|
|
|
|
|
أضيف في 30 أبريل 2019 الساعة 42 : 18
الفساد هو السلوك السياسي والاجتماعي لدى الحكام والموظفين الحكوميين الكبار المسيطرين على القرارات الاقتصادية والاجتماعية، الذين رهنوا سياسة بلدانهم بسياسة القوة الغربية وبخاصة منها الأمريكية، وكرسوا تبعية سياسية واقتصادية كاملة من نوع جديد إزاء الشركات المتعددة الجنسيات والمراكز الرأسمالية الغربية عامة، وانحرفوا كلياً عن القواعد الأخلاقية والمعايير الوطنية والقومية لخدمة مصالحهم الشخصية أو أهدافهم الخاصة. والفساد مرتبط ارتباطاً بالسيطرة على السلطة السياسية، وثروات البلد في ظرف تاريخي معين. والفساد في البلاد العربية، ارتبط بشكل عضوي بظهور الدولة التسلطية العربية، التي تمارس الاحتكار الفعال لمصادر الثروة والقوة للنخبة الحاكمة فيها، سواء كانت هذه النخبة، عائلة أو حزب شمولي مهيمن، أو طائفة ادعت لنفسها أنها حاملة راية العصرنة السياسية، والعلمنة، أو الاثنين معاً، أوعسكر، حيث أن الفساد شديد اللصوق بغياب كل أشكال المشاركة السياسية للمواطنين. وهو يعكس أيضاً مدى غياب المؤسسات السياسية الفاعلة للدولة كإحدى مرتكزات الديمقراطية، وهو يعني الكسب غير المشروع أثناء العمل السياسي الذي يقود إلى مراكمة الثروات والانتقال السريع من الفقر إلى الثراء، ومن عمل إلى آخر، من جانب الفئات الحاكمة وبواطنها. ويعرّف صموئيل هانتنتون في كتابه النظام السياسي لمجتمعات متغيرة الفساد بأنه «وسيلة لقياس مدى غياب المؤسساتية السياسية الفاعلة، حيث يفتقد الموظفون الحكوميون الاستقلالية والتماسك، ويجعلون مراكزهم المؤسساتية خاضعة لمتطلبات خارجية. قد يكون الفساد أكثر تفشياً في بعض الحضارات من سواها، لكنه في معظم الحضارت يبدو أكثر تفشياً خلال مراحل العصرنة المكثفة. إن الفروقات في مستوى الفساد التي قد تكون موجودة بين المجتمعات المعصرنة والمتطورة سياسياً في دول المحيط الأطلسي ومجتمعات دول أميركا اللاتينية وإفريقيا وآسيا، تعكس إلى حد كبير الفروقات بين تلك الدول ففي مجالي العصرنة والتطورات السياسيين، عندما يدين زعماء المجالس العسكرية والحركات الثورية «الفساد» في مجتمعاتهم، فإنهم يدينون في الواقع التخلف فيها» أسباب الفساد السياسي في الوطن العربي
الفساد سمة ملازمة للدولة العربية المعاصرة، وينبع من المصادر التالية التي تغذيه باستمرار على الرغم من وجود خطط للتنمية في كل قطر على حده، ومن تفاوت، نوعية هذه الخطط ومستوى جديتها، إلا أن هناك ما يكفي من الدلائل على ازدهار وتصدير السلع الخام، وأهمها النفط، الفوسفات، القطن، وتنفرد كل مجموعة من الدول العربية بسلعة، واتساع نطاق استيراد السلع المصنعة والغذائية، واتساع قطاعات الخدمات على حساب الصناعة والزراعة، وتدهور الزراعة تدهوراً ملحوظاً، مع سقوط الأنظمة الرجعية التقليدية، وانفجار الثروة النفطية، وضآلة حجم التبادل الاقتصادي بين الأقطار العربية، واتساعها بين كل قطر والمراكز الرأسمالية الغربية. وهكذا بات التخلف يعني، سيطرة اقتصاد تصدير الخامات، وتدهور الزراعة، والاعتماد على الاستيراد اعتماداً متزايداً. ولهذا توابعه، لأنه يعني تبعية اقتصادنا، واستغلال