كان أول ما فاه به مصطفى الرميد وزير العدل والحريات بعد أول اجتماع لمجلس الحكومة برئاسة عبد الإله بنكيران، أنه سينظر في ملف معتقلي السلفية الجهادية، ومع أن الوزير الذي كان يرأس منتدى الكرامة والحريات واعتصم إلى جانب عائلات معتقلي الأحداث الإرهابية التي شهدها المغرب طيلة ثماني سنوات، لم يقطع الشك باليقين إلا أنه مع ذلك فتح النقاش مع الطرف المعتدي، لكنه في غمرة النشوة والاحتفاء نسي أن هناك ذرفا ثالثا وهم ضحايا تلك التفجيرات الذين لازالوا يجرون وراءهم سنوات من العذاب والنسيان، كان واضحا أن الرميد لا يعرف هؤلاء، ولا يريد أن يعرفهم، وحتى وهو يقول إنه سيتبع مسطرة العفو بكل تعقيداتها للإفراج عن معتقلي الأحداث الإرهابية، إلا أنه تناسى عن سبق إصرار وترصد عائلات الضحايا الذين يقدر عددهم اليوم بالعشرات، أما المعطوبين وحاملي العاهات المستديمة فإن عددهم كبير جدا، ليبقى السؤال مطروحا، هل من حق الدولة أن تصدر العفو عن معتقلي الأحداث الإرهابية دون أن تستمع إلى الطرف الآخر، أكيد أن الملف سيظل مفتوحا حتى يأخذ كل ذي حق حقه.
جمعية لإنصاف ضحايا الإرهاب
في نونبر الماضي تم بمدينة الدار البيضاء الإعلان عن تأسيس "الجمعية المغربية لضحايا الإرهاب"، والتي تضم مجموعة من الفعاليات الجمعوية المهتمة بقضايا الإرهاب إلى جانب ضحايا الأحداث الإرهابية التي وقعت منذ 16 ماي 2003 بعدد من الأماكن بالعاصمة الإقتصادية. وتهدف هذه الجمعية، التي أعلن عن ميلادها خلال جمع عام تمت فيه المصادقة على القانون الأساسي ومختلف الوثائق المتعلقة بالجمعية، إلى مساعدة ومؤازرة الضحايا وذويهم ونشر كل المعلومات المتعلقة بهم مع تنظيم أنشطة وتظاهرات لتحسيس الرأي العام بخطورة الإرهاب وتكريس ثقافة السلم والعمل على بت روح التسامح والانفتاح وترسيخ قيم المواطنة ونبذ كل الخطابات المروجة للفكر الإرهابي والإقصائي. كما تتوخى الجمعية، التي ينص قانونها الأساسي على أنها جمعية ثقافية واجتماعية ليست لها أية أهداف سياسية أو عقائدية أو شخصية، التحسيس بخطورة الإرهاب، وتخليد ذكرى ضحايا الإرهاب حتى لا يطالهم النسيان علاوة على تنظيم والمشاركة في الندوات واللقاءات ذات الصلة بمكافحة الإرهاب وبحقوق الضحايا على الصعيدين الوطني والدولي. وانتخب الجمع العام بالإجماع سعاد البكدوري الخمال رئيسة للجمعية، مخولا لها صلاحية اختيار باقي أعضاء المكتب من ضمن الفعاليات التي حضرت الجمع العام التأسيسي إلى جانب شخصيات من المجتمع المدني وهيئات مهتمة بقضايا الإرهاب.
