بدا حسن أوريد شاردا وشريدا في خاطرته حول أحكام معتقلي أحداث الحسيمة. شاردا لأن الجزم بقساوة العقوبة الجنائية يقتضي إلماما دقيقا بالتقعيد القانوني للأفعال الإجرامية المرتكبة، وتملّكا حقيقيا لمسألة تفريد العقاب بين حديه الأدنى والأقصى، بعيدا عن انطباعات الشخص واستيهاماته الذاتية. فالمسألة هنا تتعلق بأحكام القانون وليس بتمثلات المرء لما ينبغي أن يكون، فهي تستحضر فقط موجبات مبدأ الشرعية، أي ما جرّم المشرع من فعل وامتناع، وتتقيد حصريا بمتطلبات المسؤولية الجنائية، أي من ارتكب الفعل الإجرامي أو أتى الامتناع عمدا أو بدونه.
وشرود حسن أوريد لامس في كثير من المناحي سقف الجهل القانوني، لأن القضاء الزجري يحكم وفق اقتناعه الصميم، ولا علاقة له بسدنة السياسة ولا بحواريي الفكر والثقافة. فالقاضي ليس بمشرع ولا فاعل سياسي، وليس من مهامه قياس نبض الشارع، ولا تحيين أحكامه وأقلمتها مع رجع صدى الأهواء والإملاءات، وإنما يتأرجح لزوما بين سقفي العقوبة أداناها وأعلاها، إلا ما زاد أو نقص منها تشريعا، بسبب الظروف المشددة أو المخففة أو المعفية من العقوبة.
وفلسفيا، كثيرا ما رُمز للعدالة الجنائية بامرأة معصوبة العينين، ليس لأنها فاقدة للرؤية أو منعزلة عن واقعها، وإنما هو تجسيد لعدالة متجردة محايدة يقيس فيها القاضي مدة العقوبة بمقدار الجريمة، ويؤاخذ فيها المجرم بما فعلته يداه وجريرته، بمنأى عن شخصية هذا المجرم والأسباب الدافعة لارتكابها، إلا ما أقرّه المشرع من ظروف للتخفيف، وما حدده من تدرج في تخفيض للعقوبة.
والجهل بالقانون أطبق على والي الداخلية القديم، فانبرى شريدا يبحث عن مسوغات لتبرير جرائم المعتقلين، غير عابئ بالقراءة القانونية للأحداث، ومختزلا أعمال التعييب والتخريب وجذوة النار المشتعلة في منشآت الشرطة كأنها زخات حاضنة لنسمات الثورة، ولفحات اللهيب المضرم في الإطارات والمتاريس كأنما هي نفحات من قبس الإرادة الشعبية، ومتجسما الحجارة وقنينات المولوتوف الموجهة لصدور الأمنيين كأنما هي هدير “الثورة الثقافية” التي تتلبد في الأفق، في ذلك المدى الأمازيغي حسب تلميحاته، إيذانا بدنو انبلاج ثورة الإرادة الشعبية! فأي ابتلاء على المغرب أكثر من هذا الذي يكون فيه “الوالي السابق ” معولا لتقويض مرتكزات النظام العام.
ولم تكن حالات شرود الوالي المعزول قاصرة على ما قيل، رغم محاولات توضيب الكلام وإسراف الجناس والطباق والاشتقاق، واستحضار الاستعارة والكناية في محلها أو بدون. فقد ظل يهيم على وجهه بين الكلمات، محاولا تحميل الأمن تبعات تجمهرات عيد الفطر وغيرها من الأحداث، رغم أن خسائر الأمن كانت بالمئات في عدد الضحايا، وبملايير السنتيمات في المعدات والممتلكات العامة، وبآلاف ساعة العمل المفقودة بسبب أماد العجز البدني.
فمثل هذه الأرقام والإحصائيات لا تصلح للاستدلال والاستشهاد بها في مقالة حسن أوريد، لأن الأمر يتعلق بأعوان للسلطة وممثلين للنظام، والاستشهاد بهم جرم، والتذكير بهم وصم، واستهدافهم شجاعة وبسالة بمفهومها العامي لا اللغوي، والتذكير بهم قد يخندق الوالي المعزول ضمن خانة ” العياشة”، ويبعده كثيرا عن مبتغاه الذي يروم حشره في زمرة فسطاط الثوار.
فليس هناك أسوء في التحليل من القفز عن الوقائع، والالتفاف عن الحقيقة، والتجني عن الواقع، أملا في رتق سمعة وضيعة بائسة أخذ منها التاريخ المعاصر مأخذه، عندما كان الوالي المعزول يتلمّس في يوم من الأيام القريبة الثورة “مُدامة معتقة يحتسيها بعدما تركد الهواجر بالـمشوف الـمُعلَمِ”، وكان يتحسس فيها الثروة “هدايا أعياد ميلاد الزوجة التي كان يكررها في السنة مواعيد كثيرة”.
وليس هناك أيضا ما هو أبغض في التشخيص من أن ترى رجل السلطة القديم يتزلف صورة غير صورته، وينشد مقاما غير مقامه، محاولا الظهور بمظهر فيلسوف الثورة، الذي يحمل أعلامها، وينشر أصداءها، وينشد أهازيجها، بيد أنه في واقع الحال يثير نقع اللحمة الوطنية، مرددا شعار الأمازيغية التي هي مشترك بيننا جميعا لا حكرا عليه، ومحاولا رهن أحداث الحسيمة بحسابات طائفية، وصراعات إثنية، وامتدادات تاريخية! فهل بهذا التحليل الذي يصدح بالتشرذم وينادي بالبلقنة يمكننا أن نتصالح في هذا الفضاء المشترك بيننا الذي هو المغرب ؟ وهل بأشباه المثقفين، ومن يتلونون بلون الكراسي والمناصب، يمكننا أن نؤسس لذلك “الوئام الوطني” المنادى به افتراءً من طرف الوالي المعزول.
إنها أعراض العزلة، عندما يسدل الستار عن الشخص الذي عمّر طويلا في الضوء، وفجأة وجد نفسه شاردا وشريدا يعيش على هامش الأحداث لا صانعها، فوسوس له قرين نفسه: ربما الانضمام إلى جوقة “المارقين” قد يعيدك إلى واجهة الأحداث “، وكأن لسان حاله يتساءل ” ألم يحيي الله العظام وهي رميم”؟