الشركات المتعددة الجنسية لثرواتنا. فقد نجحت الشركات هذه نجاحاً متزايداً في الحصول على امتيازات خاصة أكبر من مزايا الاستثمار التي منحت للرساميل المحلية ولما أضفت معظم الدول العربية طابعاً ليبرالياً متزايداً على سياستها الاقتصادية وحيال رأس المال الأجنبي، بحجة جلب الاستثمارات الأجنبية بذريعة أن هذه هي الطريق لتسريع تطور البلاد والاندماج في نظام العولمة الرأسمالية الجديدة، فقد حصل تداخل كبير بين الدول العربية والشركات المتعددة الجنسية عبر مؤسسات شبه دولوية، ومن خلال الوزارات والدوائر ومكاتب التخطيط، وإقامة المشاريع المشتركة وأصبحت الشركات المتعددة الجنسية تستخدم استخداماً متزايداً القنوات الكثيفة غير الرسمية المؤدية إلى جهاز الدولة، بوساطة الرشاوي ومنح الوكالات، لتؤثر على القرارات والامتيازات السياسية والاقتصادية. وأدى ذلك إلى إقامة علاقة بين الدول العربية والشركات المتعددة الجنسية، وهيمنة هذه الشراكات على جهاز الدولة عبر إثرائها بعض الموظفين والمسئولين الكبار المتنفذين بطريقة غير شرعية. وفضلاً عن ذلك، فإن هذه العلاقة بين الدول والشركات المتعددة الجنسية، وإقامة المشاريع المشتركة، تقودان إلى اندماج رأس المال التجاري المحلي في نظام متعددة الجنسية، عبر اتفاقات تمثل وإمداد وإدارة ومورد للمواد الخام. إن الفساد مرتبط ارتباطاً وثيقاً بواقع السلطة السياسية في الوطن العربي، وتحديداً في ظل غياب الشرعية، وأشكال الهيمنة والديكتاتورية، ذلك أن الدول العربية على الضدِ مما هو سائد في الديمقراطيات الكلاسيكية الغربية، أصبحت تمارس السياسة فيها كطريقة رئيسية للوصول إلى تجميع الثروات الفاحشة من خلال استخدام المنصب السياسي، وإخضاع المؤسسات السياسية والمؤسسات الاقتصادية، لخدمة المصالح الفردية
لقد أدت السياسات الاجتماعية – الاقتصادية التي قادتها النخب السياسية والعسكرية في الوطن العربي إلى ظهور طبقة جديدة مضطلعة بقيادة القطاع العام، وتتكون أساسًا من قيادات الحزب الحاكم، وكبار رجال الدولة مدنيين وعسكريين ، ودخلت هذه الطبقة في حلف مع القطاع الخاص من أجل تحقيق الأرباح شريطة أن تتخلى هذه الأخيرة عن دورها السياسي وتلتزم بتوجيهات الدولة. وامتد هذا التحالف ليشمل القادة والمدراء في الشركات العامة، وزعماء النقابات والاتحادات المهنية، الذين لعبوا دوراً رئيساً في تطويع العمال والفلاحين والطلاب وتدجين النقابات بوساطة القمع السياسي وأصبح هذا التحالف يهيمن على مجموع الاقتصاد الوطني في معظم البلاد العربية ويديره، ويعيد توزيع الدخل القومي وِفْقاً لمصالحه وأهدافه. وفي ظل غياب مؤسسات سياسية فاعلة تمارس الرقابة والمحاسبة، وانحصار السياسة في دائرة السلطة / الدولة، بعد أن تم إلغاء السياسة كفاعلية مجتمعية حية واعية وهادفة وحرة، في ظل هذا الغياب الكامل ، ازدادت النخبة العربية الحاكمة ثراء، وحصلت على شتى أشكال الامتيازات الحصينة، بفضل نجاحها في استخدام المواقع السياسية كوسيلة لتجمع الثروة. وهكذا تفشى الفساد داخل الأجهزة الحزبية، وأجهزة الدولة عموماً، تفاقم مع تصاعد التسلل الهرمي السياسي، بدءاً من الموظفين المحليين، ومدراء