أضيف في 10 أبريل 2019 الساعة 45 : 10
ماذا يمكن أن نستفيد من العلوم الإنسانية لتطوير أدائنا الإداري؟ وما هي درجة حضور هذه العلوم في خطابات الفاعلين السياسيين الذين يتحدثون عن معوقات ومحدودية العمل الإداري في مجتمعنا المغربي؟
أسئلة كبرى عديدة بجانب هذه تتطلب الخوض والتحليل اعتمادا على مناهج العلوم الإنسانية وخصوصا منها السوسيولوجيا حيث لها أهمية قصوى في تحليل الظاهرة الإدارية والجمع بين مكوناتها النظرية وجوانبها السياسية الأمبريقية. غير أنه، ونظرا لمحدودية هذه العلوم في فضائنا الثقافي العربي لاعتبارات ليست مجال تحليلنا في هذه المساهمة، تطرح تساؤلاتنا العلمية على محك المنتوج الغربي، حيث تصبح الحاجة إلى معرفة مجتمعاتنا بشكل موضوعي أمام صعوبات منهجية ومفاهيمية. فالمفاهيم التي اختبرت نجاحها الكبير في الفضاء المعرفي الغربي، تكشف أحيانا عن عجز في فهم المجتمعات العربية التي لها مميزات جد خاصة. لذلك ولتجاوز هذا الإشكال، يرى الباحث التونسي عبد الوهاب بوحدية أنه من الضروري أن تكون المناهج والتقنيات والمفاهيم والنظريات التي توظفها المقاربات السوسيولوجية متطابقة وملائمة للواقع. ولبلوغ هذا الهدف يجب على الباحث في هذا الحقل أن يقيم حوارا مع ذاته وتراثه من جهة، وحوارا مع الثقافات والنتاجات المعرفية من جهة أخرى. فليست السوسيولوجيا خطابا تأمليا مجردا، بل هي تحليل للبنيات الاقتصادية والاجتماعية والثقافية والسياسية. ومن هنا أهمية الدراسات المقارنة في الوصول إلى تصنيفات علمية.
ارتكازا على هذه الملاحظات إذن، لا يمكن أن ننفي أهمية النتائج العلمية التي حققتها السوسيولوجيا عموما، مهما كان مجال اشتغالها، ومهما كانت فضاءاتها، حيث إن المفاهيم الإجرائية لها دور رئيسي في حقل الاشتغال السوسيولوجي. إذا ما ارتكزنا على هذا الإطار الإبستيمولوجي إذن ستكون أسئلتنا للحقل الإداري أسئلة مشروعة وبالتالي سنحقق مردودية علمية عالية، بعيدة عن كل دوغمائية أو نظرة ضيقة تجعل من الخلفية الإيديولوجية والمراقبة الاجتماعية للمجتمع حليفها بامتياز.
في هذا الإطار، أجعل من التساؤل حول طبيعة التسيير الإداري العمومي السؤال المحوري لهذه المساهمة المتواضعة والذي يجب أن يؤطر التناول العلمي للظاهرة الإدارية بشكل عام لدى مختلف الفاعلين.
إننا نعيش بدون شك مرحلة تحولات كبرى تطبع المجتمع الدولي في رمته بكل تناقضاته ولا تكافؤاته ولا يمكن قياسها –أي التحولات بنفس الوتيرة، ولا يمكن كذلك مواجهتها بانغلاقية تامة. فالمرحلة تقتضي، بل تفرض الانفتاح الثقافي وما يعني ذلك من تحديث مؤسساتنا، وخصوصا منها الإدارية حيث زاد وزنها داخل مجتمع التواصل والإعلام، فالمقاولة الإدارية لها علاقة يومية ومباشرة بالفرد، وهذا ما يزيد من قوتها وحجم الأسئلة الكبرى المرتبطة بها.