حتى لا ننسى
مع صعود حكومة بنكيران وتعيين مصطفى الرميد وزيرا للعدل والحريات، طفى إلى السطح ملف السلفية الجهادية، وتم الخوض في نقاش يتعلق بالعفو عن المسجونين، وزير العدل الجديد استقبل ممثلين لعائلات المعتقلين والمدافعين عنهم، وتحدث إليهم واعدا إياهم بالعمل على تقديم ملتمسات العفو إلى الملك، لكنه وفي خضم هذا النقاش نسي وزير العدل أن الملف هو ثلاثي الأضلاع، هناك الدولة المغربية ممثلة في وزارة العدل وهناك منفذو الاعتداءات الإرهابية، وهناك الضحايا الذي يقدر عددهم بالمئات، هذا إذا لم نضع في الحساب كل الذين عانوا من التشرد بعد فقد عملهم، نتيجة عاهات مستديمة تعرضوا لها بسبب التفجيرات الإرهابية. علامة استفهام كبيرة وعريضة تطرح اليوم؟ هل يحق أن يتم العفو عن هؤلاء المعتقلين، تنص الأعراف القانونية على أن مسطرة العفو تفضي بأن يقضي المحكوم عليه ثلثي المدة، على الأقل على أن يتم العفو عنه من الثلث الباقي الذي يمثل حق الدولة، لكن في قضايا الإرهاب هناك طرف أساسي يتم دائما إغفاله، وهو كل أولئك الذين قضوا في الأحداث الإرهابية بمحطاتها الثلاثة الرئيسية، وهي أحداث 16 ماي 2003 وأحداث أبريل 2007 وأحداث 28 أبريل 2011 بمراكش.
الأشلاء تناثرت في الدارالبيضاء
كانت الهجمات التي وقعت بالدارالبيضاء بتاريخ 16 ماي 2003، عبارة عن سلسلة من التفجيرات الانتحارية التي خلفت وراءها خسائرا في أرواح المدنيين بلغت 45 شخصا إلى جانب عدد لا يحصى من الجرحى الذين انتهوا بعاهات مستديمة، الأحداث وصفت آنذاك بالكارثة التي لم يسبق لها مثيل بالنسبة للمغرب، المعروف بالتسامح وبالسلام والنمو والحداثة.. بلد لم يكن معروفا أبدا بهذه الصورة السوداوية.. التي جعلته يدخل دائرة البلدان المنتجة للإرهابيين. قبل سنة 2003 لم يكن أحد يتصور مثل هذه الوضعية الكارثية، لذلك كانت بوقع الصدمة الممزوج بالخوف، صحيح أنه في سنوات التسعينات وقعت أحداث أطلس آسني بمراكش لكنها كانت بتدبير خارجي، أما في 2003 فالأمر يتعلق بقنابل موقوتة تفجرت عن سبق إصرار وترصد مخلفة مآسيا بحجم الجبال، فقدت كثير من الأسر في رمشة عين معيلها الوحيد لتدخل مرحلة المجهول في انتظار انجلاء الأفق. منذ ذلك التاريخ وبعد مرور ما يزيد عن ثماني سنوات، لازالت المعاناة هي العنوان العريض لضحايا تفجيرات 16 ماي خاصة من ذوي العاهات المستديمة، وعائلات المتوفين، ولازالت تبعات هذه المأساة ترخي بظلالها على معيشهم اليومي، بالرغم من مرور كل هذه السنوات، لازالت صورة دار إسبانيا بأشلائها المتناثرة تهيمن على مخيلة البيضاويين الذين عايشوا وعايشوا اللحظة الأليمة بكثير من الدموع، لأن كل واحد كان يمكن أن يكون في ذلك المكان وفي تلك اللحظة. سنوات مرت على هذه الذكرى الأليمة التي لم يبق منها سوى شاهد مثبت في ساحة خضراء بالقرب من ولاية الدار البيضاء، كانت فيما مضى تحتضن المسرح البلدي قبل أن تتحول اليوم إلى مزار لكثير من المغاربة الذين يـأتون إلى هنا مرة في السنة حاملين الورود والشموع للترحم على الطيب الخمال وابنه وكثير ممن قضوا في ذلك الخميس الأسود. سعاد الخمال أرملة المحامي عبد الواحد الخمال ورئيسة جمعية ضحايا 16 ماي، ارتأت أن تودع زوجها وابنها الطيب الخمال في كتاب يحكي عن تجربة شخصية عنوانها المعاناة، وهي تبث صورالمأساة التي عاشتها، قبل وبعد الفاجعة التي راح ضحيتها زوجها المحامي وابنها. المعاناة التي تحاصر جل الضحايا الذين نجوا من الحادث، بين مستشفيات وعلاجات بشتى أنواعها، في ظل الظروف المادية الصعبة التي تضاعفت لدى البعض بفقدان المعيل أو إعاقته، والتكاليف المالية الباهظة العلاج.
