|
|
|
|
|
أضيف في 03 ماي 2019 الساعة 20 : 18
المغرب نموذجا … إلا أنه بالرغم من هذه الأهمية الشارطة للعنصر البشري كأثمن رأسمال منتج في كل استثمار اجتماعي تنموي، فإن المسؤولية الفكرية والاجتماعية لنقد ذاتي مسؤول وبناء تقتضي الاعتراف بواقع كون مشاريع وخطط وتوجهات التنمية في مجتمعاتنا، قطريا وقوميا، قد كان من بين أخطائها القاتلة تهميشها أو تغييبها لدور ومكانة وقيمة الرأسمال البشري في عمليات التنمية الشاملة، فظلت بذلك، في مجملها، مشاريع متخبطة، معاقة، معطلة، وغارقة في بؤس الدوران المتكرر في الحلقات المفرغة.
تمهيد: نحو منظور سوسيولوجي نقدي لمقاربة "المسألة الجهوية"
تبرز الأبحاث السوسيولوجية والأنثروبولوجية والتاريخية وغيرها من البحوث الاجتماعية أن مسألة تدبير الشأن العام في كل مجتمع هي مسألة سوسيوثقافية بالأساس –كما سنبين ذلك لاحقا أي أنها وثيقة الارتباط بمنظومة القيم والرموز والأعراف والعادات والتقاليد والقوانين وبنسق العلاقات والأفعال والتبادلات المادية والرمزية السائدة في مجتمع محدد في الزمان والفضاء، أي بمضمون ودلالات الثقافة: culture المتبناة فيه، وذلك بالمعنى السوسيوأنثروبولوجي العام لهذا المفهوم: (الثقافة ).
ويستفاد من معطيات التاريخ الاجتماعي والسياسي والاقتصادي… لمجتمعاتنا الثالثية والعربية أنها قد عرفت أشكالا متعددة من التنظيم والهيكلة والتوجيه لمسألة تدبير دواليبها الاجتماعية المختلفة. كما أن هذه الأشكال قد كانت –ولا تزال ضمن حدود معينة متباينة من حيث نمط ومستوى التنظيم والفعالية والمشاركة وضبط علاقات المجتمع بالهياكل الاجتماعية والسياسية المسيرة والمتحكمة في السلطة وفي توجيه وتدبير الشأن العام. ويرجع هذا التباين –كما أسلفنا إلى ارتباط هذه الأنماط من التنظيم بالمنظومات الثقافية، وبالهياكل الاجتماعية والسياسية والاقتصادية القائمة في المجتمع المعني المحدد في الزمان والمكان، أي بثقافته الموجهة لأساليب تدبيره لاختلافه وتعدده.
وهكذا فإذا أخذنا نموذج المغرب كبلد عربي ثالثي أمكننا القول –على سبيل الإشارة والتمثيل لا الحصر إن مفهوم "الجماعة: Commune/Collectivité"، ومفهوم "القبيلة: Tribu"، ومفهوم "المخزن: Makhzen" تعتبر من بين أبرز المفاهيم المفتاحية الأساسية لتحليل وفهم طبيعة النظام الاجتماعي والسياسي والثقافي في المجتمع المغربي الحديث والمعاصر، وخاصة فيما قبل وأثناء المرحلة الكولونيالية، بل وبعدها أيضا. فلقد كانت هذه الأطر والهياكل الاجتماعية التنظيمية، ولا سيما في فترة ما قبل الظاهرة الاستعمارية، أطرا فاعلة، منتجة، ومندمجة في محيطها السوسيوثقافي العام، متفاعلة ومتكاملة –ضمن شروط وحدود معينة مع غيرها من المؤسسات والمكونات الاجتماعية المركزية الأخرى مثل: المسجد، والزاوية، والأسرة…الخ. غير أن التدخل الاستعماري قد عمل، كما هو معروف، على تحطيم العديد مما كانت تتوفر عليه مجتمعاتنا الثالثية من بنيات وهياكل اقتصادية واجتماعية وسياسية… "تقليدية"، فارضا عليها نماذج وبدائل غريبة عنها، ومحتفظا، من هذه الأطر والهياكل التقليدية المتآكلة، والمتواجدة خارج التاريخ في منظور الفكر الاستعماري، بما يخدم مصالحه ويتواءم مع غاياته وأهدافه الضمنية والمعلنة، ومبررا ذلك، في الوقت ذاته، بالدور التاريخي والحضاري والإنساني المزعوم للاستعمار والمتمثل في "رسالته التحضيرية والتحديثية" التي سوف ينجزها في مجتمعاتنا المتخلفة حين سيساهم، كما كان يدعي، في إخراجها مما هي عليه من تأخر تاريخي وعلمي وثقافي وتكنولوجي إلى دنيا التقدم والنماء والحداثة التي وصلتها المجتمعات الغربية المتقدمة.
إلا أن الدولة الحديثة التي قامت في مجتمعاتنا الثالثية والعربية والتي طرحت نفسها كبديل "وطني" وتاريخي وسياسي للاستعمار، مؤسسة وتوجهات فكرية وحضارية…، قد أبانت، خلال عقود من الاستقلال الشكلي لهذه المجتمعات، عن تخبطها، بل عن عجزها فيما يتعلق بتدبير تمايزات واختلافات ومشكلات هذا الوضع الهجين الذي تعيشه حاليا، وضع المراوحة البئيسة واليائسة بين "تقليد" فقد، بفعل عوامل وإكراهات الاستعمار والتبعية والتخارج والعولمة الشاملة حاليا، الكثير من سماته ومقوماته "الأصيلة"، وبين "حداثة أو تحديث" مزعومين مشوهين.
ويستخلص من الأدبيات التنموية والسياسية، وكذا من التجارب والنماذج والبرامج والاستراتيجيات وخطط التنمية الاجتماعية المعتمدة في بلدان العالم الثالث أن كل مجتمع قد حاول إدارة "تنميته أو مشكلات تخلفه" بشكل ظل مرتهنا، على العموم، بالشروط الخاصة، بثقافته، وطبيعة تركيبته الاجتماعية والسياسية، وإمكاناته المادية والبشرية، وأيضا بنمط علاقاته وتوجهاته سواء على المستوى المحلي أو الإقليمي أو الدولي. هذا مع العلم بأن القاسم المشترك الذي يظل حاضرا بين هذه المجتمعات هو اندراجها في إطار أوضاع التخلف والتهميش التي ترتبط بشروطها ومقوماتها الذاتية، كما ترتبط بالسياسات والسيناريوهات الدولية لتقسيم وتحديد أشكال النفوذ والهيمنة والمكانة على المستوى الكوني العام. ولنستحضر الآن شروط، وإكراهات، وتوجهات العولمة.
