إذا سُئِلت عن مكان تواجد الجهاز العصبي في جسم الإنسان، فعلى الأغلب ستجيب على مستوى الجمجمة متمثلًا في “الدماغ” أو على مستوى العمود الفقري متمثلًا في “الحبل الشوكي“.
لكن إلى جانب الجهاز العصبي المركزي المتكون من الدماغ والحبل الشوكي؛ تحتوي أجسامنا على جهاز عصبي معوي (the enteric nervous system )، هو عبارة عن بطانة من طبقتين تضم أكثر من 100 مليون خلية عصبية تمتد من المريء وصولًا إلى المستقيم.
يُطلق على الجهاز العصبي المعوي: “الدماغ الثاني“، وهو على اتصال دائم مع الجهاز العصبي المركزي، لذا فإنّ مجرد التفكير في الطعام يُمكن أن يؤدي بمعدتك إلى إفراز الإنزيمات !
كيف يتواصل الجهاز العصبي المركزي والجهاز العصبي المعوي بعضهما مع بعض؟
حتى وقت قريب، ظنّ العلماء أن الجهازين العصبيين المركزي والمعوي يتواصلان بطريقة غيرِ مباشِرة فقط؛ أي عن طريق الهرمونات التي تنتجها “الخلايا الصماء المعوية*enteroendocrine cells“؛ المُنتشرة في جميع أنحاء بطانة الأمعاء.
بعد استشعار وجود الغذاء أو البكتيريا، تفرز الخلايا هرموناتِها، لِتنقلَ الهرمونات الرسائلَ إلى الجهاز العصبي، ومن ثَم يعمل هذا الأخير على تعديل السلوك وفق الوضع الراهن.
لكن؛ اتّضح فيما بعد أن العملية قد تكون أكثر مباشرة؛ إذ اكتشف عالِم الأعصاب في جامعة ديوك (Duke University )؛ دييجو بوهوركيز (Diego Bohórquez ) أن بعضَ الخلايا الصماء المعوية تتصل مباشرة بالجهاز العصبي المعوي، وتشكل معها “تشابكات عصبيةsynapses”.
كيف تمَّ هذا الاكتشاف؟
أحد الأسباب التي دفعت بوهوركيز إلى البحث في هذا المجال هو أن صديقةً له كانت تعاني من السمنة قررت الخضوعَ لعملية جراحية للمعدة لتكون حلًا أخيرًا لمُشكلتها.
بعد العملية، فقدت نسبةً كبيرةً من وزنها، وشفيت من مرض السكري، لكنّ المُلفت في الأمر بالنسبة لبوهوركيز هو تغير ذوقها؛ فقد كانت سابقًا تفقد شهيتها كلّما رأت صفار البيض، ولكن بعد الجراحة، أصبحت تتوق إلى تناوله !
هذا الدماغ الثاني يتحكم في سلوكياتنا المرتبطة بالأكل إذن !
يُذكر أنه تم توثيق هذا التغيير في الذوق لدى مرضىً آخرين خضعوا للجراحة في سبيل علاج البدانة، لكنّ العلماء ليسوا متأكدين كيف أو لماذا يحدث ذلك، يقول بوهوركيز إضافةً لذلك: “إنها ظاهرة جديدة، ولكن يبدو أن التغير في الجهاز الهضمي يغير إدراك أدمغتنا لمذاق الطعام بشكل فيزيائي“.
فهم العلماء أنه عندما تُنَشَّط الخلايا الصماء المعوية بالمغذيات، فإنها تفرز هرمونات، وهذه الهرمونات إما أن تدخلَ مجرى الدم أو تنشط الأعصاب القريبة، فتؤثرعلى طريقة تناولنا للطعام.
يقول بوهوركيز إن تركيزه يتمحور حول معرفة كيف تتحول الإشارة الحسية من المغذيات إلى إشارة كهربائية تُغير السلوك، لذلك بدأ هو وزملاؤه في إلقاء نظرة فاحصة إلى الخلايا الصماء المعوية باستخدام المجهر الإلكتروني الثلاثي الأبعاد.