الأفق المجهول
الصفحة الأكثر سوادا والأعمق ألما مما تختزنه ذاكرة ضحايا أحداث 16 ماي التي يطالب منفذوها بالحصول على العفو والإفراج عنهم من أجل إعادة بناء حياتهم، هي أن هذه الفاجعة انتزعت الراحة النفسية للعديد منهم، واليوم يرقد بعضهم مشلولا على سرير المرض، ويتعايش آخر مع شظايا سكنت جسمه إلى الأبد، ويؤرق بعضهم فقده لسمعه، وآخر كتب عليه أن يقضي باقي حياته فاقدا لحاسة البصر.. الألم يقطع أحشاءهم كل يوم وكل لحظة، وتتربص بهم من كل جانب آلام لا نهاية لها. كان عبد الكريم مندب في عشاء عمل بدار إسبانيا، يشرح للمستثمرين والمحامين تفاصيل المشروع الصناعي الجديد في الدار البيضاء، كان يحلم أن يبني مصنعا قد يساعد على توظيف 300 شاب مغربي، عندما انفجرت قنبلة مطعم دار إسبانيا معلنة عن القيامة، في برهة تناثرت الأشلاء على الطاولات، وتوزعت الأعضاء البشرية على الكراسي، وتحولت الضحكات إلى رعب حقيقي عاشه كل من كتبت لهم النجاة ولو بعاهات مستديمة. كثيرون، لم يستوعبوا ما حصل كان في اعتقادهم أن الأمر أشبه بفيلم سينمائي عاشوا تفاصيله على أرض الواقع، وعائلات الضحايا لم تستطع أن تتصور أنهم ماتوا هكذا دون سابق إنذار، وفي غفلة من الزمن، فقط لأن ثلة من المغرر بهم أرادوا أن يخطوا صفحات من التاريخ يكتبونها بمداد من الدم الأحمر القاني، لكن هذه الصفحات اختلط فيها اللحم الآدمي وحلم حياة كثيرين إلى مجرد سراب، زوجة مندب الشاب الحالم مازالت تتجه بلا شعور نحو النافدة تترقب عودة زوجها من العمل. مندب كان من بين 45 شخصا لقوا حتفهم في مطعم دار إسبانيا الذي لم يفتح أبوابه منذ ذلك التاريخ وتحول إلى مجرد ذكرى أليمة، في ذلك المكان اختار عدد من البيضاويين تناول العشاء في نفس الأماكن التي اعتادوا الجلوس فيها، لكن هذه المرة كانت الطريق نحو الموت معبدة، وفي الحال سقط 15 شخصا لعشاء العمل عرف أكبر عدد من الضحايا، حيث قُتل خمسة عشر شخصا في الحال.