القطاع العام، وصولا إلى الوزراء. يحلل صموئيل هاتنتون المقياس المتدّرج للفساد في هذه الدولة مع تصاعد التسلسل الهرمي البيروقراطي أو ارتفاع السلم السياسي بقوله: «يساهم الفساد في تأكيد تفاوت اجتماعي كان موجوداً أساساً، أولئك الذين ينجحون في الوصول إلى مستوى عال من السلطة السياسية، يمتلكون في الوقت نفسه فرصاً متجددة دوماً للوصول إلى أعلى مستويات الثراء، هذا النمط من الفساد الذي يزداد ثقلاً عند القمة يعني التدني في مستوى المؤسساتية السياسية، ذلك أن المؤسساتية السياسية العليا في المجتمع، والتي يجب أن تكون الأكثر استقلالية عن المؤثرات الخارجية، هي في الواقع الأكثر تعرضاً لمثل هذه المؤثرات. هذا النمط من الفساد لا يكون بالضرورة متعارضاً مع الاستقرار السياسي، طالما أن سبل التحريك إلى الأعلى عبر الآلية السياسية أو البيروقراطية تظل مفتوحة» وقد كشفت التجربة التاريخية أن تفشي الفساد وازدهاره هو التعبير الصارخ عن التناقض بين سيادة القانون والنزعة التسلطية للحاكم العربي. فالطبيعة السياسية للفساد تكشفها المعوقات التي تضعها الدولة التسلطية العربية نحو التقدم باتجاه الديمقراطية والمساواة الفعلية أمام القانون. فالدولة العربية التي تهيمن فيها مصلحة الحاكم، أو العائلة أو العشيرة، أو الطائفة، أو الحزب السياسي المهيمن ليست حيادية في شأن الفساد، بل إن الفساد يشكل عاملاً أساسياً فيها، نظراً لكونها لم تعد (أي الدولة ) قضية عامة أو الشأن العام أولاً، ولانفصالها عن المجتمع المدني. وهكذا بات الفساد مرتبطاً بإلغاء الدولة العربية الأحزاب السياسية الفاعلة التي تقوم بمكافحة الفساد، وخوض المعارك السياسية من أجل اقتلاع الفساد، ولأن مكافحة الفساد تزعج النخب السياسية والعسكرية الحاكمة، وبخاصة تلك العناصر التي تتمتع بمراكز مرموقة في جهاز الدولة، ، فضلاً عن أنها تزعج الأحزاب التي حكمت والتي اندمجت بأجهزة السلطة، واستخدمت إمكاناتها لخدمة مصالحها الفردية أو العائلية، حيث باتت الحزبية وسيلة للإثراء غير الشرعي، وسبيلاً لتجاوز القانون أو الاعتداء عليه. الفساد السياسي هو نقيض الممارسة السياسية الفاعلة
في الواقع، الفساد بوصفه إحدى نتاجات العصرنة السياسية، والتحديث الرديء، ونمط التنمية السلبية الاستهلاكية التي قادته الدولة التسلطية العربية، يترجم لنا مدى التأخر التاريخي التي تعاني منه الطبقة السياسية الحاكمة، والدولة العربية ، اللتين ينخرهما الفساد بسبب دور هذا الأخير في الوظيفة العامة بشكل ملحوظ، وازدياد أهمية نتائجه وآثاره المدمرة على مجموع الحياة السياسية للأمة العربية، في ظل وطن عربي يعاني من العزوف أو الهجوع السياسي الذي يسيطر على الشعب العربي، تعمل على تعزيزه وتثبيته أنظمة الاستبداد المحدث. لذلك يشرح الكتاب مختلف النظريات المتعلقة بنقد الفساد الملازم للدولة التسلطية العربية، بغياب إنتاج السياسة في صلب المجتمع العربي، بل يذهبون إلى القول أن هذا الأخير مازال يعيش مادون السياسة. لذا بوجه عام، وكما يقول ياسين الحافظ، ليس ثمة سياسة (بمعناها اليوناني أو الأوروبي الحديث ) في البلدان العربية، بل ثمة «سياسة قصور»، أي صراعات