وإذا كنا لا نرمي من وراء هذا العرض إلى مقاربة كل القضايا والمفاهيم الآنفة المتعلقة بأوضاع مجتمعاتنا الثالثية: ماضيا، وحاضرا، وتوجهات مستقبلية، مما لا ينسجم مع محدودية هذه المساهمة وظرفيتها، فإننا سنركز هنا على محاولة مقاربة بعض مفاهيم ومكونات الخطاب التنموي المعاصر في مجتمعاتنا هذه، والذي تراهن أهدافه ومقترحاته على إخراج هذه المجتمعات مما عليه من تخلف شامل ومعقد إلى فضاءات التجديد، والتجدد، والتنمية، والحداثة، ونقصد بذلك مفهوم "الجهوية: Régionalisme" كسياسة تدبيرية وتشاركية وعقلانية وديمقراطية ولا مركزية لإدارة الشأن العام، وكذلك ما يرتبط بهذه السياسة مما نقترح تسميته بـ"المسألة الجهوية: Question Régionale/Régionaliste" ونعني بذلك ما تثيره مفاهيم ومكونات الجهة، والجهوية، والجماعات المحلية، والتنمية الجهوية… من قضايا وتساؤلات ومشكلات فكرية واجتماعية واقتصادية وسياسية متعددة الأبعاد والدلالات، وذلك على اعتبار "الجهوية" كسياسة وتوجهات، وكبناء تنظيمي، ليست بمثابة هيكلة مستقرة أو هامدة وإنما هي سيرورة ديناميكية من التنظيم والبناء وتفاعل المصالح والرهانات والتفاعلات… وطنيا وجهويا بل وحتى دوليا كذلك، ولذا فإن الجهوية تظل، بفعل هذه الدينامية الحية، متفاعلة مع شروطها التاريخية، وبالتالي تظل مسألة فرعية ضمن ما يعرف بـ"المسألة الاجتماعية:Question Sociale" في مدلولها السوسيولوجي الشمولي.
وتأسيسا على ما سبق، فإن مقاربة هذه "المسألة الجهوية"، بما هي مسألة متعددة الأبعاد والجوانب، تحتاج إلى تدخل اختصاصات ومنظورات متعددة ومتكاملة في الآن ذاته أيضا. ولعل المنظور السوسيولوجي –الذي سنستأنس به في هذه المساهمة لاعتبارات محض منهجية نظرا لما يتسم به من شمولية وانفتاح في الرؤية والتحليل فإنه يبدو، من الناحية المنهجية، مناسبا للاقتراب من هذه المسألة المبحوثة. مع العلم بأن المنظورات والمقاربات الأخرى تظل، بالنسبة لهذا المقترب السوسيولوجي، متكاملة معه ومثرية له باستمرار. كما يفترض في هذا المقترب ذاته أن يشكل مدخلا أساسيا ومقدمة ضرورية –في تقديرنا لمختلف المقاربات التي يمكن أن تتناول "الجهوية" تناولات تفصيلية مركزة على أبعادها السياسية أو الاجتماعية أو الاقتصادية أو القانونية أو الإدارية… الخ. وتلك خاصية منهجية معروفة ومميزة للتحليل السوسيولوجي –ولا سيما في مستواه الماكروسوسيولوجي العام إذ يسعى إلى أن يحقق تموضعا منهجيا دقيقا بتركيزه على نقطة تقاطع مختلف المقاربات التي تعتمدها العلوم الاجتماعية في معالجتها للأبعاد والجوانب المذكورة. مع التنبيه إلى أن هذه الإشكالية المنهجية تتميز بكونها ذات طابع جدالي منتج باستمرار للعديد من المشكلات والتساؤلات المعرفية، والطروحات النقدية العميقة. ولذا فنحن لا نتبنى بشأنها أي دوغمائية ساذجة أو مغرضة. كما أن شرطيات هذا العرض لا تسمح بمعالجتها لما يكفي من التفصيل والتوسع.
هكذا إذن، وانطلاقا من موجهات هذا التمهيد، ورغبة منا في إنجاز ملامسة مركزة لأهم جوانب المسألة المبحوثة، نقترح أن نمحور هذه المداخلة حول ما يلي:
+ المحور الأول: حول السياق السوسيوتاريخي والحضاري الغربي لتبلور مفهوم الجهوية وثقافة التدبير الديمقراطي للتعدد والاختلاف.
+ المحور الثاني: أهم الأهداف الاجتماعية والتنظيمية لسياسة "الجهوية".
+ المحور الثالث: حول أهم محددات السياق السوسيوتاريخي لسياسة "الجهوية" بالمغرب.
+ المحور الرابع: السياسات الجهوية بالمغرب: أبرز العوائق والمشكلات.
+ الحور الخامس: أزمة التجربة الجهوية بالمغرب: عن أهم شروط وبدائل التجاوز والتأسيس.
يتضح من المضامين المباشرة لهذه المحاور أنها يمكن أن تشكل مداخل هامة لطرح ومناقشة العديد من القضايا المرتبطة بـ"المسألة الجهوية". وبالتالي فإن كل محور منها يحتاج إلى دراسة، بل دراسات معمقة. غير أننا سنحاول هنا –للاعتبارات المنهجية الآنفة أن نركز في مناقشة هذه المحاور على ما هو هام، دال، ومعبر.
المحور الأول: حول السياق السوسيوتاريخي والحضاري الغربي لتبلور مفهوم الجهوية وثقافة التدبير الديمقراطي للتعدد والاختلاف.
باستقرائنا للمعالم البارزة في هذا السياق الغربي نجد أن "الجهوية" كآلية تدبيرية لتعزيز لا مركزية صنع القرار وتصريف مقتضياته، ولدمقرطة تسيير وتنظيم وهيكلة اختلافات دواليب ومجالات ومكونات ومؤسسات المجتمع، هي –بهذا المعنى العام مفهوم حديث التبلور، وإن كانت له سوابق تاريخية أصبحت، في مجتمع العقلنة والتنظيم والمأسسة، تقليدية متجاوزة. غير أننا، لكي ندرك دلالة هذا المفهوم في الخطاب التنموي المعاصر، يبدو من المفيد أن نؤطره تاريخيا لنتعرف على السياق الذي أفرزه، وأيضا على السياقات المغايرة التي نقل إليها ووظف فيها، ثم على أهم عوائق وعواقب هذا النقل أو التوظيف، وما يطرحه كل ذلك من تفكير في شروط وآفاق وبدائل التجاوز. وهكذا يمكن أن نذكر، فيما يخص السياق الغربي تحديدا، بالملاحظات الآتية:
+ لقد ظهر مفهوم الجهوية –بالمعنى السابق في إطار المجتمعات الغربية وما عرفته، في تاريخها الحديث والمعاصر، من تحولات معرفية وسياسية وتكنولوجية واجتماعية وحضارية متعددة مست كافة المجالات والأصعدة. وقد كان من بين أهم ما أفرزته هذه التحولات تأسيس "دولة وطنية: Etat National" كانت بمثابة تتويج تاريخي للمشروع أو المد البورجوازي الذي قادته البورجوازية الغربية بكل فصائلها، والذي كان بمثابة البديل الاجتماعي والسياسي والفكري للنظام الإقطاعي المتداعي، بنيات وهياكل اجتماعية وأنساقا قيمية وعقائدية..
