هناك مشكل صغير، أو ربما هو كبير جدا، في حكاية تأييد الحكم الابتدائي الصادر في حق معتلقي الحسيمة من طرف محكمة الاستئناف، هو مشكل تفاعل "مناضلي الافتراضي" أو "مناضلي الشبكات الاجتماعية من فيسبوك وتويتر وإنستغرام وماجاور هاته العوالم مع هاته الأحكام ومع تأييد الحكم الابتدائي يوم الجمعة الماضي من طرف محكمة الاستناف.
المشكل قوامه أننا أصبحنا ونحن نتابع هاته التعليقات الصادرة عن مناضلي الافتراضي مقتنعين مائة بالمائة أن الأمر يتعلق بشباب أبرياء وديعين مسالمين، كانوا جالسين في منازهم، يشربون الشاي قرب الأمهات وفي أحضان الكثير من الدفء العائلي، وفجأة داهمتهم قوات الأمن بمختلف أسلاكها وحملتهم إلى الدار البيضاء وقدمتهم إلى القضاء الذي حكم عليهم دون أي ذنب جنوه، ودون أي فعل جنائي ارتكبوه ودون أن يكونوا قد مسوا أي شيء إطلاقا بأحكام ثقيلة وصلت إلى حدود عشرين سنة لبعضهم.
الأمر لم يتوقف عند هذا الحد، بل إن القضاء في مرحلته الاستئنافية أيد هذا الحكم الصادر في حق هؤلاء الشباب، ومن معهم من الأقل شبابا، ودائما دون أي دليل أو بينة أو حجة أو برهان.
طبعا عندما تتابع هاته التعليقات لا يسعك -إذا ماصدقتها- إلا أن تدين كل هذا، ولايسعك إلا أن تستغرب لوجود قضاء في المغرب يدين الناس بهاته الأحكام الثقيلة دون أي ذنب، ولا يسعك إلا أن تلتحق بحملة "طلقوا الدراري" لأن المسألة ستكون لو كانت بهذا الشكل فعلا لعبا من لعب الدراري، سوى أن الحكاية ليست هكذا نهائيا.
لذلك لابأس من بعض إنعاش الذاكرة، ولابد من قليل من التذكير وإن أغضب الأمر كبار مناضلي الافتراضي وصناديد الفسابكة وأشاوس التويتوس وتابعيهم باللايكات ومن تبعهم بتدوينة أو تغريدة إلى يوم الدين.
الحكاية ابتدأت في الحسيمة تأخذ شكلها التراجيدي يوم تم رفض كل أيادي الحوار التي امتدت من كل مكان ويوم تم وصف كل المخالفين بأنهم عصابة.
الحكاية ابتدأت تسوء يوم اعتقد الناس أن التواصل مع الخارج أمر عادي ولا إشكال فيه، وأن مد اليد لبعض المعونة القادمة من هناك هو أيضا أمر لا يثير أي إشكال.
الحكاية خرجت عن طابعها السلمي الحضاي الجميل الذي ابتدأت به، والذي نوه به حتى من كانوا يختلفون مع الشباب في آرائهم، يوم تم تصوير رجال الأمن المغاربة القادمين من المدن الأخرى لتعزيز عمل إخوتهم في الحسيمة بأنهم قادمون من وطن آخر.
الحكاية أصبحت أكثر من سيئة يوم قال الزفزافي إن الاستعمار الإسباني أرحم بكثير من الاستعمار العروبي، وقيل له يومها "ماذا تقول ياهذا؟ تراك فقدت عقلك؟" فأجاب "أنا لا أهتم بالصحافة الصفراء، أنا واعر عليكم كاملين"
الحكاية لم تعد مسلية كثيرا يوم هجم أناس على مقر سكنى لرجال الأمن وأرادوا إحراقه، وتوصيف هاته الخطوة في القانون هو الشروع في محاولة قتل، واسألوا أي محام أو أي طالب في الحقوق عن عقوبة جناية مثل هاته في أي دولة من دول المعمور.
الحكاية أصبحت تثير كثيرا من الريبة والشك يوم سأل الصادقون هؤلاء الخارجين بعلم ليس علمنا الوطني "أين الراية؟" فكان الرد غاية في الوقاحة وقال الزفزافي بعظمة لسانه "لايشرفني أن أرفع علما تلتحف به الراقصات في المهرجانات".