الخمال أرملة تناضل ضد الإرهاب
يبدو الأمر سورياليا بل وعسير الفهم، فوزير العدل وفي غمرة نشوته بحقيبته الجديدة تناسى أن في المغرب ضحايا سقطوا بسبب الإرهاب الأعمى وعائلات لازالت تناضل من أجل الإنصاف، نسي وهو يجتمع بعائلات المعتقلين أن هناك في الطرف الآخر عائلات من نوع خاص، أولئك الذين فقدوا معيلهم، أو تحول بعضهم إلى عبئ إضافي بكثير من المآسي. بعد التفجيرات التي أودت بحياة زوجها وابنها، بدأت سعاد الخمال العمل مع خطيبة أخت الشاب مندب، لمساعدة 20 أرملة فقدن أزواجهن في الهجمات، وتقول خطيبة إن هناك الجانب النفسي في هذه المعاناة، والذي يحاول الضحايا التغلب عليه بوضع اليد في اليد والتعاضد فيما بينهم. وتقول خطيبة "بالنسبة ﻷرملة أخي وطفليه المشكلة الأساسية كانت في الجانب النفسي"، على الأقل لأن عائلة الزوج المتوفي كانت ميسورة، لكن بالنسبة لمجموعة أخرى من أسر الضحايا، خاصة الأرامل والأطفال، تضيف المعاناة المادية عبئا ثقيلا للمعاناة النفسية. أما الجانب الأكثر مأساوية في حياة أرامل وأيتام ضحايا الإرهاب هو أن حالتهم في تدهور مستمر، لنصبح أمام مجتمع بكامله ضحية للإرهاب، فأشياء كثيرة اختفت بموت الضحايا في ذلك الهجوم الانتحاري. فحالة الخمال ومندب والباقون، والظروف التي سُرقت فيها حياتهم وأحلامهم تبين بوضوح أن الخسارة أكبر مما تبدو، فهناك 300 شاب حرموا من شغل كريم، وهناك البلد التي حرمت من استثمارات ونقاط إضافية في مجال النمو الاقتصادي والازدهار.
2011 موعد مع الإرهاب
في 28 أبريل 2011، كان ياسين البوزيدي، النادل في مطعم أرﯕانة يتنقل بنشاط بين الموائد عارضا خدماته على الزبائن الذين بدؤوا يتقاطرون مع اقتراب موعد الغذاء، تحكي الروايات التي تناسلت عقب الأحداث التي عرفتها مقهى أرﯕانة وكان بطلها متشبع آخر بثقافة الموت، تقول إن البوزيدي، توجه بابتسامة عريضة نحو المائدة التي جلس عليها الإرهابي العثماني الذي فجر المقهى، رحب به ياسين كزبون عادي على المقهى الشعبي في ساحة جامع الفنا. لم يكن البوزيدي، الذي خلف وراءه زوجة ابنة بالكاد تتعرف على أبيها وتخطو خطواتها الأولى في هذه الدنيا ابنا لم ينعم برؤية أبيه، يعلم أن هذا الزبون مختلف وأنه يحمل الموت في الحقيبة التي وضعها تحت االمائدة، مات البوزيدي في ذلك الانفجار وترك وراءه زوجة حاملا وطفلة صغيرة عمرها خمس سنوات، وترك غصة لن تمحوها الأيام. في مقهى أرﯕانة كان يشتغل 56 عاملا، جلهم أصبحوا عاطلين عن العمل بعد التفجير الإرهابي، بعضهم اشتغل هناك 21 سنة كحالة عبد الكبير الذي تحول إلى مجرد رقم في لائحة العاطلين عن العمل وهو يقول إنه "أصبح من الصعب جدا إيجاد عمل في المجال السياحي بمراكش بعد العملية الإرهابية، فالقطاع السياحي قد تأثر بشكل كبير". في كل ليلة يعاني عبد الكبير من الكوابيس، وأصبحت حالته النفسية صعبة لدرجة أنه أصبح يخضع للعلاج، ويزيد من معاناته ضغط الحياة اليومية ومصاريف ثلاثة أطفال اثنين منهما في المدرسة. في ذلك الخميس الأسود كان عمال أرﯕانة قد بدؤوا العمل بحوالي نصف ساعة، بدأ الزبناء يتقاطرون على المطعم الذي يتوسط مقاهي ساحة جامع الفنا، كان نحو 30 شخصا قد أخذوا أماكنهم، وفجأة دوى الانفجار، لتتحول قاعة المطعم إلى كومة من الأشلاء، لقد كان منظرا رهيبا ومرعبا ولحسن الحظ فقد وقع الانفجار في الظهيرة حيث بالكاد تستعيد الساحة نشاطها وحيويتها، لو كان في أوقات الذروة، خاصة في المساء، لكان عدد الضحايا كبيرا جدا.
عبد المجيد أشرف