غير أنه، في بداية تشكل هذه الدولة الوطنية، كانت قد اهتمت بأن تكون سلطتها مركزية بالأساس. وذلك بحكم انشغالها الكبير ببلورة "مشروع مجتمعي: Projet sociétal" وفاقي، متكامل المكونات، واضح الأهداف والمقاصد والتوجهات الفكرية والسياسية. لذا فقد كان "البعد أو الهم المركزي" حاضرا في بداية تشكل هذه الدولة الوطنية في الغرب. وذلك دون أن يلغي هذا الواقع طابعها الديمقراطي المستنير. وللتدقيق، فإننا نتكلم هنا عن المجتمعات الغربية في مناخ القرنين الثامن عشر والتاسع عشر بشكل خاص.
ومع تسارع وتيرة التحول والتغير الاجتماعيين، وما كان لذلك من انعكاسات على كافة الأصعدة، برزت مجموعة من القضايا والمشكلات والحاجات.. الجديدة في الغرب طرحت الجهوية كاختيار تدبيري لتمايزات المجتمع، يهتم بجميع جهاته ومجالاته وقطاعاته الإنتاجية المتعددة. ولعل من أهم نتائج التحولات الآنفة، والتي كانت –بشكل أو بآخر وراء تدعيم تبني سياسة "الجهوية"، "تقسيم العمل الاجتماعي: La division du travail social": ومعنى ذلك أن المجتمعات الحديثة، ونظرا لتعدد وتعقد مكوناتها: (مؤسسات، وبنيات، وعلاقات، وأنماطا معرفية وقيمية..الخ ) قد أصبحت تتطلب ما يدعى بـ: "التخصص الوظيفي: Spécialisation Fonctionnelle" بحيث نجد أن كل فرد، وكل جماعة، أو جهة، أو قطاع، أو مؤسسة، أو مجال… يجب أن يكون له تخصص معين مضبوط ينتظر منه أن يشتغل في إطاره داخل حدود الأهداف والوظائف المرسومة له من طرف المجتمع العام. ويتوقع، في إطار الالتزام بمعايير ومقتضيات هذا التخصص، أن يصبح القطاع، أو الجهة، أو المؤسسة المعنية.. أكثر إيجابية ومردودية.
+ تطور مفاهيم الديمقراطية ومبادئ تكافئ الفرص الاجتماعية: Démocratie et égalité des chances، أفقيا: بين جهات ومناطق ومجالات المجتمع.. وعموديا: بين مختلف أفراده وطبقاته وشرائحه وفئاته المتعددة والمتباينة المصالح والمواقع والأدوار.. ويندرج مفهوم "الجهة" بكل دلالاته وحوامله ضمن هذا السياق العام لتطور الديمقراطية في المجتمعات الغربية. إن "الجهة"، كمكون أساسي للمجتمع، ستصبح في ظل هذه الشروط ممتلكة لحقها في ممارسة الاختلاف والتميز في حاجاتها وأولوياتها واهتماماتها، وفي نهج مختلف الأساليب الديمقراطية للتعبير عن مطالب وخصوصيات هذا الاختلاف والتميز، بل ولهيكلة وتدبير هذا الاختلاف أيضا، وفق ما تمليه عليها ظروفها الاجتماعية والاقتصادية والبشرية الخاصة.
+ تبلور المفاهيم المرتبطة بالتنظيم العقلاني للمجتمع: "Organisation Rationnelle"، وذلك على اعتبار أن هذا التنظيم، كمفهوم جديد، يقوم على استراتيجية بناء تنظيم المؤسسات والمجالات الاجتماعية على أساس عقلاني رشيد، يرتكز، في سياسة إسناد المهام والوظائف والمسؤوليات –وسواء بالنسبة للأفراد أو المؤسسات أو الجهات على الكفاءات والخبرات الفنية والاجتماعية لا على الهويات أو العلاقات القرابية والزبونية أو غيرها من الاعتبارات اللاعقلانية، التي ما تزال مهيمنة بشكل كبير في مجتمعاتنا الثالثية. لقد كانت هذه "الفلسفة التنظيمية" نقلة نوعية في المجتمع الحديث، ليس فقط على مستوى الفكر، بل على مستوى الممارسة الاجتماعية كذلك.
+ في إطار هذه التحولات الآنفة أيضا، برز مفهوم أساسي ألا وهو مفهوم التخطيط للتنمية: Planification في مختلف المجالات والمستويات، وطنية كانت أو جهوية، وذلك على اعتبار أن هذا التخطيط رصد للحاجات والإمكانات.. وبلورة للاستراتيجيات التدبيرية الكفيلة بتفعيل هذه الإمكانات وتلبية هذه الحاجات. إن هذه الشروط كلها سوف تدعم السيرورة الديمقراطية لصنع القرار، الذي سوف لن يصبح –في إطار هذا التخطيط العقلاني المتكامل خاضعا لرغبات أو أهواء أو مصالح محدودة ولا عقلانية، بل سوف يتم في إطار عقلاني منظم، تشارك فيه كل الأطراف والفعاليات والمكونات المعنية في المجتمع. في ظل هذا الفكر التخطيطي يظهر مفهوم "الجهوية" بكل حوامله ومستتبعاته، كمحاولة لإيجاد صيغة توافقية رشيدة بين المجتمع المدني:Société civile من جهة –بكل فعالياته ومؤسساته وجهاته.. وبين الدولة الوطنية كإطار جماعي ممثل للمجتمع العام ولمشروعه الشمولي، الذي تكاملت، في السيرورة الحضارية لتشييده، هذه المكونات الهامة التالية:
ـ الدولة: كإطار وفاقي وعقلاني وشرعي لتنظيم وهيكلة العلاقات والتفاعلات الاجتماعية لكافة عناصر ومكونات المجتمع.
ـ المجتمع: في مفهومه النظري العام، أي المجال الشمولي، المادي والرمزي، الذي ينتظم العلاقات والتفاعلات الآنفة.
ـ الأمة: كتعبير عن توجهات فكرية وثقافية وعقائدية وحضارية معينة، والتي ترتبط بالانتماء إلى هوية محددة قد تتجاوز أحيانا حدود الانتماء الجغرافي أو الإثني لترتبط بخصوصيات أعم وأشمل.
هكذا إذن، وفي إطار هذا السياق الغربي الموسوم بالعديد من سمات التكامل والتوافق –ولكن ضمن حدود نسبية معروفة تبلورت مفاهيم: "الجهة، والجهوية، واللامركزية" كآليات تدبيرية تهدف إلى إقامة قطيعة مع الآليات التقليدية كالعلاقات العشائرية، والقبلية، والقرابية، والزبونية... المتسمة بالعديد من مظاهر اللاعقلانية. إلا أنه في إطار استفحال العديد من شروط ومظاهر التبعية والتخارج في الدول النامية، وأيضا في إطار الشروط الراهنة لعولمة الاقتصاد والثقافة ونماذج التدبير والتخطيط المختلفة، ولا سيما في إطار ما أصبح يدعى بالنظام الكوني الجديد، قد انتقل الكثير من المفاهيم الآنفة الذكر إلى مجتمعات العالم الثالث، وذلك للاستئناس بها في سياساتها التنموية. وقبل التطرق إلى مدى نجاعة هذا الاستئناس، يبدو مفيدا أن نتطرق ولو باختصار، كما فعلنا آنفا، إلى الأهداف العامة لسياسة الجهوية، أي إلى المحور الثاني من المداخلة.