بين أقليات تحتكر شؤون السلطة وتمارسها بمعزل عن الشعب أو بعيداً عنه، وتبعاً لمصالحها وأهدافها. ومن الواضح أن ضآلة الجسم السياسي العربي تكمن في أساس «سياسة القصور» هذه. ولكن قبل أن نبحث عن عزوف الشعب العربي عن السياسة، ونزوع السياسة من المجتمع بسبب ممارسات الدولة التسلطية، علينا أن نحدد مفهوم السياسة. ثمة علاقة جوهرية بين العمل والسياسة، بين الإنتاج الاجتماعي والسياسة، لأن السياسة متضمنة في العمل البشري والإنتاج الاجتماعي بكل المعاني الممكنة للإنتاج. والمجتمع الذي ينتج السياسة ينتج وحدته الاجتماعية والسياسية. لذلك ثمة مجتمعات سياسية كما هو الحال في الغرب، وجماعات دون السياسة كما هو الأمر في الوطن العربي. لأن مقولة المجتمع مربوطة بمقولة السياسة، بما هي الشأن العام أو الشيء العام المشترك بين جميع الأفراد والفئات والطبقات والتيارات، والذي هو ماهية الأفراد وجوهرهم. السياسة إذن هي فاعلية اجتماعية ومجتمعية حرة، باعتبارها مجالاً عمومياً للمجتمع، وهي الشكل الأرقى لوحدة المجتمع الفعلية. وبهذا المعنى تختلف السياسة، بوصفها علاقات موضوعية، وحق عام، عن الإيديولوجيات والنظريات السياسية بوصفها رؤى ذاتية تعبر عن مصالح هذه الفئة الاجتماعية أو تلك، هذا الفريق السياسي أو ذاك الخ. في سؤال جامع كيف نتصور السياسة؟ يعرف ادغار موران السياسة على النحو التالي : «تطرح السياسة أكبر تحد على المعرفة السياسية شيء عام يقتضي أفكاراً عامة في عالم المعارف العامة، فيه، ليست كافية لأنها عامة والمعارف المتخصصة غير كافية لأنها متخصصة. السياسة تتعلق بكل ميادين معرفة الإنسان والمجتمع، في أن هذه المعارف متلعثمة ومفصولة عن بعضها وخداعة معاً. السياسة تعالج أعقد ما في الكون – الشؤون الإنسانية وعلاقتها بالشؤون الإنسانية غدت بالغة التعقيد. وبالفعل، لا يمكن عزل غير السياسي عن السياسي ولكننا لا نستطيع، في الوقت نفسه، رد كل شيء إلى السياسي. فكل ما هو غير سياسي يتضمن على الأقل بعداً سياسياً. والسياسة التي يتوقف عليها كل شيء تتوقف هي أيضاً، على كل ما يتوقف عليها. فالسياسة التي تقرر في الاقتصاد والمجتمع والجيش تتوقف، هي نفسها، على شروط اقتصادية واجتماعية وعسكرية. والسياسة هي الشرط المسبق الذي يتوقف على شروط مسبقة عديدة تتوقف عليها. وفي نهاية المطاف، يتوقف مصير العالم على المصير السياسي الذي يتوقف على مصير العالم. والسياسة تطرح أكبر تحد على الفعل. والأدعى للدهشة والأشيع في السياسة هو انحراف مجرى الفعل، فساده، تحوله. وهكذا، فإن ملاحظة سان جوست القائلة «كل الفنون أنتجت روائع وفن الحكم هو وحده الذي لم ينتج إلا مسوخاً»، تصح أكثر من أي وقت مضى. وليس الأمر أن الأفعال السياسية حرضت جميعها بالمطامح وبالتعطش إلى السلطة، أي بالأسوأ. فهناك على العكس من ذلك، أفعال سياسية لا تحصى استلهمت حب المدنية والإنسانية، والإخلاص وإرادة بناء عالم أفضل. ولكن طريق جهنم معبدة بالنوايا السليمة كما يقال، في حين تطلق النوايا لجهنمية كرد فعل عليها مداخلات سلمية، وذلك كما في تراجيديا غوته حيث تؤدي نوايا فاوست الحسنة إلى ضياع مرغريت في حين أن أفعال مفيستو السيدة