كشف التصوير بهذه الطريقة عن بنية جديدة بالكامل لم تُرَ من قبل. يضيف بوهوركيز: “يبدو أن الخلايا الصماء لا تحتوي على زغيبات (microvilli ) أو نتوءات صغيرة على سطحها فحسب؛ ولكن لها امتداد يشبه القدم أيضًا، وقد أطلقنا عليه اسم (neuropod )، أصبح من الواضح أن للخلايا الصماء المعوية سماتٍ تكوينية مماثلة للخلايا العصبية، لذلك تساءلنا عما إذا كانت متصلة بالخلايا العصبية بشكل مباشر“.
شرح التجربة
سر إمكانية تتبع اتصالات المشابك !
تقوم العملية على إدخال كمية ضئيلة من فيروس داء الكلب المشع/الفلوريّ** والمعدَّل جينيًا في قولون فأر تجارب، ويشرح بوهوركيز في قوله:
“بعد سبعة أيام من خضوع الخلايا الصماء المعوية لهذا الإجراء، كانت تتوهج في القولون باللون الأخضر؛ أي إنها أصبحت مشعة بدخول الفيروس إليها؛ مما يوفر دليلًا على أن هذه الخلايا الحسية تتصرف بالفعل تصرفَ خلايا عصبية“.
في تكملة للتجربة الأولى؛ استُخدِم فأرٌ من شأنه أن يسمح لفيروس داء الكلب بالقفز مرتين، وحُقِن الفيروس وظهرت الخلايا الصماء المعوية والأعصاب التي تتصل بها مشعة؛ مما يدل على وجود تشابك عصبي بين هذه الخلايا الحسية والجهاز العصبي، إذن هناك فعلًا اتصال مباشر لم يكن مكتشفًا من قبل.
ما الفائدة من هذا الاكتشاف ؟
يفتح هذا الاكتشاف الباب لإعادة النظر إلى كيفية التأثير في هذه الإشارات الصادرة من كلا الجهازين العصبيين المعوي والمركزي، وقد يغير في يوم من الأيام طريقة تعاملنا مع حالات متنوعة من مثل:
التوحد والسمنة وفقدان الشهية ومُتلازمة القولون العصبي ومرض التهاب الأمعاء واضطرابات ما بعد الصدمة والإجهاد المزمن. والتي تشترك كلها في أعراض تُعرف باسم اضطرابات الأمعاء، أو فرط أو غياب الحساسية لمحفزات الأمعاء .
يقول بوهوركيز: “على سبيل المثال، أشارت الملاحظات السريرية إلى أن بعض الأطفال الذين يعانون من مرض فقدان الشهية ربما يكونون واعين بشكل غير طبيعي لعملية الهضم والتي في ظل الظروف العادية تحدث دون وعي مكاني (عضوي ) وزماني مفصل، ولكن بشكل ما يمكن لهؤلاء الأطفال أن يشعروا بما يحدث هناك؛ الأمر الذي يثير مشاعر القلق لديهم ويتسبب في فقدانهم للشهية“.
ومع هذه المعلومات، قد يفهم العلماء بشكل أفضل الاضطرابات الأخرى التي يُظَن أنها نفسية فقط حتى الآن.
كما يضيف بوهوركيز :”لقد بدأنا للتو في دراسة هذه الآليات، وسيتوجه البحث العلمي إلى فهمها بشكل أكبر مستقبلًا، وإلى جانب الجهاز الهضمي، تمتلك بطانة أعضاء أخرى في الجسم مثل: الرئتين والبروستاتا والمهبل خلايا حسية مشابهة للخلايا الصماء المعوية، وسنعمل في المستقبل على اكتشاف كيف يستقبل الدماغ الإشارات من هذه الأعضاء ويحللها، وكيف يؤثر ذلك في أحاسيسنا“.
حاشية:
الخلايا الصماء المعوية؛ هي خلايا حسية تمتلك نفس المستقبلات الموجودة على مستوى الأنف والفم، ثم إنها مسؤولة عن كل من الاستشعار الميكانيكي والكيميائي والحراري.
فيروس داء الكلب؛ هو فيروس يصيب الخلايا العصبية وينتشر عبر الوصلات العصبية، لذلك عند استخدامه في شكل معدّل لا يسمح له سوى بالقفز إلى خلية عصبية واحدة مرة واحدة، فإنه يصبح مفيدًا لتتبع الوصلات العصبية.
بقلم الدكتور يونس العمراني