المحور الثاني: أهم الأهداف الاجتماعية والتنظيمية لسياسة الجهوية.
إن مسألة تقسيم المجتمع إلى جهات أو مناطق حسب معايير أو اعتبارات جغرافية أو اقتصادية أو اجتماعية أو سياسية أو إدارية معينة مسألة تختلف باختلاف السياقات الاجتماعية المتعددة، وأيضا باختلاف العلاقة القائمة، في مجتمع محدد في الزمان والمكان، بين دولة وطنية من جهة، ومجتمع مدني من جهة ثانية. إن كيفية تدبير المجتمع لشأنه العام مسألة سوسيوثقافية في العمق تفسرها وتحددها العديد من الاعتبارات الفكرية والسياسية والإيديولوجية والثقافية الخاصة، التي تتطلب بدورها منظورات متباينة لمقاربتها وفهم أبعادها. و"الجهوية" هي نمط من التعبير عن تصور مجتمع ما لحاجاته ومشكلاته وإمكاناته، وللكيفية التي يراها مناسبة لتدبير هذه الأمور والتحكم فيها. إنها إذن آلية تدبيرية يفترض فيها أن تندرج ضمن استراتيجية تخطيطية شمولية ومتكاملة ناظمة لكل الجهات، والقطاعات: مثل الثقافة، والصحة، والصناعة، والإسكان، والتعليم والتكوين واستثمار الموارد البشرية…الخ وذلك بكل ما يؤطر هذه الاستراتيجية من أهداف، وخلفيات، ومراهنات…
وغير خاف أن هذه السياسة الجهوية قد وقع تدعيمها في المجتمعات المتقدمة بشكل كبير جدا. وأن الفلسفة التدبيرية والعقلانية التي يقوم عليها تنظيم هذه المجتمعات قد ذهبت بعيدا في هذا التدعيم، وذلك إلى الحد الذي أفسحت فيه لكل جهة، ولكل مؤسسة، بل ولكل فرد، كي يبني مشاريعه الخاصة للتعبير عن المتطلبات والاهتمامات والخصائص المميزة لكل العناصر السالفة.
+ تهدف "الجهوية" أيضا إلى عقلنة Rationalisation العملية التخطيطية. ذلك أن التخطيط، وخاصة في الظرفية الراهنة –وسواء تعلق الأمر بالدول ذات التوجه الليبرالي أو تلك التي كانت تأخذ بالنظام الاشتراكي سابقا لم يعد تخطيطا مركزيا خاضعا لقرارات أو توجيهات ذات طابع فوقي إكراهي، وإنما أصبح يعتمد أكثر فأكثر على دعم المشاركة أو التشارك بين كل الأطراف المعنية. إن هذا التوجه الجديد هو الذي أصبح يدعى بالتخطيط التشاركي Planification Participative، أي ذلك التخطيط الذي يتغيى إشراك كل الفعاليات المعنية أو المسؤولة اعتمادا على أهدافها وإمكانياتها وخصوصياتها.. لبلورة تخطيط شمولي متكامل ومنسجم مع التوجهات الكبرى للمجتمع بشكل عام. والجهة، بمفهومها المنوه به آنفا، تقع في عمق هذه المسألة التدبيرية الحاسمة.
+ من الأهداف الأساسية "للجهوية" كذلك دمقرطة صنع أو اتخاذ القرار: Démocratisation de la prise de Décision ذلك أن هذا القرار، لكي يكون ديمقراطيا، يجب أن تشارك فيه كافة الأطراف المستهدفة لا أن يحتكر من قبل جهة واحدة. وقد أكدت التجربة التاريخية على ضرورة إيلاء الأهمية البالغة للعديد من المعطيات والجوانب والمكونات الاجتماعية… حينما نريد اتخاذ قرار ما بصدد مسألة معينة. وفي غياب هذه الحيثية، فإن القرار المتخذ –حتى ولو كان محترما لبعض الآليات الديمقراطية الشكلية في صنعه وتصريفه لن يكون متسما بما يفترض فيه من نجاعة وصلاحية وثبات نسبي بالطبع. إن ضمان هذه الدمقرطة، ضمن سياسة جهوية ووطنية متكاملة، سيتيح الفرصة للخصوصيات الجهوية لتبرز ولتعبر عن ذاتها وعما تتوفر عليه الجهات من إمكانات وطاقات بشرية ومادية، وعما تطمح إلى بلوغه من أهداف ولتساهم كذلك، ضمن منظور تنموي شامل، في مسيرة التنمية الاقتصادية والسياسية والثقافية والاجتماعية العامة والمستديمة والناظمة لاختلاف مكونات المجتمع.
إن "الجهوية"، بهذا المعنى الإيجابي، هي آلية تدبيرية للترشيد، وأداة من أدوات التسريع بالعمل التنموي. فكيف ذلك؟ إننا حينما نخطط على مستوى الجهة –وطبعا في إطار التوجهات الكبرى للمجتمع سنتوفر على إمكانية التركيز على مجالات أو قطاعات أو مشكلات جهوية محدودة ومحددة، مما يمكن من اقتصاد الجهد وتلافي الإغراق في الحلول أو الوصفات التعميمية وغير الدقيقة. ولذا فإن الخطة المقترحة –إذا توفرت لها الشروط المادية والمعنوية المعقولة والمناسبة ينتظر منها أن تكون أكثر فعالية ونجاعة.
وعلى اعتبار أن التنمية هي عملية إرادية وذاتية بالأساس، أي قائمة على ما يسمى في الخطاب التنموي المعاصر بمبدأ الاعتماد على الذات، فإن ذلك يصدق على الجهة نفسها، أي أن تنميتها يجب أن تستند، ضرورة، على مقوماتها وشروطها الخاصة. غير أن ذلك لا يعني أن تستقل أو تنعزل هذه الجهة لتكون دولة داخل دولة، أو لتدخل في صراع تناحري مع جهات أخرى، وإنما يراد باعتماد سياسة "الجهوية" كدعامة أساسية للتنمية أن تنخرط المشاريع التنموية الجهوية في إطار سيرورة تنموية شمولية مرتكزة على الاعتماد المتبادل بين الجهات المكونة للمجتمع، وعلى التكامل بين الخاص والعام، بين الجهوي والوطني.
كانت هذه بعض أهم الأهداف العامة التي استهدفتها السياسات الجهوية في المجتمعات الغربية. وللتذكير فإننا قد ركزنا هنا على القواسم المشتركة بين هذه المجتمعات، مع التأكيد على ضرورة الوعي بما بينها من مظاهر الاختلاف والتمايز، وذلك لاعتبارات سوسيولوجية عديدة لا مجال لتناولها نظرا لحدود هذه المداخلة.