إلى جانب هذه التحولات، فإن إدارة الشأن العام بالمغرب وصلت إلى درجة قياسية من الفساد الإداري لم يعد بالإمكان تحمل المزيد منه، وإلا ستصبح أمام شلل إداري تام وفراغ محقق في هذا المستوى. على هذا الأساس أصبح خطاب الإصلاح الإداري في المغرب، وخصوصا مع الحكومة الحالية، يعاني التضخم لدى مختلف الفاعلين. إنه مطلب اجتماعي يعبر عن رغبة ملحة واستعجالية، الشيء الذي يقتضي التدخل العاجل لصانعي القرار وترجمة إصلاح إداري فعال وعقلاني بتحديث البنيات والممارسة الإدارية وتجاوز أزمتها الحادة وجعل فلسفة التواصل مع الفرد والمحيط شعارها ومبدأها الجوهري. غير أنه وأمام ضعف الدينامية الداخلية لمجتمعنا المغربي، شأنه شأن باقي مجتمعات العالم الثالث التي تعيش مخاض الديمقراطية وصعوبات تحديث مؤسساتها، فإن السؤال الذي يفرض نفسه بإلحاح في هذا الإطار هو: هل مطلب تحديث الممارسة الإدارية هو مطلب ديمقراطي وعقلاني نابع من احتياجاتنا المجتمعية أم أنه خطاب ساخن أملاه هوس العولمة والشمولية وما يعني ذلك من تنميط للمؤسسات، ولم لا السلوكات؟ فالانخراط في الاقتصاد العالمي أصبح مرهونا بتحديث ودمقرطة المؤسسات والدفاع عن حقوق الفرد والمواطنة ونحت فلسفة صلبة لمشاركة الأفراد في تدبير الشأن العام ارتكازا على مبدأ الوصول إلى المعلومة L’information بحرية تامة.
إنه غالبا ما تكون التغيرات بالنسبة للمجتمعات الثالثة مفروضة من الخارج، وخصوصا من طرف صندوق النقد الدولي والبنك الدولي. وهذا ما نلاحظه بشكل جلي في تقارير هذه المؤسسات بصدد مجموعة من المواضيع (الإدارة مثلا ) والمفروض حسمها وفق المطالب المجتمعية الداخلية. فهذه المؤسسات تقدم وصفات علاجية جاهزة، وما على البلدان المعنية إلا تطبيقها وبشكل صارم، لارتباط ذلك التطبيق بالسياسة النقدية وبالاقتصاد. فهل شعار التنمية والتنمية المستديمة يتطلب هذه الوصاية المفرطة اعتمادا على تقارير فقط، تجهل الواقع الموضوعي والملموس لمجتمعات معقدة وصعبة التحديد أو مركبة (حالة المجتمع المغربي ) على حد تعبير عالم الاجتماع بول باسكون؟ إنه لا يمكن بالتالي وضع استراتيجية تنموية اعتمادا على أرقام رسمية لا تكشف الحقيقة في شيء.
هذا ما يفرض إذن على مختلف الفاعلين الوطنيين أو المحليين، عموميين كانوا أو شبه عموميين أو خواص، العمل الدؤوب والفعال من أجل إرساء ثقافة المصلحة أو الفائدة العامة لدى الكل وما يستتبعها من روح المسؤولية والحوار والتفاوض. فالأمر لا يتعلق، في رأي R.Roux ، بتحضير وإشهار قرارات سياسية عقلانية؛ لقد وجب أيضا تطبيقها. وأعتقد أن إرساء هذه الثقافة هو ضامن هذه المعادلة، فالعمل الإداري لا يمكن أن يكون مجرد قوانين ومساطر جافة بعيدة عن القلق اليومي والدائم للفرد، هذا القلق الذي قد يختلف أيضا باختلاف المجتمعات واختلاف الثقافات. إذ يجب الارتقاء بالعمل الإداري إلى ممارسة ثقافية ديمقراطية تستند في شرعيتها وعقلانيتها إلى طبيعة المجتمع.
فإذا كان عالم الاجتماع الألماني ماكس فيبر هو أول من صاغ نظرية البيروقراطية سنة 1922 انطلاقا من تحليله للإدارة البروسية التي رآها قوية آنذاك، حيث اعتبرها –أي البيروقراطية الشكل الأكثر تطورا للسلطة الشرعيةالعقلانية، فإن عالم الاجتماع الفرنسي ميشيل كروزييه أثار الانتباه إلى تعدد البيروقراطيات قياسا إلى تعدد الثقافات، فكل بيروقراطية ترتبط بمحيط ثقافي محدد. فبدراسته للإدارة الفرنسية وضح أن رئيس المصلحة لا يقيم اتصالا مباشرا على الإطلاق مع مرؤوسيه ويرجع ذلك في نظره إلى التخوف من العلاقات وجها لوجه التي تميز المجتمع الفرنسي على الخصوص.