تنقذها في آخر المطاف. في الوطن العربي يشكل نزع السياسة عن الشعب الطريقة الضرورية لضمان استمرار سيطرة الدولة التسلطية على المجتمع في إطار وظيفتها داخل التشكيلية الاجتماعية ، حيث تحط هذه الدولة من قدر وقيمة التعددية السياسية، لأن ذلك ضروري للاستبداد، باعتبارها دولة قانونية حيال النخبة المسيطرة على مصادر القوة والثروة في المجتمع، ودولة لا قانونية، حيال غالبية مواطنيها غير المالكين وغير المسيسين. الحياة السياسية السليمة بالطبع، تحتاج إلى تعددية سياسية، أي إلى أحزاب سياسية متنوعة ومتنافسة ومتنازعة ولكنها متكاملة، بمعنى أن تنافسها / تنازعها يحقق طبيعة الديمقراطية ذاتها، إذ لا ديمقراطية حيث لا حياة سياسية. ذلك أن مشاركة الطبقات والفئات الاجتماعية في السياسة، وممارسة مختلف أشكال النشاط السياسي، تتطلب درجة عالية من المؤسساتية الفاعلة بوصفها قنوات يتم التعبير من خلالها عن هذه المشاركة السياسية. غير أن البلدان العربية تعاني على الصعيد السياسي من التبعية للخارج، ومن غياب المؤسسات الديمقراطية داخلياً، وغالباً ما يحتكر السلطة فرداً أو عائلة أوفئة، فتحكم بالقمع، وتفرض قيوداً على حرية الرأي، والتعبير والمشاركة السياسية. فلماذا نشهد على الصعيد العربي سيرورة نزع السياسة من المجتمع بدلاً من سيرورة تسييس الشعب العربي، والانتقال به من نمط مجتمعي متخلف إلى نمط مجتمعي عصري؟ الجذور التاريخية للفساد السياسي
إذا أردنا أن نحلل التأثيرات السلبية لنزع السياسة عن المجتمع، يجب أن نبدأ القول أن هذا الموضوع شديد التعقيد لأن فيه كثيراً من العوامل المتداخلة. تاريخياً، منذ بدء العملية السياسية في الوطن العربي كانت الاستعمار يحاول أن يكوّن وعي أبناء العائلات البرجوازية وأبناء الملاكين الكبار، وحين تبنى هؤلاء الفكر البرجوازي، تبنوه كتابعين وكأفراد يحسون بأنهم ضعاف ويشعرون أنهم مهزومون أمام آلية فكرية وسياسية وعسكرية وتكنولوجية متقدمة. فمنذ مرحلة الصدمة الاستعمارية الغربية، حاولت هذه الأخيرة أن تشكّل وعي النخبة السياسية، واستطاعت أن تفعل ذلك عبر عمليتين متداخلتين، الأولى عملية مد السوق، والثانية عملية الامتداد الثقافي الموازي. – فامتداد السوق يخلق طبقات وفئات مرتبطة مصلحياً بالسوق الغربية أو بالدولة المعينة، كما أنه يعني وجود الوكلاء، ويعني خلق مصالح مشتركة. وبما أن الاستعمار كان في مرحلة صعود، كانت صناعاته في مرحلة تطور، وكانت قدرته على إنتاج السلع تزداد باستمرار، فقد كان بإمكانه أن يخلق فئات وطبقات مرتبطة به، متزايدة الاتساع، أصبحت فئات واسعة من المجتمع. – ثم دخلت الاستعمار عن الطريق الثقافي، والطريق الثقافي لا يعني الكتاب فقط بل أنه يعني اللغة، ويعني الموضة والعادة وما أشبه ذلك. واستطاع أن يصل إلى قطاعات واسعة في المجتمع العربي بشكل مباشر وبشكل غير مباشر، وربط هذه القطاعات بالمجتمعات الغربية ولكن هذه القطاعات كانت تضيق أو تتسع بمقدار ضيق السيطرة الغربية أو اتساعها. لهذا التأثير الغربي إذن أشكاله المختلفة هناك شكله الاقتصادي، وهناك أشكاله الثقافية والحضارية، وأهم من ذلك كله أن له أساليب متعددة