لننتقل الآن إلى السياق المغربي في شروطه الراهنة، ولنتساءل: كيف تم اعتماد "الجهوية" كسياسة تدبيرية وتنموية ضمن هذه الشروط؟ إن الجواب على هذا السؤال يتطلب بلا شك دراسات معمقة وموسعة لفهم مكونات ومنعرجات تاريخ المغرب الحديث والمعاصر من جهة، ثم لتقويم تجربة "الجهوية" في هذا التاريخ من جهة ثانية. لذا فإن ما سنقدمه، في المحور الثالث من هذه المداخلة، سوف لن يتضمن سوى بعض الأفكار التي نقترح طرحها للتفكير والتساؤل والحوار حول أهم محددات السياق السوسيوتاريخي والاقتصادي والسياسي الذي انتظم التعامل مع "الجهوية" في المغرب، مفهوما وممارسة.
المحور الثالث: حول أهم محددات السياق السوسيوتاريخي... لسياسة "الجهوية" بالمغرب
نريد في البداية أن نذكر بضرورة التمييز بين "الجهوية" كما كانت متنفذة في المجتمع التقليدي بكل ما تقوم عليه من عقلية قبلية وعشائرية ومن عقديات وأساطير وممارسات ثقافية واجتماعية مكرسة الاختلاف بين القبائل والجهات والأعراف والإثنيات داخل المجتمع، وبين "الجهوية" كآلية تدبيرية حديثة، كما سبقت الإشارة إلى ذلك. ولعل تعثر ممارسة السياسات الجهوية في المغرب المعاصر هو الذي أدى إلى الخلط أحيانا بين الدلالتين السالفتين للمفهوم، أو جعل بعض الخطابات، التي تتناوله بالتحليل والنقد، غالبا ما يتم فيها النظر إلى مفهوم الجهوية بمنظور قدحي Péjoratif لا يرى في السياسات الجهوية في المغرب أي تدبير عقلاني للاختلاف والتعدد داخل الوحدة الوطنية الشاملة كما هو منتظر. ولعل ضعف مردودية الأداء الوظيفي لهذه السياسات قد كان بدوره وراء هذا المنظور الانتقاصي. وفي هذا الصدد، تبدو أهمية التأكيد على المعطيات الدالة الآتية:
+ من المهم، في هذا الإطار، أن نذكر بأنه في بداية تشكل "الدولة الوطنية" في المغرب غداة الاستقلال –مع التحفظ على استعمال مفهوم "الدولة الوطنية" في السياق المغربي لاعتبارات تتعلق بطبيعتها وبآليات وسيرورة تشكلها تاريخيا كان الاهتمام منصبا، بشكل أساسي، على القضايا الوطنية الكبرى. وقد تطلب ذلك تصورا وتأطيرا لهذه القضايا متسما بالمركزية والشمولية، وذلك لتلبية الحاجات الملحة والضرورية لكافة شرائح وطبقات وجهات المجتمع ضمن منظور وطني عام. فمشكلات أساسية كالصحة، والتعليم، وبناء المؤسسات الإدارية وغيرها… كلها مسائل لم يكن الاهتمام بها في مغرب ما بعد الاستقلال يتيح إمكانية إعطاء الجهة ما تستحقه من عناية وتأطير، ولكن دون غياب ذلك بشكل كلي.
في إطار هذه الظرفية التاريخية الموسومة بتفاقم مخلفات العهد الاستعماري ظل التخطيط شموليا، وكانت النزعة المركزية، على العموم، مهيمنة على التوجهات الكبرى للسياسات التخطيطية والتنموية المتبعة من طرف الدولة. إلا أنه يجب التنبيه إلى أن هذه المرحلة لم تخل من إنجازات لا بأس بها، وفي العديد من المجالات. وعلى سبيل المثال، فإن من أهم هذه الإنجازات، في مجال التعليم واستثمار الموارد البشرية –رغم العديد من السلبيات، نجد أن العديد من الأطر والكفاءات، من موظفين ومسؤولين ومدرسين وباحثين..الخ، هم من إنتاج هذه المرحلة بالذات، أي من أجيال الاستقلال، وإن كانت الحصيلة أقل مما نطمح إليه حاليا.
+ من الشروط التي رافقت ظهور مفهوم "الجهوية" في المغرب بروز وعي اجتماعي جديد نتيجة لما أسفرت عنه بعض الجهود المبذولة في إطار تعميم التعليم ومحو الأموية، رغم الصعوبات المتعددة الذاتية منها والموضوعية، كغياب السياسة التربوية والاجتماعية المتكاملة، وثقل الإرث الاستعماري…الخ. وقد حملت هذا الوعي الاجتماعي شرائح وفئات جديدة كالطلبة، والعمال، وبعض النساء... فظهرت بفعل ذلك حركات وتنظيمات طلابية وعمالية ونسائية... وجمعيات ثقافية وطنية وجهوية... مما اعتبره البعض مؤشرات دالة على بداية تبلور "مجتمع مدني" حي، متحرك، له مطالبه، وحاجاته، ومشكلاته، وهمومه، واهتماماته، وخصوصياته المتميزة والمتمايزة.
+ يجب التنويه كذلك بآثار تطور المسار الديمقراطي في المغرب المعاصر، بما له وما عليه. إن المسألة الدستورية ضمن هذا المسار، بكل حواملها، وما رافقها من تعديلات دستورية، ومن استحقاقات، ومن سلوك انتخابي، ومن مشكلات وتعثرات وعوائق إدارية وسياسية واجتماعية متداخلة ومتعددة... كل ذلك قد جعل "الجهوية" في صميم عمق هذه المشكلات. وهو واقع دفع بمراكز القرار على المستوى المركزي إلى ضرورة إعادة النظر في السياسات التخطيطية المعتمدة لمراجعتها وبنائها على أسس جديدة وعقلانية، على الأقل كما يؤكد على ذلك الخطاب الرسمي المروج، تضع في الاعتبار مختلف الخصوصيات والمكونات الجهوية للمجتمع.
غير أن مفهوم "الجهوية"، باعتباره آلية عقلانية ظهرت في المجتمعات العربية لتدبير الاختلاف الجهوي داخل الوحدة الوطنية الشمولية، فإنه حين يتم نقله إلى المجتمعات الثالثية غالبا ما يفرغ من مضمونه الإيجابية. إن هذه المجتمعات، ونظرا لما يخترقها من مظاهر التبعية والتخارج، وما تتسم به بنياتها وهياكلها وتكويناتها الاجتماعية من تفكك، وغموض في المعايير والرؤى، وتناقض في الأهداف والقيم والمصالح والتوجهات... الخ، فإن المفاهيم والنماذج النظرية والتطبيقية التي تنقلها إلى سياقاتها بهدف الاستئناس أو الاسترشاد بها في تدبير استثمار مواردها البشرية والطبيعية لا يتم الاستفادة منها بشكل إيجابي وفعال، وغالبا ما تتحول في وضعية التخلف هذه إلى شعارات لا تستند على أساس واقعي ملموس. فما هي عوامل وأسباب ذلك؟ ينتقل بنا الجواب على هذا السؤال إلى المحور الرابع، أي إلى الحديث عن أهم العوائق والمشكلات التي تعترض سياسة الجهوية في شروط المجتمع المغربي.
