من حقّ الجزائريين أن يخافوا على مسار، ومصير، حراكهم الذي أثمر نصف انتصار. الذين يضعون أيديهم على قلوبهم، ويحذِّرون من العواقب، في السر والعلنية، محقّون. هناك الكثير من اللصوص يحومون حول الحراك، ومثلهم من المتربصين به. وهم من نوع اللصوص الذين، حتى لو اختلفوا سياسيا وعقائديا، يلتقون حول خوفهم من انتفاضة الجزائريين ومن تحررهم، وتجمعهم الرغبة والمصلحة في الإجهاز على أي مسعى نحو حلم جميل.
تعوَّد الجزائريون على الاكتفاء بأنصاف الفرحة. وعاشوا من القهر والقمع ما جعلهم يؤمنون بأن الظلام نعمة والظلم قدر. ورَضوا طويلا بأفراحهم مسروقة وأحلامهم مجهضة ومحوَّلة إلى كوابيس.
على رأس اللصوص الذي يحومون حول الحراك، عصابة آل بوتفليقة ومعسكر الفريق أحمد قايد صالح، وقوى إقليمية.
العصابة لم تسرق فقط أموال الجزائريين وقوت أولادهم، إنما سرقت أيضا مستقبلهم وأحلامهم وإيمانهم ببلدهم. العصابة عاثت في البلاد فساداً وسرقة وظلما في زمن المخلوع عبد العزيز بوتفليقة وبمباركة منه. على رأس هذه العصابة آل بوتفليقة ذاته. وهؤلاء، علاوة على حسابات السياسة، لا يمكن عزل الجوانب النفسية في التعاطي مع ما يتعلق بهم: يعاني آل بوتفليقة إلى اليوم من آثار صدمة 1981، عندما عُزل وزير الخارجية آنذاك، وطُرد وطورد، فبقيت آثار الصدمة تلازمهم في شكل عقدة نفسية وسياسية، يرون أن من حقهم طيّ صفحتها بانتقام مفتوح استمر 20 سنة. سقوط آل بوتفليقة السريع والشنيع في الثاني من الشهر الجاري، وإدراكهم كم هم منبوذون من المجتمع، يترتب عليه خوفهم من أن يتكرر سيناريو 1981 في صيغة 2019. هذا الخوف يجعلهم يبذلون ما في وسعهم، ليس فقط لعرقلة انتفاضة الجزائريين الحالية، بل لوأدها لو أتيح لهم ذلك. وهم اليوم عبارة عن إمبراطورية قوية ومتنفذة، تملك من الأذرع والإمكانيات ما يؤهلها لقلب مسار الأحداث، مقارنة بذلك الرجل الهشّ الوحيد الذي كانه بوتفليقة غداة طرده من على رأس وزارة الخارجية.
تمتلك العصابة الكثير من الأذرع. بعضها ممثلة في أثرياء جدد جمعوا أموالا طائلة وتغلغل كثيرون منهم إلى أعماق أجهزة الدولة والحكم. سيكون من الصعب تصوّر هؤلاء يستسلمون بسهولة، لأن استسلامهم يعني قبولهم بأن تُفتح عليهم أبواب المساءلة وربما الجحيم.
من المتربصين بحراك الجزائريين أيضا، قائد أركان الجيش الفريق أحمد قايد صالح. هذا الأخير يحتمي بالدستور والشرعية القانونية لتبرير فتوره تجاه طمموحات الشعب وسياساته المعرقلة لها. أيًّا كانت القراءة لتحمس «القايد» للشرعية الدستورية، لا يجب إهمال أن جوهر المسألة أن الرجل ابن النظام ولا يمكنه الخروج عن أعرافه. من هذه الأعراف، غير المكتوبة، أن رجال النظام يفرط بعضهم في بعض، لكن لا أحد يرمي الآخر إلى مخالب الأسد. ويغضب بعضهم من بعض، لكن لا أحد يتخلى عن الآخر للأعداء. هذه عقيدة متجذرة منذ تشكّل هذا النظام، وليس من الوارد أن يشذَّ عنها قايد صالح اليوم من أجل انتفاضة شعبية يرى أنها حققت لأصحابها بعض المكاسب التي تكفيهم وتحفظ ماء وجههم. وأن تكون ابن النظام الجزائري يعني ألّا تعطي المجتمع الانطباع بأنك تستجيب له تحت الضغط. ويعني أيضا ألَّا تقضي على أركان ذلك النظام كي لا يقال، في نهاية المطاف، أن الربيع العربي حقق أهدافه في الجزائر بعد أن أخفق في بلدان أخرى، علمًا أن مفهوم الربيع العربي منفّر في اللغة السياسية الجزائرية وسلبي الصدى. وأخيراً، حتى لا يسجل عنك التاريخ أنك أنت من خان ميثاق «العصبة» وقضى عليها.
مَن في المعسكرين يعتمدون على أذرع إعلامية وعلى قوى في العالم الافتراضي، هي مزيج من ملتحين وتائهين وفاشلين، يخوضون بها حربهم النفسية ضد الجزائريين.
لهذا لم يكن مستغربا أن تحمَّست بعض وسائل الإعلام الجزائرية لبيانات أصدرتها الجهات الأمنية مساء الجمعة الماضية وتحدثت عن اعتقال مجموعات إرهابية كانت على وشك شنّ حرب على المتظاهرين والدولة معا. تضمن البيان ما يصعب تصديقه، وجاء في لغة حملت من الترهيب ما ذكّر الجزائريين بحقبة التسعينيات والرعب الذي عاشوه.
ناشرو البيان ومروجوه بحماس في بعض الإعلام الجزائري يلتقون في الموقف من الحراك، ويضافون إلى المعسكرَين المذكورَين أعلاه، لأن هدفهم كان جرّ المتظاهرين إلى مربع الخوف، ومن ثمة البقاء في البيوت كي يفشل الحراك من تلقاء نفسه.
أخيرا، لا يجب إهمال قوى إقليمية يزعجها تحرر الجزائريين. فتحرر هؤلاء يعني حق المصريين وغيرهم من الشعوب في إحياء حلم التغيير، ويقظة كهذه لا شك تقلق دولا مثل الإمارات والسعودية وروسيا، وتربكهم بعد كل الجهد الذي بذلته هذه الدول والأموال التي أنفقتها من أجل أن تبقى الشعوب مكبَّلة في زريبة كقطعان الغنم.
عرَّابو الطغيان هم رعاة السيسي في مصر وحفتر في ليبيا والأسد في سوريا. هؤلاء يختلفون تكتيكيا لكنهم يتفقون استراتيجيا. قائمة أسمائهم تبدأ في أبوظبي وتنتهي في موسكو مرورا بطهران والرياض وغيرها.
تبدو مهمة الجزائريين في حماية حراكهم صعبة إلى حد بعيد، لكنها غير مستحيلة إذا تركوا خلافاتهم التقليدية جانبا، واتفقوا على أن الهدف سامٍ ويستحق مزيداً من الصبر والتضحية من أجله.