الحكاية أضحت مثيرة لكثير من الألغاز يوم امتدت إليها أياد من أمستردام، ومن مدريد، ومن أماكن أخرى لازالت تحمل في ثنايا يدها علامات اغتناء من وراء العشبة لكي تشهر علم الانفصال وتقول "أنا أساند الشباب فيما يريدونه ونريد تدويل القضية".
الحكاية لم تعد سلمية ولا حضارية ولا أي شيء يوم صعد الشباب إلى أعلى إمزورن وشرعوا في قصف قوات الأمن بالحجارة، وقلنا جميعا "لا، هناك حدود لا يجب أن نتخطاها" فقيل لنا "اصمتوا أنتم لا تعرفون معنى النضال ونحن أحفاد عبد الكريم الصنديد وأنتم مجرد خونة مأجورين".
الحكاية أصبحت سيئة للغاية يوم تم تهديد أي مراسل صحافي لأي جريدة مغربية تكتب غير مايريد "مناضلو الافتراضي" أن يكتب ويوم تم طرد التلفزيونات والجرائد التي لاتساير هوى الصارخين بالشعارات ويوم قيل لنا جميعا "لن تدخلوها أبدا لأنكم لستم منا".
حينها شعرنا بأسى كبير - أنا أعترف بها - وعلمنا أن الأشياء إما أن تسير في اتجاه تطبيق القانون بحذافيره وحينها سيدخل من ارتكبوا كل هاته الأفعال الجنائية السجن، أو ستسير في اتجاه تركهم يفعلون مايشاؤون وإن أصبحوا فوق القانون وفتحوا لنا جميعا بابا كبيرا من أبواب جهنم التي لا نريدها لهذا البلد
لم يكن لدينا أي عداء قبلي لما وقع في الحسيمة، وشعرنا في الأيام الأولى للمظاهرات أن المسألة تهم أناسا يطالبون بحقوق شرعية لا يمكن لأحد أن يعارضها .
أما عندما أصبحت الأمور مندرجة في سياق آخر فقد تحملنا مسؤوليتنا بشجاعة يفتقدها العديدون من الصارخين بالشعارات الذين يجبنون أن يقولوا للجموع حقائقها الأربعة، والذي يعومون على كل عوم، والذين يسيرون مع كل تيار وصرخنا بقوة وإيمان مغربيين "باسطا آلدراري".
لم يكن ممكنا أن ننخرط في لعب الدراري لأنه هدد المغرب كله ولأنه خرج من طور الاحتجاج المعقول الحضاري السلمي إلى طور الاعتداء غير المقبول على كل الأشياء. الاعتداء المادي والاعتداء الرمزي والحكاية كانت واضحة وضوح الشمس، والأيادي المحركة كانت بادية للعيان، والأمور لم تكن تتطلب كل ذلك الالتباس الذي أراد العديدون إحاطتها بها لأنها كانت مفضوحة.
ماحذرنا منه في الحين الأول هو ماوقع بالتحديد: أناس في السجن بأحكام ثقيلة، عائلات تعاني وتعاني، فيما يسترزق من ورائها آخرون، أيادي ظاهرة وأخري خفية قطفت ثمن ماسمي الحراك ولازالت تحاول إلى يوم الناس هذا التقاط ما بقي من ثمرات ساقطة على الأرض، ومطالب اجتماعية بعضها تمت الاستجابة له، وبعضها الآخر في الطريق، وبعضها تم نسيانه تماما لأن مناضلي الافتراضي لا يتذكرون إلا نادرا ما يريده الواقع.
من لا يعيش في الواقع ولا يحيا مشاكله لايمكنه أصلا أن يعرف ما الذي يريده هذا الواقع. ومن يحيا في الافتراضي سيظل أبد الدهر في الافتراضي مهما غير شكل صرخاته والشعارات.
الناس، المغاربة، فخامة ذلك الذي نسميه الشعب، وقد خبر العديد من هؤلاء الصارخين بكل الشعارات قبل هذا الوقت بوقت طويل، سيحدق في هؤلاء "الشعاراتيين الافتراضيين"، مليا وسيحرك رأسه أسفا وحزنا وحسرة وسيمضي إلى واقعه الفعلي يعيشه يصنعه، يغيره، يتماهى معه، ويرتق كل ثقوبه بشكل مستمر وسيكتفي…
المختار لغزيوي.