المحور الرابع: السياسات الجهوية بالمغرب: أبرز العوائق والمشكلات
ليس من المقصود، ولا من المتيسر هنا أيضا، أن نقوم بجرد شمولي لكل هذه العوائق والمشكلات، وإنما المراد هو التذكير بأبرزها وأكثرها تصدرا. لذا يبدو مفيدا أن نركز على الملاحظات الهامة الآتية:
+ إن "الجهوية"، كسياسة تدبيرية للترشيد والتنمية، وكنمط من التفكير والتخطيط الداعم للديمقراطية واللامركزية، لا بد –لكي تكون منتجة وناجحة أن تتوفر لها مجموعة من الشروط المسطرية والتنظيمية والبشرية الضرورية، والمناخ السياسي والثقافي والاجتماعي المناسب. أي مجمل المقومات الكفيلة بنقلها من الخطاب إلى الفعل، وتحويلها من مبادئ وقيم وأهداف وترتيبات إدارية واقتصادية ومسطرية… إلى "ثقافة ممارسة"، أي إلى "سلوك ديمقراطي وعملي متنفذ" قائم على استلهام الشروط، والمقومات الآنفة.
وبالرغم من كون المغرب قد بذل، منذ انخراطه المباشر بالخصوص في سياسة "الجهوية"، جهودا كبيرة لدعم هذه السياسة، ولا سيما على المستوى التشريعي والمسطري، منذ 1971 إلى 1976، إلى التقسيم الجهوي الجديد سنة 1996، فإن تلك الجهود لم تفض إلى كل النتائج الإيجابية التي كانت منتظرة منها. بل إن بعض الدراسات الأولية –على ندرتها من حيث الشمولية والعمق العلمي قد أفادت أن تجربة الجهوية هذه قد كانت لها عواقب وتبعات سلبية على المسار التنموي العام. ولعل من أهم أسباب ذلك كون هذه التجربة لم تكن في مجتمعنا مندرجة في إطار رؤية شمولية متكاملة للتخطيط والبرمجة والتنظيم المجتمعي. وكما أسلفنا، فإن "الجهوية" كآلية تدبيرية وعقلانية حديثة قد انخرطت في إطار المجتمعات المتقدمة ضمن فلسفة تنموية واجتماعية واقتصادية وسياسة محددة، واضحة الأهداف والمقاصد، وقائمة على قيم ومعايير منسجمة مع مطالب وخصوصيات السياق السوسيوثقافي الذي تنتمي إليه. إن التساؤل حول مدى نجاعة السياسة الجهوية في المغرب ينبغي أن يطرح، في تقديرنا، ضمن هذا التصور: في إطار أي مشروع مجتمعي تندرج "المسألة الجهوية" بالمغرب؟ وما هي الأهداف العلنية والضمنية، والأطر المرجعية المتحكمة فيها، والتي تشرط بالتالي مآلها ونتائجها؟ لذا فإن "المسألة الجهوية" تطرح، عند مناقشتها، عدة قضايا للتفكير، والتساؤل، والحوار. ولكل هذه الاعتبارات فإننا نعتقد أنه، بعد هذا التأطير الاجتماعي العام الذي تحاول هذه المداخلة أن تقوم به، سيصبح بإمكان المقاربات الأخرى لهذه المسألة أن تتناول مختلف القضايا الفرعية المؤسسة للتساؤلات الآنفة، سواء على المستوى الإقليمي/الجهوي، أو على المستوى الوطني العام. وهكذا يمكن، على سبيل المثال، مناقشة التساؤلات/القضايا التالية: ما هي أهم المعايير القانونية والاقتصادية والاجتماعية والسياسية… للتقسيم الجهوي الجديد؟ ما هي الإمكانات المادية والمعنوية المتوفرة مثلا لأي مركز ليكون محورا جهويا فاعلا؟ بماذا يمكن أن يفيد على هذا المستوى جهويا ووطنيا؟ ما العلاقة التي يفترض أن تقوم في مجتمعنا بين جهة وأخرى، وبينها وبين المركز؟ ما هي أهم المشكلات والعوائق التي يمكن أن تنجم عن هذا التقسيم الجهوي الجديد؟ ما هي ثغراته القانونية والتنظيمية… التي يمكن أن تؤثر سلبيا على سيرورة اشتغاله حال تنفيذه؟ وما هي إيجابياته المنتظرة؟…الخ.
+ ينضاف إلى كل ما سبق عائق اجتماعي هام، ويتمثل في كون الكثير من النخب الاجتماعية والسياسية السائدة في مجتمعاتنا الثالثية والعربية ما تزال لم تتمكن بعد من إنضاج وعي اجتماعي وسياسي ووطني مسؤول ومكرس للمصالح الوطنية العليا. وفي إطار هشاشة هذا الوعي الوطني –كي لا نقول غيابه يمكن طرح التساؤل المركزي التالي: هل تسير مجتمعات العالم الثالث، ومن ضمنها المغرب، نحو التنمية والحداثة حين استلهامها للعديد من المفاهيم والنماذج العقلانية الغربية للتدبير والتنظيم، مثل الديمقراطية، واللامركزية، واللاتمركز، والتخطيط الجهوي…الخ، أم أنها تستورد هذه "العدة العقلانية" ثم تتعامل معها شعاريا لا مبدئيا، فيأخذ تطبيقها العملي مظهرا أو طابعا عصريا حداثيا، بينما يظل مضمونها ذا طابع قبلي تقليدي؟ إن العديد من الدراسات في حقل الأنثروبولوجيا السياسية تحديدا، مثل دراسات بيرتراند بادي، وجورج بالانديي وغيرهما قد أكدت هذه المعطيات الاجتماعية الهامة، وأبرزت أن جل مجتمعات العالم الثالث لم تنتج عبر مسيرتها السياسية والاجتماعية والاقتصادية أية حداثة حقيقية، بل انتهت إلى مجتمعات تقليدية وقبلية في العمق حديثة وعصرية في شكلها المظهري المستورد: "دولة وطنية"، بنيات، وتنظيمات، ومؤسسات اجتماعية مختلفة تمت هيكلتها على النسق الغربي في سياقات غير مواتية.
