لـمّا استفاقتْ (براكيـنُ الربيع العربي)، أدركتُ أنّها نهاية استكمال عملية دمار هذا العالم، وتذكّرتُ (السّيناريوهات) التي كانت قد أعدّتْها منظّماتُ الهدم لكلّ قُطْر عربي؛ فلم أُطبِّلْ كما طبَّل المطبّلون، ولم أهرولْ كما هروَل المهَرْولون، ولم أُحلِّلْ كما حلَّلَ "الشعراءُ" في القنوات، وعلى المنابر، ولم أنعتْ ما يحْدث بمصطلح (الثورة)، ذلك أنّ الثورةَ يسبقها فكْر، وأفكار، ومفكِّرون؛ وتسبقها تهيئة عقلية، وتغييراتٌ في الذّهنية، وتحليلاتٌ للوضعية، ولا يتقدّمها أناسٌ عُرِفوا بالجهل، والانتهازية، واستثمار الأمّية، وعدم الوعي عند شعوب طالما عُبِثَ بها وطالما كانت ضحية الكذَبة، والعابثين عبْر التاريخ؛ وأدركتُ أنّ هذا الشعب العربي المسكين، هو ضحية مرّةً أخرى للتضليل والكذب بوهم التغيير، حتى لأنّ زملاء متسرّعين وصفوني بالسباحة ضد التيار، وبالجهل التّام بمرحلة تاريخية تجري تحت الأنوف؛ وبعْد انقشاع السحاب، صمت الأصحاب، وقد ظهر للعيان مَن منّا كان على صواب..
بدأ المسلسلُ بأحداث (أكديم إيزيك) في الصحراء، وقُتِل جنود، وشرطة، ودرك، أمام الـمَلإ في العراء، وصرّح (الدّاودي) الذي هو اليوم المكلَّف بـ(الحكامة) قائلا ومستهزئًا في قناة (2M): [هل كانوا يعتقدون أنّ مهرجانات الغناء هي التي ستخفي الواقع المزري الذي تعيشه البلاد؟].. وبسياسة (العُبَيْديين)، نَفَذُوا إلى الحكم بواسطة وهْم ديموقراطيةٍ لا يؤْمنون بها أبدًا، فصدّقهم الشعبُ من وجهة دينية نفاقية، فاكتشف أنّهم يعتبرون الشعبَ مجرّد (قطيع)، لا يمكن جمعُه وخداعُه إلاّ بواسطة الدّين؛ ولما استاء الشعبُ، وخرج إلى الشارع، وهو ينادي: [بنكيران، اِرْحَلْ!]، كان قد فات الأوان؛ فبالدّين ضلَّلوا حتى وصلوا، والدّين منهم براء.. ثم بالديموقراطية التي لم يؤْمنوا بها يومًا، استثمروا جانبَها الإيجابي، فوزّعوا المناصب، ووزّعوا المكاسب، وبذّروا خيرات الأمة في حملات التهمتْ الملايين في محاربة الرشوة، ومحاربة الفساد، وما هي إلاّ ألاعيبُ شياطين، حيث ازدادتْ ظاهرةُ الرشوة انتشارا، وسالموا رموزَ الفساد بمقولة (عفا الله عمّا سلف!)، وجاء وقتُ سلْخ الشعب، فضربوا أبسط حقوقه بدعوى الإصلاح، وقال (بنكيران) صراحةً: [سيتمّ الإصلاحُ، ولو جاءتِ الصيـنُ كلُّها تحتجّ]؛ ودون الدخول في التفاصيل، أسألُ الشعب: [ماذا استفاد من الديموقراطية في مجال العيش، والكرامة، والعزّة، والتعليم، والصّحة، والوظيفة العمومية، والحرّيات، والإنسانيات؟] الجواب: لا شيء يُذْكَر!