هكذا إذن لا يمكن الاستناد إلى معطيات خارجية فقط نظرا لأهمية البعد الثقافي في تطوير أداتنا الإدارية وممارساتنا اليومية التي ما زالت تستند في عمقها إلى شرعية تقليدية بلغة فيبر أو أبوية جديدة Néopatrimonialisme حسب عالم الاجتماع Samuel Eisenstadt [صاغ هذا المفهوم في السبعينات ].
يجب أن لا نسير بسرعتين، فالأمر يتطلب مساءلة الجوهر عوض البحث عن آليات التنفيذ. ويجب أن يكون التفكير منسجما مع واقعنا حيث لا يجب استيراد النماذج دون مساءلتها، فالديمقراطية والتحديث يجب بناؤهما انطلاقا من واقعنا الثقافي كما هو شأن اليابان التي لا يجهل اليوم أحد موقعها في الاقتصاد العالمي. وهذا ما زال مغيبا لدى صانعي القرار في المجتمع المغربي، فالكل يتحدث عن ضرورة تحديث نسيجنا الاقتصادي وضرورة سن تشريعات موازية دون التساؤل عن أي حداثة وتحديث نحن في حاجة إليه، ودون استحضار قوي للإشكالات المركزية المرافقة لذلك. فالشرعية، يقول علي سدجاري، لا يمكن أن يعترف بها خارج المركز في الدول ذات النزعة التوحيدية، كالمغرب، في الوقت الذي تفترض فيه السياسة المركزية تأسيس شرعية جديدة للقرار وإعادة هيكلة الحكم اعتمادا على مبدئي المشاركة والتشارك والإنصات لحاجيات الفرد الذي لم يصبح مواطنا بعد في مجتمعنا بالنظر إلى ارتفاع نسبة الأمية.
من جانب آخر، إذا كانت متطلبات العولمة تفرض إدارة أكثر عقلانية وأكثر فعالية لضمان المنافسة الاقتصادية ومسايرة التحولات المؤسساتية، فإن مؤسسة تدبير الشأن العام في المغرب ما زالت لم تستوعب بعد متطلبات التغيير، وما زالت عبارة عن آلة ضخمة معقدة تعمل بدون أن تنتج الجودة، إنها تحتاج إلى استراتيجية جديدة خلاقة وملائمة تجعل من مشاركة كل الفاعلين هدفها الأسمى وبالتالي تطبيق لا مركزية وجهوية حقيقية همهما الرئيسي العمل على تحديث التدبير الإداري واعتماد رأسمال جديد لتدبير الموارد البشرية. ولن يتأتى هذا إلا بالاعتماد على دينامية دائمة ومتجددة، محورها الأساسي هو المواطن، تنطلق منه وتعود إليه. فالكل الآن يتحدث عن اللامركزية والجهوية، دون الإجابة عن السؤال: أين تبدأ وأين تنتهي هذه اللامركزية وفلسفة تقليص الفوارق الاجتماعية؟
ففي ظل المعطيات التي يعرفها الواقع المغربي –واقع ثقافة المشاركة أساسا كيف أمكن لنا الحديث عن هذا النوع من الدينامية المرتبطة بالمواطن؟
إن المتتبع للمشهد السياسي المغربي، يعرف جيدا أين تبدأ وتنتهي مشاركة الفرد، فرغم بعض التحولات الإيجابية التي يعرفها الحقل السياسي المغربي فإننا ما زلنا مع ذلك بعيدين كل البعد عن تغيير ثقافي يضمن تنمية ثقافة المشاركة والتواصل المفتوح مع كل مكونات المجتمع [مدنيا وسياسيا] والرقي بالوعي المدني إلى درجة عالية من التعميم.