جداً، الصحافة، الإذاعة، المعارض، الدراسات، الجامعات. ولذلك فإن الذين يحاولون اليوم أن يفسروا لماذا لم تحدث ديمقرطية حتى بالمعنى الفكري، فإن عليهم أن يدرسوا بأن ظاهرة السياسة بالمعنى اليوناني للكلمة هي تقليد وافد، غريب على العرب جاءت لتتفاعل مع تقليد «سياسي» آخر، وتتكيف مع نسيج سوسيولوجي وإيديولوجي آخر. فالثورة الديمقراطية في أوروبا أخذت شكل الصراع مع الكنيسة ومع الإقطاع، وكان صراعاً سياسياً واجتماعياً حاداً، بين البرجوازية الصاعدة وحلفائها من الطبقات الشعبية وبين القوى الاجتماعية المحافظة على الواقع القائم والمرتبطة بالمعتقدات الكنسية، حيث كانت السياسية تعتبر فرعاً من فروع اللاهوت. مع انطلاقة الثورة الديمقراطية ونجاحها في الغرب وبفعل الاستمرارية التصاعدية للطبقة البرجوازية النشيطة التي راحت تفتتح وتراكم تدريجياً قوتها الاقتصادية إلى أن أصبحت طبقة رأسمالية وصناعية، شهد التطور العقلاني والحضاري للغرب قفزة كبيرة إلى الأمام تمثلت خصوصا في العوامل التالية – تحرير السياسة من الأوهام والمطلقات، – عقلنة المجتمع ودمقرطة مركز القرار السياسي – بناء نظام سياسي قوي قائم على أسس جديدة من الترابط السياسي لعل أهمها المؤسسات السياسية الجديدة التي تجمع بين الشرعية والفعالية – مشروعية السلطة السياسية المستمدة بكل قوة من حق التصويت العام LE SUFFRAGE UNIVERSEL – المشاركة السياسية العالية للشعب في الشؤون العامة – تنظيم الانتقال السلمي للسلطة وضبط الصراع السياسي على أسس ديمقراطية. هذه السيرورة الطويلة في تحديث السياسية لم يشهدها الوطن العربي، لأن الدولة العربية التي قامت في مرحلة ما بعد الاستعمار كانت تجهل وتتجاهل الديمقراطية السياسية، باعتبارها سيرورة نمو المجتمع المدني، مع فكرة الإنسان ومفهوم التاريخ والتقدم. وفضلاً عن ذلك حظرت هذه الدولة العربية ممارسة السياسة على الصعيد الداخلي، وألغت حرية الفرد وحقوق الإنسان والمواطن، علماً بأن هذه الأخيرة هي التي تنتج حرية الفئات والطبقات الاجتماعية والأحزاب والحركات السياسية المعبرة عنها وَليس العكس، وهي التي تنتج مفهوم الشعب، الذي ينتج السياسة، والذي تقوم وحدته الحقيقية الواقعية بوحدة الكثرة والاختلاف والتعارض. فالسياسة العقلانية هي الكل التي تقوم على الاختلاف والتعارض الأساس المنطقي والتاريخي للديمقرطية والتقدم، وإلا فلا منطق ولا معقولية ولا سياسة. وأكدت التجربة العربية خلال العقود ما بعد الاستعمار أنه عندما تخفض السياسة من مستوى العام إلى مستوى الخاص المكتفي بذاته الطبقي، والجهوي، والحزبي الضيق، والطائفي، وتلك هي الحال في ظل الدولة التسلطية العربية، يكون المجتمع قد كف عن إنتاج السياسة، وتكون عملية تهميشه قد بلغت مداها من خلال تذرر المجتمع. ولما كانت الدولة التسلطية قد ألغت المجتمع العربي من إنتاج السياسة، وأطرت الانتخابات العامة التي تجري في هذا القطر أو ذاك لخدمة أهداف ومصلحة هيمنة الحزب الواحد، وعدم السماح حتى بهامش من المنافسة والترضيات المحدودة للمعارضات الرسمية، وألغت أيضاً أنشطة مختلف تكوينات المجتمع المدني، والتيارات الفكرية والحريات السياسية المتنامية في صلبه التي