وعلى ضوء هذا التحليل يمكن أن نفسر عدم استفادة بعض الجهات والأقاليم وعزلتها في ظل التجارب الجهوية في المغرب، وذلك بفعل خضوع هذه التجارب للعديد من المراهنات والصراعات وتنازع المصالح التي ما تزال في مجتمعنا لم تقطع نهائيا مع العقلية القبلية الآنفة الذكر. إن التقسيم الجهوية الجديد يبرز لنا، وخاصة عند تحديد مكونات وحدوده، ومراكز بعض الجهات، كيف أن العديد من المدن والقرى، والمناطق لم تستفد مما كان يفترض أن تستفيد منه في مجال الخدمات الصحية والتربوية والاقتصادية وغيرها، وذلك نظرا لافتقادها لكثير من شروط وإمكانات ومؤهلات... غير أننا، وانطلاقا من منظور سياسي ونضالي متفائل وحذر، ومن رؤية ثقافية مجافية للعدمية والانعزال الفكري والاجتماعي، نعتقد أن التقسيم الجهوية الجديد، رغم سلبياته وثغراته المسطرية والتنظيمية المتعلقة خاصة بالمراقبة وأساليب اتخاذ القرار على مستوى الجهة، يمكن أن يكون منطلقا إيجابيا للإصلاح والتجديد متى توفرت له الشروط المواتية المؤسسة على وعي اجتماعي جديد، يطمح إلى تدعيم ممارسة اجتماعية وسياسية جديدة بالفعل، ومكرسة للمصلحة الوطنية العليا، لا للمصالح الفئوية أو القبلية الضيقة، مما ينتظر منه أن يحدث تحويلا نوعيا في المجتمع، فكرا وممارسة.
+ هناك أيضا واقعة اجتماعية هامة لا بد من إبرازها هنا، ويتعلق الأمر بكون التجربة الجماعية في المغرب، رغم عراقتها على مستوى جذورها التاريخية العميقة، ورغم ما بذل من جهود في سبيل تحديثها وإعادة هيكلتها وعصرنتها، ورغم ما أنتجته من خبرات وفعاليات تعمل الآن على تأثيث مختلف مجالات "البيت الجماعي المحلي"... رغم هذا كله، فإننا مازلنا لا نتوفر، في الواقع، على قيادات أو زعامات محلية متمتعة بالقدر الكافي من التأهيل في ميادين الإدارة والتسيير وتدبير عمليات استثمار الموارد البشرية والمادية. وقد نكون مبالغين في الحكم على تجربة الجماعات المحلية بالمغرب، وقد يكون ذلك ناتجا عن كون طموحنا أكبر من الواقع... غير أن ما نطمح إليه بالفعل هو أن تصبح تجربة الجماعات المحلية –التي تقع في صلب المسألة الجهوية مدرسة وطنية للتأهيل والتربية والتكوين: تكوين المواطن الفاعل والمنتج، الذي يعد الدعامة الأساسية لكل تجربة ناجحة من هذا القبيل، وكذا تكوين الأطر، ومراكمة الخبرات والتجارب والإنجازات... والهدف من ذلك كله هو تحويل "العمل الجماعي" إلى مؤسسة –بالمفهوم السوسيولوجي العام محكومة بأنماط من القيم والأعراف والتقاليد المهنية ومؤطرة بتوجهات فكرية وعملية محددة تضمن لهذه المؤسسة استمراريتها ونجاعتها الاجتماعية والتاريخية. وذلك حتى تستطيع أن تندمج في مسيرة تنموية منتجة، ليس على المستوى الجهوية فحسب، بل كذلك على المستوى الوطني العام.
+ وفي إطار الحديث عن بعض أهم عوائق بناء "الجهوية" في المغرب، لا بد من التنبيه إلى مخاطر "هامشية البحث العلمي" في مجمل السياسات الجهوية الجديدة. ذلك أننا لا ندعم هذا البحث بما يكفي من الاعتمادات المالية والمؤسسات والتجهيزات ومختلف الإمكانات والشروط الضرورية التي تجعل منه سندا أساسيا موجها للممارسة السياسية والتقنية والاجتماعية، ودعامة محورية للتنمية على غرار المجتمعات المتقدمة. وإذا اقتصرنا فقط على ربط البحث بتجربة الجماعات المحلية على سبيل المثال، فإننا لا نجد أي اهتمام بالبحوث التشخيصية التي تسبق عادة تجربة أو مشروعا ما، لترصد المقومات وتحدد المشكلات والحاجات... أو بالبحوث التدخلية أو التطويرية التي تتدخل لإغناء التجربة وتطويرها ومدها بالعناصر الجديدة... ولا أي اهتمام أيضا بأبحاث المتابعة والتقويم التي تواكب هذه التجربة لترشيدها ولإنجاز التقويم الجزئي المرحلي أو الإجمالي الكلي لمردودها وحصيلتها. إن غياب المعطيات الكمية والنوعية الدقيقة، التي يمكن أن يوفرها هذا البحث العلمي، واقع يطرح العديد من المشكلات التقنية والتدبيرية أمام تجربة الجماعات المحلية وممارستها لمهامها ومسؤولياتها، كما يجعل من الصعب إنجاز تقويم علمي وموضوعي لإنجاز هذه التجربة ذاتها، وما يتطلبه هذا التقويم من أساليب علمية، كالتدقيق: Audit، والمحاسبة الوطنية، والمراقبة الممنهجية والمستمرة. وذلك للكشف عن سلبيات هذه التجربة بهدف تفاديها مستقبلا، وأيضا لإبراز إيجابياتها من أجل تثمينها والدفع بها وتطويرها.
لذا فإن القطع مع هذه الوضعية، والانتقال إلى وضع جديد يعتمد على سياسة معقلنة للبحث العلمي يصبح ضرورة علمية ومجتمعية حاسمة للتدعيم وتأطير وترشيد ممارسة الجماعات المحلية. غير أن ذلك لا يمكن أن يتم إلا في إطار أعم وأشمل، أي على مستوى سياسة وطنية شمولية للبحث العلمي. وتلك قضية أخرى لا يتسع المجال لمناقشتها ضمن حدود هذه المداخلة.
المحور الخامس: أزمة التجربة الجهوية بالمغرب: عن أهم شروط وبدائل التجاوز والتأسيس.
لنكتف بما سبق عرضه من عوائق ومشكلات التجربة الجهوية والعمل الجماعي/الجماعاتي بالمغرب، ولننتقل إلى المحور الخامس المتعلق ببعض الشروط أو البدائل التي نرى ضرورة توفرها لتجاوز ما أصبح ينعت بـ: "الأزمة" الراهنة لهذه التجربة، ولإنضاج تصور عقلاني للجهة وللجهوية كآلية حديثة لتدبير الاختلاف والتعدد داخل الوحدة الوطنية الشمولية المتكاملة المكونات. ونفضل –لاعتبارات محض منهجية تتعلق بمحدودية هذا العرض أن نجمل ذلك في النقط الاستخلاصية الآتية:
+ ضرورة توفير الشروط المناسبة لإقامة تكوين المجالس الجماعية على أسس ديمقراطية سليمة تجعلها منتخبة بشكل عقلاني وديمقراطي يمنحها تمثيلية للمجتمع ذات مصداقية مقبولة سياسيا واجتماعيا. الأمر الذي يجعلها ممثلة لحاجات وتطلعات ومصالح المواطن المغربي، سواء على مستوى الجهة أو على المستوى الوطني العام. إن ما يفترض هو أن تكون الجماعات المحلية المنتخبة في ظل شروط ديمقراطية نزيهة معبرة عن صوت المجتمع المدني، عن مشاكله وهمومه واهتماماته، وأن تكون بالتالي بمثابة "مدرسة اجتماعية وسياسية" لتكوين المواطن، ولتأسيس وترويج "ثقافة سياسية" جديدة قائمة على قيم العقلانية والديمقراطية والتحاور والانفتاح، ومتعارضة مع قيم ومسلكيات الانغلاق والشوفينية أو القبلية الضيقة.
