العديد منا يختزلون الديانات في ثلاثٍ لا غير: اليهودية والمسيحية والإسلام. لكن، قليلون من يعرفون أن ديانات أخرى يقاسمهم معتنقوها الجيرةَ على وجه الأرض، التي تضمُّ اليوم سبع مليارات ونصف من البشر. جيراننا – وأقول جيراننا لأنهم كذلك مهما بعُدوا عنا، بالنظر لاتساع وارتفاع وعظمة الكون وصغر حجم كوكبنا – جيراننا هؤلاء يتوزع إيمانهم الديني، حسب دراسة أعدها الباحث صبري المقدسي – على أكثر من 10.000 دين وعقيدة ومذهب. من ضمن هذه المذاهب، 150 ديانة يزيد عدد أتباعها عن المليون نسمة، فيما تبقى 22 ديانة أكثر شهرة وتميزا نسبة للباقي.
في أغلب دول العالم، تسود إحدى الديانتين الكبيرتين، المسيحية أو الإسلام. وفي العدد الأكبر من دول العالم، تعدُّ المسيحية ديانة سائدة ورئيسة. فهناك 112 بلدا أغلب سكانها يتبعون الديانة المسيحية، ويتبنون إحدى مذاهبها كديانة مفضلة لهم. وكما نعلم، فالمسيحية موزعة بين الكاثوليك (1,2 مليار) والبروتيستانت (350 مليون) والأورتودوكس (240 مليون) والإنجيليين (84 مليون) والأورتودوكس الشرقيين… الخ.
أما الإسلام، الذي يتواجد معتنقوه في قرابة 60 بلدا، فيتوزع بين السنة (980 مليون) والشيعة (200 مليون)، وداخل السنة هناك المذاهب الأربعة المعروفة: المالكية والحنبلية والشافعية والحنفية، فيما هنالك داخل الشيعة: الزيدية والإثنى عشرية والإسماعيلية والعلوية…
أما اليهود، فيتوزعون هم كذلك على المذاهب التالية: المحافظون: 4 ملايين ونصف، العلمانيون: 4 ملايين ونصف تقريبا، الإصلاحيون: مليون و300 ألف، الأرثوذكس (التقليديون): مليون ومائتا ألف، ونفس العدد للمجددين. واليهود يتواجدون عبر العالم في عشر بلدان على وجه الخصوص.
ما أعداد أتباع الديانات عبر العالم عموما فهي كما يلي: 2,2 مليار للمسيحية و1,5 مليار للإسلام و900 مليون للهندوسية و394 مليون للأديان الصينية التقليدية و376 للبوذية و23 مليون من السيخ و14 مليون من اليهود ونفس العدد للجاينية و7 ملايين للبهائية و4 للشنتوية ومثلها للطاوية وأخيرا 2,6 للزرادشتية…
لم أسُقْ كل هذه الأرقام من أجل ترفٍ فكري عابر. بل لأنها الحقيقة التي لا ترتفع في عالم اليوم.
استحضرتُ كل هذا وأنا أشاهد العرض الموسيقي البهي الذي جمع الأديان السماوية الثلاثة رمزي، بحضور الملك والبابا خلال نهاية الأسبوع الفارط. كانت مناسبة كي يصل صوت أذان المسلمين رخيما رحيما مسالما إلى سكان القارات الخمس.
شعرتُ بقشعريرة اللحظات التاريخية حقا. تلك اللحظات النافرة من تلاحق حقب التاريخ، لا يهم الأشخاص في حد ذاتهم، ولا يهم البلد المعني في حد ذاته، ولا تهم المناسبة المحددة. ما يهم هو الرمز والرسالة والمعنى. يهم الابتهال الصاعد من ارتعاش الأرض نحو امتداد السماء. نعم: بشرٌ وموحدون، بشرٌ وممتلئون بالمحبة. بشرٌ ومشرئبون بالأعناق إلى ما وراء الغيم. بشر ومنصهرون في سياقات الوجود. بشرٌ وتواقون إلى أجمل ما فينا لعلنا نضفي على الوجود الروحي قبسا من الفيض الإلهي الذي يسكن وجداناتنا…
إن الموسيقى والشدوَ في ذلك المقام كانت أجمل جسر لقلوب الناس في العالم. لأن أتباع الديانات السماوية الثلاث كانوا على موعد مع اللحظة، وحتى من لا يمتُّون بصلة إليها كانوا منتبهين، وهم تحت وطأة تسارع الدوَّار الروحي في عالم اليوم الموسوم بالعنف وتشييء البشر وقتل الطبيعة والعنف الهمجي المجاني وضياع البوصلة…
لم يكن هناك أجمل من رفع الأذان محفوفا بالموسيقى وبجمال الابتهالات المترقرقة في الأصوات النسائية الرقيقة المعبرة عن أرق خلجات النفوس المؤمنة… لا الإيمان رئاءَ الناس ولا الإيمان المُقايِضُ والمقايَض، بل الإيمان المطلق الممتزج بإطلاقية الوجود نفسه…
تناهت إلى سمعي بعد العرضِ بعضُ الأصوات المرتفعة بالتكفير والسب واللعن تجاه الآخرين. أصوات المسارعين إلى استجلاب غضبٍ على المختلفين دينا عنا، غضب لا يأتي ولن يأتي لأنه نقيض الرحمة الإلهية، نقيض الفطرة الإنسانية، نقيض الجمال المتوهج في نفس كل أبناء البشرية…
سوف يستمر الصراخ طبعا كما كان منذ بدْء الخليقة، لكنه لن يفل إرادة الخير. وإرادة الخير اليوم مضمونها: تعايش الأديان عوض تطاحنها والندية والاحترام بينها والتنافس على الخير والحب والجمال… إلى أن يرث الله الأرض ومن عليها، لا أن يرثها منتحلو الإيمان من أجل تحقيق المكاسب الدنيوية الرخيصة.
قال نبي الإسلام يوما جوابا على سائلٍ مترددٍ لا يعرفُ كيفَ يتخذُ قراره: “اِسْتَفْتِ قَلْبَكَ”. إن جمال هذا القول يكمن في كونه تحريضا عقلانيا من أجل القيام بفعل جوَّاني. أنْ تسألَ القلبَ كيف يجبُ أن يتصرفَ العقل. هذا المبدأ هو بالضبط ما يتعين اعتماده تجاه حدثٍ كهذا. فلم يكن الأمر في تلك الامسية يتعلق برُكحٍ عادي، بقدر ما كان يتعلق ببؤرة تَلاقٍ للخير والجمال والتسامح. كان حثًّا نورانيا على الإيمان الروحي عوض التقريع الفقهي الشنيع، تحبيبا للنفس عوض الترهيب الأخرق، جمالا عوض البشاعة، جنوحا للسلم عوض القرقعة والفرقعة. كان تواضع التقوى عوض زَبَدِ العجرفة…
لذلك استحق ذلك الشدوُ المشتركُ أن يدخل التاريخَ من بابه الواسع، التاريخ الذي يعرف كيف يحتفظ بنزوعات الخير لدى البشر ويتغاضى عن التلاسن العقيم.
فطوبى لمن كتب وطوبى لمن لحَّن وطوبى لمن عزَف وطوبى لمن أنشد وطوبى لمن حضر… وطوبى لمن قلبَهُ استفتى…
وطوبى بالطبع للمغرب الذي كان مسرحاً لكل هذا الجمال…