تعمل في المجال الفكري السياسي، فإن هذه الدولة قد ألغت نفسها كدولة، وتحولت إلى سلطة غاشمة، تعتبر أن الحزب المهيمن، أو العائلة، أو الطائفة الحاكمة فيها، يمثل الحلقة المركزية في جميع أشكال التمثيل السياسي. وعلينا أن نعي أن نزع السياسة من المجتمع العربي ينبع من سيادة الرؤية الحصرية والواحدية في إيديولوجية الدولة التسلطية العربية التي تنصب نفسها كلاً أو نفسها محل الكل، وتطرد الآخرين من عالمها، ولا تنظر إلى الاختلاف إلا على أنه إضعاف لوحدة الجماعة السياسية في أحسن الظروف، وتعطي نفسها من الحقوق الامتيازات ولا سيما امتياز تمثيل الطبقة أو الشعب أو الأمة، ما تنكره على غيرها. هذه الدولة التسلطية العربية تقلص المصلحة العامة والشأن العام حتى ينطبق على مصالحها الخاصة النخبوية، وشأنها الخاص، وتقلص الوطن إلى حدود سلطتها، فلا يبقى من مكان للآخر المختلف عنها أو المعارض السياسي سوى النفي داخل الوطن أو خارجه. ويصبح كل معارض لها معارضاً للوطن والشعب والأمة، للإسلام أوالقومية أو الاشتراكية… فيصبح نفي التعدد نفياً للوحدة، ونفي الاختلاف نفياً للتشابه والتماثل، ونفي الكل ضياعاً للكل والجزء معاً. وترفض إيديولوجية الدولة التسلطية العربية تصور المجتمع أو الشعب العربي أنه مؤلف من فئات وطبقات اجتماعية تختلف مصالحها، وتتعارض، ومن تيارات فكرية وثقافية وإيديولوجية متباينة ومتعارضة أيضاً، ولا تعترف بحقوق المعارضات السياسية، وبذلك تتم إعادة إنتاج الاستبداد، وإخراج الشعب من عالم السياسية، ولا سيما من عالم الدولة التي يعبر مفهومها وواقعها عن الشأن العام المشترك بين جميع المواطنين كيف القضاء على الفساد السياسي
إن مفهوم السياسة – باعتباره الحقل العام الذي تتخذ فيه التعارضات الاجتماعية، طابعاً عاماً، وتحل فيه بالطرق السلمية التوافقية – والمجتمع المدني، والدولة الديمقراطية، محصلة ضرورية من أجل تحقيق حرية الفرد، وحقوق الإنسان والمواطن، والمساواة الحقوقية بين المواطنين بصرف النظر عن الواجبات، حيث أن مساواة المواطنين أمام القانون تشكل أساس الموقف العقلاني من الآخر، لاسيما في مجال الأحزاب، والانتماءات السياسية إلى المعارضة، وأسس السياسة كفاعلية اجتماعية، التي يتخذ فيها التنافس بين الأفراد والتعارض بين الفئات والطبقات، والصراع بين الاتجاهات الإيديولوجية والأحزاب السياسية طابعاً مدنياً وحضارياً سلمياً. ولا يمكن استئصال شأفة العنف من الحياة العربية، ومن العلاقات الاجتماعية إلا بتحقيق مساواة المواطنين أمام القانون، ورؤية حق السلطة بأنه نابع من حق المعارضة السياسية في الوجود والنشاط، واعتبار الحياة الاجتماعية قوامها الصراع السياسي، بوصفه صراع الأضداد التي تنتج عن تعارضها حالة نوعية جديدة أرقى وأفضل، يجب أن يتم في حقل الثقافة، وفي مؤسسات المجتمع المدني، وأجهزته : كالأحزاب، والصحافة، والجمعيات، والنقابات، باعتبارها ميدان الضرورات التي لابد منها من أجل عودة إنتاج السياسة في المجتمع، واستنهاض الحراك الشعبي، القادر هو وحده على صنع السياسة.
سكينة عشوبة طالبة وباحثة
|
|
2780 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|