+ يقتضي بناء الجهة كذلك توفير مجمل المقومات الأساسية المدعمة لهذا البناء. والتي تضمن للجهة المعنية إمكانية أن تفيد وأن تستفيد في إطار سياسة "الاعتماد المتبادل"، التي يجب أن تكون الموجه الأساسي للسياسات التنموية جهويا ووطنيا. وبكل ما تتطلبه هذه الجهة من "شراكة: Partenariat" تكاملية بين مختلف الجهات والمؤسسات والقطاعات، والفرقاء المعنيين... سواء كان ذلك على مستوى الجهة، أو على المستوى الوطني العام. وهنا يمكن الإشارة إلى أهمية تنشيط البحث العلمي بجميع أنماطه ومجالاته وتخصصاته بهدف إنتاج معرفة علمية مطابقة:Adéquate عن الجهة، عن مقوماتها ومشكلاتها وحاجاتها وإمكاناتهاو ما تتطلبه تنميتها الذاتية الخاصة وما يمكن أن تساهم به في المسار التنموي الشمولي وفي مجالات اجتماعية متعددة كالتكوين والتشغيل والاستثمار والخوصصة...
+ أهمية التنويه بضرورة التعامل مع "الجهوية" كاختيار مبدئي استراتيجي، وليس كمجرد شعار سياسي. ذلك أنه من بين أخطر الآفات التي ابتلينا بها في مجتمعاتنا الثالثية أننا كثيرا ما نتعامل مع المفاهيم والنظريات والمناهج والسياسات الغربية التي "نستوردها" تعاملا شعاريات تاتيكيا لا مبدئيا. وهكذا نفرغها من مضامينها الإيجابية العلمية والعقلانية لنزج بها في دوامة الرهانات الإيديولوجية والظرفية الضيقة المحكومة بالهواجس الأمنية والسياسوية والحسابات المصلحية لا بالأفق الفكري والسياسي الواسع، ولا بالإرادات السياسية الواضحة والمتحفزة. بالرغم من أن هذه المسألة لا يمكن تعميمها على كل "التجارب الجماعية والجهوية" في المجتمع المغربي. إذ يلاحظ أنها تختلف في مستوى ونوعية إنجازها وأدائها الوظيفي. إلا أن التقويم العلمي لهذا الإنجاز ما يزال يتطلب في الوضع الراهن مجموعة من الدراسات المتكاملة جهويا ووطنيا.
+ نود أن نشير أيضا إلى أن "الجهوية"، باعتبارها –في بعدها الفكري فلسفة تدبيرية وتأطيرية عقلانية، تتطلب الاعتماد على العنصر البشري كدعامة أساسية للتنمية. وذلك عبر التكوين المتعددة الأنماط والمستويات والموجه لخدمة هذا العنصر البشري/المواطن، الذي ينتظر أن تلعب سياسة الجهوية دورا أساسيا وحاسما في رفده وتدعيمه. فمهما كانت الجهة متوفرة على إمكانات كبيرة حاضرة أو محتملة فإن هذه الإمكانات تصبح عديمة الجدوى، إذ ما أهملت رأسمالها البشري ولم تجعل منه سندا لتنميتها الذاتية. إن هذا هو، في تصورنا، ذلك الدور التربوي والتنموي الخطير الذي يجب أن تقوم به الجماعات المحلية والهيئات المنتخبة في الجهة المعنية. وفي هذا الإطار يمكن التنويه بأهمية ودور "مشروع المدرسة الجماعية: Projet d’Ecole Communale" كمحور محرك للتنمية الثقافية والاجتماعية سواء في الوسط الحضري، أو الوسط القروي المهمش؛ وأيضا بأهمية انفتاح المؤسسة التربوية أو التكوينية أو الإنتاجية على مكونات وخصوصيات محيطها الاقتصادي والاجتماعي العام.
وكخلاصة محورية لهذا العرض، نود أن نختتمه بالتنويه ببعض النتائج والخلاصات التي أنهت إليها الندوة التي عقدها المعهد الدولي للعلوم الإدارية في بكين، بتاريخ (811 أكتوبر 1996 ) حول موضوع: "التحديات المطروحة أمام إدارة القرن الواحد والعشرين" ومن أهم هذه الخلاصات ما يلي:
ـ إن مسألة الإدارة وتدبير الموارد المادية والبشرية هي مسألة سوسيوثقافية ترتبط بمناخ اجتماعي وسياسي محدد في الزمان والمكان، إذ لكل مجتمع إدراكه أو تصوره الخاص لقضاياه ومشكلاته وخصائصه... وأيضا لمختلف الكيفيات التدبيرية التي يراها ملائمة لشروطه الثقافية والسياسية والمجتمعية المتميزة بكل أشكالها الإثنية وتبايناتها الجهوية أو الطبقية...الخ. إلا أنه، بالرغم من هذا الطابع السوسيوثقافي للإدارة، فإن الندوة الآنفة الذكر قد أكدت على المعايير التدبيرية الآتية، والتي أصبحت، بفعل عولمة الاقتصاد والثقافة وأساليب الإدارة والإنتاج، بمثابة معايير ذات طابع كوني شمولي مستقطب للكثير من الإجماع والتوافق، وهذه المعايير/المبادئ أهمها:
ـ اللامركزية: وذلك في مختلف مجالات التدبير وصنع القرار وهي مسألة تقع في صلب المسألة الديمقراطية بشكل عام. ولا شك أن "الجهوية"؛ بمفهومها الحداثي العقلاني، دعم لهذه اللامركزية وتفعيل لها في نفس الآن.
ـ المشاركة: إن المد الديمقراطي والعقلاني الذي تشهده المجتمعات الحديثة –بما له وما عليه قد أصبح يؤكد أكثر فأكثر على ضرورة إشراك كل الأطراف والفعاليات المعنية في تسيير الشأن العام. وذلك في إطار توجهات كبرى لمشروع مجتمعي متكامل قائم على الوفاق والتشارك والتعامل الديمقراطي، والاعتماد المتبادل بين الأفراد والمؤسسات والجماعات والجهات المتعددة في المجتمع.
ـ الفعاليات في الأداء والإنجاز: وذلك بالاعتماد على كافة الوسائل التواصلية والتقنيات الحديثة وأساليب البرمجة والتخطيط: (كالإعلاميات المتقدمة والتكنولوجيات المتطورة... الخ ). مما يسهل عمليات التسريع بوتيرة التنمية ومواكبة التطورات المتسارعة. غير أن ذلك لا يمكنه أن يتوفر لمجتمعاتنا الثالثية إلا إذا اعتمدت سياسة رشيدة للبحث العلمي ولتكوين وتأهيل العنصر البشري، وإلا إذا بلورت سياسة تدبيرية ذاتية منسجمة مع حاجاتها ومستقلة عن أي تبعية لمراكز القرار .
سكينة عشوبة طالبة وباحثة
|
|
2833 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|