراد أسرته الصغيرة، الذين قالوا له “إنك والله في ضلالك البعيد. إنك تحرق جميع سفنك بخرجاتك الشعواء”، لكنه كان يقول لهم كما أسلف “اللامزون بالصدقات”: إنني خبرت دهاليز السلطة وناسها، وهذه سبيلي لأجعلهم يراضونني بنصيبي من الصدقات وإلا سأكون من الساخطين. وقد كان هذا كلامه في العلن، بيد أن ما يضمره في السر والنجوى فيكاد يستشف من ظاهر الأقوال والأفعال، موحيا بأنه يطلب تقاعدا مريحا بمقدار تقاعد بنكيران أو أكثر! ولما لا وهو الفيلسوف المستنير المجدد الذي يعتقد بأنه يحسن لغة الضاد أكثر من البحتري وأبي البقاء الرندي ومن النابغة الذبياني…وغيرهم كُثر.
وبغض النظر عن شطحات المقرئ، التي حاولت إرجاع “السكير التائب” إلى واجهة الأحداث عبر فهلوة كلامية موغلة في الكذب والتزلف للأشخاص، وبصرف النظر أيضا عن خرجات ” الـمُقمح” الذي ارتوى و”تضلع” ماءً بعد رواء مكة، فإن المؤكد هو أن رجل السلطة المتخلى عنه، حسب تعبيره، يحاول جاهدا شغل ساعات عطالته ببعض الثرثرة الفكرية، التي يجتر فيها باستمرار ثلاث أو أربع شخصيات بعينها في المدرسة المولوية، ويحيل في كلامه على بعض الأعلام في الأدب العربي كلّما عرّج على الشعر والأدب، من قبيل المعري والمتنبي وطرفة وابن زيدون …وهم رواد يعرفهم جيدا كل جيل الستينات والسبعينات والثمانينات ممن درسوا المحفوظات في المدرسة العمومية. فلا سبيل إذن للمفاخرة بحفظ شعرهم، لأن الكل منا يعرف أبيات وقصائد المعري، خاصة تلك التي تحدث فيها عن المنخدعين بعقلهم: ” أيّها الغِرُّ، إنْ خُصِصْتَ بعقَلٍ..فاتّبعْهُ، فكلُّ عَقلٍ نَبيّ”. وللأسف الشديد، فالسكير التائب لم يَغْنَ بعقله، وإنما ساقه نزقه وإحساسه المتعالي إلى خانة رجل السلطة النافق من زمرة الكبار.