كثيرة هي الجهات الحزبية والنقابية والمهنية والإعلامية التي تناولت موضوع أساتذة التعاقد، وكثيرة هي أيضا المنطلقات والخلفيات والدوافع التي تحكمت في لغة ونبرة البلاغات والبيانات والمقالات التي تعاطت مع موجة الاحتجاجات التي انخرطت فيها هذه الفئة من الموظفين.
فهناك أولا جماعة العدل والإحسان، التي لها موقف مبدئي من جميع أشكال الحقل الاحتجاجي ببلادنا، حيث تجدها أول من يناصر ويندد ويشجب في صفحاتها على مواقع التواصل الاجتماعي وعلى لسان قيادييها كلما تعلق الأمر بمسيرة أو تجمهر أو احتجاج، وذلك على اعتبار أن التوتر الاجتماعي كيفما كان شكله ونوعه هو وسيلة لتحقيق مآرب سياسية ومكاسب شعبية، وهو أيضا محاولة للتأثير على السلطات العمومية.
وهناك أيضا ” اليسار بمختلف أطيافه”، الذي تجمعه بالعديد من أساتذة التعاقد تقاطعات عضوية، على اعتبار أن فئة واسعة من هؤلاء كانت تنشط ضمن اليسار أيام “حلقيّات” الجامعة أو في إطار تنسيقيات حاملي الشهادات العاطلين إبّان النضال في الشارع العام. وقد انبرت أطياف اليسار كلها تتحدث عن “العنف المفرط” في شكل مقالات وتدوينات فردية لأساتذة جامعيين ومدونين، وكأنهم “ذئاب منفردة” تحاول تأجيج المشهد السياسي والاجتماعي العام.
وهناك كذلك معشر الصحفيين، الذين اختلفوا في منطلقات المعالجة وخلفيات التحليل، وإن تحكمت في البعض مطامع برغماتية، على اعتبار أن نسبة مقروئية أخبار الاحتجاج والعنف تصاعدت بعض الشيء، بفعل الحشد الكبير على مواقع التواصل الاجتماعي، وهو ما حقق لبعض المنابر مزيدا من المتابعين والمتصفحين والمطالعين، وهناك فريق آخر يرى في ما يعتبره ” ضعف” رئيس الحكومة الحالي في تدبير ملف أساتذة التعاقد، مطّية لإعادة إحياء ذكرى عبد الإله بن كيران، وإن كان هذا الفريق يبقى ضعيفا جدا ولا يمثله إلا منبر واحد أو اثنين، وذلك بفعل تدني شعبية الرجل وانتهاء رصيده السياسي والمهني.
لكن ما يبقى عصيا عن الفهم والاستيعاب، هو أن تخرج نقابة أو وجوه محسوبة على أحزاب الأغلبية، خصوصا حزب العدالة والتنمية لتأليب الشارع ضد الحكومة والأمن، بمسوغ الاصطفاف إلى جانب أساتذة التعاقد، بيد أن هذه الأحزاب هي من أرست فكرة التعاقد، وقدمته على “صيغة توفيقية بمقدورها توظيف الشباب، ومواجهة البطالة، والتغلب على نذره الأساتذة، دون التأثير على التوازنات المالية الكبرى للدولة”.
فالظهور بمظهر المدافع عن الحقوق الشعبية، لا يعطي لأي كان الحق في تقويض مرتكزات النظام العام أو الدفاع عن تقويضه، تحقيقا لمطامع شخصية أو تأثيثا لصورة نضالية مغلوطة لدى الرأي العام. كما أن الدفاع عن مطالب أساتذة التعاقد ينبغي ممارسته ضمن قنوات الحوار الحكومية، لا عن طريق الاستقواء بالشارع ومحاولة فرض الاعتصامات الليلية، التي ترفضها كل الدول وتحظرها كافة الأنظمة.
وتقويض مرتكزات النظام العام لا يتحقق بالتجمهر الليلي ومواجهة القوات العمومية وعدم الامتثال للإنذارات والإعذارات القانونية، وإنما يتحقق أيضا بنشر الأراجيف والأكاذيب والصور المغلوطة عن العنف المفترى عنه. فالكل يتحدث عن الدماء التي تسيل، والجميع يدعي الإفراط في استخدام القوة، بيد أن جميع التسجيلات المنشورة لم تتضمن أي مقطع لهذا العنف، باستثناء صورة لمخزني يعانق أستاذا متعاقدا والتي قيل عنها الكثير من المزاعم وحيك حولها الكثير من الكلام.
وتبقى الصور المستوحاة من رحم الفايسبوك، والتي قيل أنها توثق للتدخل الأمني، فهي قليلة جدا ولا تتجاوز أنامل البنان، وهي إما صورة لشخص ملقى على الأرض والذي تم تقديمه على أنه توفي في الأحداث، قبل أن يتم التراجع عن ذلك من جانب ناشريها وتكذيبها بشكل تلقائي، ثم هناك أيضا الصورة التي تظهر فيها يد شخص مجروحة بسلاح أبيض، وهو ما يجعلنا نتساءل عن صحة هذه الصورة في ظل أن رجال الأمن لا يتسلحون بالسكاكين والمديات والسواطير؟
بقي أن نؤكد على معطى مهم، وهو أن صور العنف المزعوم يجب أن تكون موضوع أبحاث قضائية دقيقة من طرف النيابة العامة، لأن نشر مثل هذه الصور الكاذبة لا يمس فقط بصورة الأمن وموظفيه، وإنما يعطي انطباعا مغلوطا عن واقع حقوق الإنسان ببلادنا، ويمس بصورة المملكة المغربية ككل، وذلك إما إرضاءً لمطالب فئوية أو خدمة لأجندات أخرى غير معلنة.