إن مشاركة الفرد المغربي في تدبير الشؤون العامة ما زالت محصورة في فعل التصويت، إنها تبدأ يوم الاقتراع وتنتهي في اليوم ذاته، بمجرد الإعلان عن الأرقام الفائزة وعن النسب المئوية. فكيف يمكن تجسيد مطلب حسن التدبير إذن بخصوص الشأن العام؟ وما هي طبيعة المشاركة كعنصر رئيسي في تدبير جيد؟
يبدو واضحا جدا أن الفرد المغربي ما زال محروما من حق المواطنة وبعيدا عن فرضها في ظل اللانزاهة التي تعرفها العملية الانتخابية والتي يتحمل فيها كل الفاعلين المسؤولية من دولة وأحزاب. فإذا كان يوم الاقتراع هو يوم لإشهار وممارسة حق المواطنة في البلدان الديمقراطية، فإن هذا اليوم بالنسبة لنا في المغرب هو يوم لتمزيق هذا الحق واقتحام حرمته وقداسته، ويصبح الأفراد وفق ذلك عبارة عن أرقام وعمليات حسابية تفضي إلى نسب مئوية، مجردين عن كل هم مؤسس لمفهوم المواطن.
نستخلص إذن، أن المشاركة في إدارة الشأن العام ما زالت خطابا، لم يرق بعد إلى مستوياته العملية كما هو الشأن في البلدان الغربية، حيث حضور مفهوم الرأي العام كعنصر أساسي في قياس درجة مشاركة الأفراد. إننا في كل لحظة، مثلا، نسمع أن الرأي العام في المجتمع الغربي هو مع أو ضد رئيس الحكومة إثر الإعلان عن مخطط اقتصادي أو قرار سياسي.
إن المشاركة إذن في القرار وفي تصريفه، يبقى مستمرا في هذه الأنظمة عكس البلدان الثالثية التي تعتمد في أغلبها الانتخابات كبارومتر سياسي لمعرفة الخريطة السياسية للبلاد ليس إلا، دون أن تسائل صناعة القرار على ضوء مفهوم المشاركة.
يمكن القول إذن بأننا نعيش أزمة تدبير قائمة على أزمة المشاركة وغياب إدارة عقلانية وحديثة يجعل من الفرد ومحيطه ركيزة أساسية لفهم مشاكل ومعيقات تنمية مستديمة وفعالة. فلا أداء إداري ناجح وفعال بدون تغيير العقليات وتغيير الشرعية بشرعية إدارية أخرى، ولن يكون هذا مجديا بدوره إلا بتنمية شمولية تجعل من البعد الثقافي، أي من التنمية الثقافية، أحد مرتكزاتها. فالتواصل المؤسساتي مع الفرد/الزبون والمشاركة الفعالة تقتضي أولا في مجتمعنا المغربي تعميم التمدرس وسن سياسة تعليمية دقيقة في هذا المجال تمكن من إرساء ثقافة اجتماعية ديمقراطية على أرضية المساواة بين الجنسين، وبدون أي إقصاء للبعد الثقافي الأمازيغي في تشكيل الهوية الثقافية المغربية.
فلا يمكن محاورة العولمة والاندماج في الاقتصاد العالمي بدون مساءلة هويتنا الثقافية من جديد. فالتحليل الاقتصادي لوحده ارتكازا على مفهوم المنافسة الدولية غير كاف لتأهيل اقتصادنا الوطني والرفع من فعالية المقاولات المغربية وكذا تسهيل دخول الرأسمال والاستثمارات الخارجية، بالتالي غير كاف لإنتاج تدبير إداري جيد له كفاءة عالية.
وفي هذا الإطار يصبح للبحث السوسيولوجي وبالخصوص سوسيولوجيا الإدارة أهمية قصوى في فهم وتأهيل الإدارة المغربية التي أصبحت في المخيال الاجتماعي مرادفة للاستهتار والتبذير وكل المظاهر السلبية.
إجمالا يمكن القول بأن المقاولة الإدارية المغربية في كل تفرعاتها واستعمالاتها المتعددة هي في أمس الحاجة إلى إصلاح شامل يبدأ من البنيات ويصل إلى العلاقة مع المواطنين، مرورا بالجانب التشريعي وتكوين الموظفين، الخ. فإرساء إدارة عقلانية وديمقراطية هو الكفيل بخلق ثقافة إيجابية تجاه هذه المقاولة الفاشلة g
المراجع
Bouhdiba, A. Quêtes sociologiques, continuités et ruptures au Maghreb, Cérès, Tunis,
Roux, J., La rationalisation des choix politiques, ed. I.R.S.A., 1974.
Crozier, M., Le phénomène bureaucratique, Seuil, 1963.
سكينة عشوبة طالبة وباحثة
|