هكذا؛ أُسْدِل ستارٌ ظلاميٌ على المغرب، وصارت سفينة الأمّة تتلاطمها الأمواجُ، فأحسّوا بالحرية المجّانية، وخُلُو السّاحة من رجال الوطنية، وانعدام الأسئلة والمحاسبة، وانطلقت الغرائزُ من عِقَالها، فبرز على الساحة الرّجلُ المنكاح الذي يبحث عن فروج ليس عليها أقفال؛ وظهر لصوص أمام بيت مال لا يحرسه رجال؛ وطفتْ أخبارُ قتلةٍ للنفس بغير حقّ؛ وظهر قانون الاقتطاع من أجر مضرب غاضب بدعوى (العمل مقابل الأجر)، فيما نواب لم يشتغلوا لمدّة ستة أشهر، فنالوا أجرهم كاملاً دون عمل؛ ولـمّا دخلوا القبّةَ وُزِّعتْ عليهم هواتفُ نقّالة غالية الثمن للتسلية؛ وبعدها صاروا يناقشون مسألة (تقاعُدهم) بعد خمس سنوات قضوها في راحة تحت القبّة، فيما خُصِمَ الثلثُ من تقاعُد من قضى (40) عامًا في خدمة الوطن، ومع ذلك دون حياء، يتحدّثون عن (دولة الحق والقانون)، وعن (الحماية الاجتماعية)، وعن (الاستقرار)؛ وبعدما تأذّى منهم المواطنُ المقموع، أبدعوا قانون التوظيف بالتعاقد، ثم امتدّتْ يدُهم الآثمة إلى الصحة، والوظيفة العمومية، ثم طالت يدُهم الشِّريرة حتى مجال القضاء، صاروا يشكّكون في نزاهته، ويتحرّشون به، وينتقصون من قدْر رجاله، بل طالت أيديهم القذِرة سائر مؤسسات الدولة، وازدادتِ الدّيونُ، وفشت ظاهرة التعيين في مناصب عليا وهي مستمرّةٌ كلّ أسبوع منذ ثماني سنوات، ولا أحدَ سأل عن طبيعة هذه المناصب المشبوهة.
أكلوا وشربوا وتمتّعوا ولِخسّتهِم صاروا يقولون صراحةً إنّهم لا يحتاجون إلى رضا الملك؛ وردّدوا بأنّ الملكيةَ تعْتبر حجرَ عثْرة في تقدُّم البلاد؛ بل نادوا بملكية برلمانية على شاكلة (بريطانيا).. ولـمّا قرُب وعدُهم، وخبا نجمُهم، وولّى عهدُهم، سارعوا لشراء الڤيلات، والتمتُّع بتقاعد سمين لم يظفرْ به حتى من ضحّى بحياته وبدمه في سبيل هذا الوطن.. هذه أمورٌ غريبة، لم تُعرَف بها حتى أنظمة ديكتاتورية بغيضة؛ ولكنْ عُرِفت بها دولٌ (ديموقراطية) فريدة في سياستها، متفرِّدة بلصوصها، تسير بعقلية تجّار لا يهمُّهم مستقبلُ أمّة، ولا تعليم أجيال، ولا صحّةُ مواطنين، ولا عيْش متقاعدين، رغم كذْبَتَي (الاقتصاد الأزرق)، و(المغرب الأخضر) وغيْرها من أمور وهمية تفتّقَتْ عليها إبداعاتُ الكذَبة، والانتهازيين، والضّاحكين على ذقون المغاربة.. كلّ هذا ما كان ليحدث تحت سماء المغرب، لولا وصول أتباع (البصري) إلى سُدّة الحكم، بدين كاذب، وديموقراطية وهمية، وتدمير ممنْهج، وسَمُوه بأوراش الإصلاح، ولكنْ كذّبتْهم الأحداث وما تعرفه من هجرة، وجريمة، وفساد، وسرقة، وهي أمورٌ لا تهمّهم، بل تغبطهم، وترضيهم، وذات صباح، سنستيقظ على مغرب آخر كنتيجة لهذه السياسة الملعونة، وقد يقال: متى هذا الوعد؟ الجواب: لستُ أدري، ولكن احْذَروا مكْر التاريخ!