في زمن الحديث الكثير هذا عن المدرسة العمومية، وعن الذين فرض عليهم التعاقد، وعن الآخرين الذين اختاروا التقاعد قبل الأوان، وعن التلاميذ الذين فرض عليهم الغياب أو التغييب عن الدرس فقط لأن آباءهم وأولياء أمورهم فقراء، وعن المنظومة التعليمية التي فرض عليها أن تغيب عن التدبير العاقل والعالم لها، لا بأس إطلاقا من استعادة هاته الحكاية الجميلة لهذا المعلم الكيني الذي فاز الأحد الفارط بدبي الإماراتية ب"جائزة أفضل معلم في العالم" في دورتها الخامسة والبالغة قيمتها مليون دولار أميركي للمدرس بيتر تابيشي من كينيا.
تابيشي وهو مدرس للفيزياء والرياضيات في منطقة نائية بكينيا نال هاته الجائزة العالمية التي تمنحها "مؤسسة فاركي"، وذلك بعد تخليه عن 80 بالمائة من دخله الشهري لمساعدة الفقراء الذين يدرسهم في مدرسته، والذين فطن بحس الأستاذ الأبوي إلى أنهم يأتون جوعى إلى القسم مايمنعهم من التركيز في حصص الفيزياء والرياضيات التي يقدمها لهم، وأنهم يقطعون قرابة السبع كيلومترات يوميا لكي يصلوا حتى حجرة الدرس، والذين لا يجدون ملابس لائقة يرتدونها للقدوم إلى المدرسة، فقرر ألا يكتفي بالملاحظة بل مر إلى التطبيق، ومنح من ماله الشيء الكثير وترك لنفسه العشرين في المائة فقط المتبقية من الراتب لكي يحيا بها.
تابيشي قام بذلك دون أن يطلب إلا مقابلا واحدا من تلامذته وهو أن يجتهدوا فعلا في دروسهم، وهو الأمر الذي جعلهم يبرعون رغم الظروف الصعبة التي يدرسون فيها حد فوزهم بعدد كبير من الجوائز في مختلف المسابقات العلمية التي شاركوا فيها أمام أقرانهم من مدارس أفضل ماديا من المدرسة التي يتلقون فيها دروسهم.
تابيشي كان، قبل القدوم إلى هاته المدرسة، أستاذا في مدرسة خاصة يتقاضى راتبا أكبر من الذي يناله حاليا في مدرسته العمومية، لكنه اختار الصمود مع الصغار الفقراء، واختار أن يتذكر مساره هو الأول من نفس المدرسة أي من مدرسة الشعب لكي يخوض هاته التجربة التي أوصلته إلى الفوز بهاته الجائزة العالمية، لكن أوصلته إلى ماهو أهم: مساعدة صغار على تلقي العلم في أفضل الظروف الممكنة بالنسبة ، لبلادهم والمكان الذي ولدوا فيه.
عندما تتابع قصة تابيشي ستتذكر ولا شك إذا كنت من الجيل الوسط، (أواخر الستينيات وكل السبعينيات وبعض من الثمانينيات) أساتذة ومعلمي العصر الذهبي، أولئك الذين كانوا يقومون مقام الآباء والأمهات في حجرات الدرس، أولئك الذين كانوا ينقبون عن الأكثر تميزا من بين التلاميذ لكي يرافقوه فيما تبقى من عمر الدراسة.
لدي ولديك ولديها ولدينا ولدى الآخرين كلهم نماذج كثيرة وأمثلة متعددة، وأسماؤهم لا تغادر ذاكراتنا الفردية وذاكرتنا الجماعية، ولن تغادرها أبدا، لأنهم طبعوا مسارات حياتنا وساعدونا سواء كنا أدبيين أو علميين كل في مجال تميزه الأول على القراءة يوم لم نكن نملك ثمن كتب نقتنيها، وعلى الفضول المعرفي أكثر، وعلى حب البحث عن التعب المعرفي الذي شرحوا لنا "بالخشيبات منذ الوهلة الأولى للحياة أنه أساس كل المتعة العقلية والذهنية والنفسية لمن يتقن القبض على تفاصيل هذا التعب لكي يحولها إلى راحة حقيقية.
افتقدناهم يوميا ونفتقدهم اليوم بكل صراحة، وافتقدنا بصماتهم علينا وعلى مدارسنا العمومية، تلك التي أنجبت الآلاف من المتفوقين في كل المجالات بقليل الإمكانيات فعلا، وبصفر عبارة شكوى أو تبرم، وبكثير من القدرة على الجد والاجتهاد اليوم بطوله، والسنة بأكملها وعلى امتداد كل الأعوام...
أتذكر أستاذا كان عندما يمرض ويتغيب يعوضنا عن دروسنا بعد عودته حتى وإن كنا قد ألحقنا بقسم آخر وأستاذ آخر. أتذكر أستاذا كان يفتح حقيبة سيارته الخلفية لنا - وكان فرنسيا بالمناسبة - لكي يطلب من كل واحد منا في ثانوية عمر ابن الخطاب بمكناس أن يختار الكتاب الذي يروقه، ويترجانا ألا نعيد الكتب، لكن يتوسل إلينا أن نقرأها. أتذكر الأستاذ الذي كان يذهب إلى مقر عمل الوالد رحمه الله لكي يوصيه على الدرس الفلاني أو التمرين العلاني. أتذكر الأساتذة الذين كانوا يقولون لنا إن طريقة الفقراء الوحيدة للوصول إلى بر النجاة في هذا البلد هي أن يدرسوا وأن يتفوقوا أن يتذكروا أن لولاهم لضاع العلم.
أتذكر مع هذا المعلم الكيني الجميل عشرات الذكريات الرائعة التي جعلتنا نضع معلمينا وأساتذتنا مقام الأبوين، ونرفعهم إلى مصاف التقدير والاحترام، ونواصل الشعور بالرجفة وكثير التقدير ونحن نتحدث معهم حتى بعد أن بلغنا من العمر عتيا وحتى بعد أن وصلوا إلى أواخر مراحل الوهن.
هؤلاء صنعوا المدرسة العمومية المغربية، وهؤلاء عاشوا سنوات رصاص حقيقية، وأيام إضرابهم التي يتذكرها القدماء كانت الناس تذهب إلى السجون ولم تكن تشتكي. لم يكن هناك فيسبوك أو تويتر أو إنستغرام يضع الناس فيه صور الطعام والماكياج وملامحهم أثناء المظاهرات /الطوندانس، مظاهرات 2.0 الحالية ويتبجحون. كانت شغيلة التعليم يومها تقول بكل بساطة : نحن نؤدي ثمن عيش الأجيال المقبلة بشكل أفضل، وكانت تنام راضية.
هل تعيش الأجيال التي أتت بعدهم بشكل أفضل؟
يحق لنا جميعا طرح السؤال. السؤال فقط، إذ لا نملك حق الإجابة ولا حق إصدار الأحكام على أي كان
فقط نقول بكل مرارة إن الواقع الحالي، أليم ومحزن وجد كئيب ورغم ذلك نتذكر أن الأمل علمه لنا أولئك الرواد يوم قالوا لنا بكل إيمان استطاعوا تسريبه إلى دواخلنا: "مهما وقع لكم صغاري، لا تفقدوا في يوم من الأيام الأمل!"
المختار لغزيوي