تقدّمتِ السّنُّ بـ[أبي سفيان]، وصار أعمى بعدما فقد بصرَه.. وذات يوم، قال لصبيٍّ: [خُذْني يا بُنَي إلى قبْر (حمزة)]، فأخذه الصّبي إلى القبر، ولـمّا وقف أمامه، صار يتحسّسه بقدمه، ثم قال له وهو ينفجر ضحكًا: [لله دَرُّكَ يا حمزة، لقد قاتلناكَ على أمرٍ صار لنا]؛ فلـمّا سمع الصّبيُّ ذلك، ذهب وترك (أبا سفيان) يتعثّر بيْن القبور.. لكنْ ما هو هذا الأمرُ الذي قاتلوا (حمزةً) من أجْله، فصار لهم؟ إنّه السلطة، والإمارة، وقد نالها (بنو أميّة) في آخر المطاف.. ولـمّا تولّى [يزيد] الفاسق الخلافةَ بواسطة أبيه، قال لجموع الحاضرين قولاً كُفْريًا ثم أنشدَ: [لعبتْ هاشِمُ بالـمُلْكِ، فلا تسألْ * فلا خبرٌ جاء، ولا وحيٌ نزل]. وهذا تشكيكٌ في رسالة سيّدنا (محمّد) عليه الصلاة والسلام.. وقد تنبأ صلّى الله عليه وسلّم بمستقبل هذه الأمّة، وما يصيرُه الحُكْمُ فيها بعد ثلاثين سنة من وفاته.. قال (البزّار): [حدّثنا محمّد بن سكين، حدّثنا يحيى بنُ حسّان، حدَّثنا يحيى ابن حمزة عن محْكُول، عن أبي ثَعْلَبة، عن عُبيْدة بن الجرّاح قال: قال رسولُ الله عليه الصلاةُ والسلام: (إنّ أوّلَ دينكم بدأ نبوّةً ورحمةً، ثم يكون خلافةً ورحمةً، ثم يكون مُلْكًا وجَبْريَةً)]؛ قال فقهاءُ الحديث: [حديثٌ حسَن] ومعنى (الجَبْرية) في اللغة، هي التّجبُّر، والقَهْر، وهو ما نعيشه منذ (14) قرنًا خلتْ، وصدق رسولُ الله صلّى الله عليه وسلّم. اُنظرْ كتاب (تاريخ الخلفاء) لجلال الدّين السيوطي؛ صفحة: (12 و13)، فأين هم من كانوا يكْذبون على المسلمين بالخلافة والنّبيُّ يقرّر أنْ لا خلافةَ بعْدَه إطلاقًا..
ولكنْ بماذا تنبّأَ النبيُّ عليه الصلاة والسلام بما سيَكون عليه المسلمون مستقبلاً؟ وماذا قال بهذا الخصوص؟ تُورِد بعضُ المصادر والمراجع حديثًا نبويًا شريفا بصيغة تحذيرية، وتدّعي أنّ النبيَ قال: [لا تَصيروا بعْدي كفّارًا يضْرب بعضُكُم رقابَ بعض]؛ لكنْ في مراجعَ أخرى كثيرة، تورِدُ هذا الحديثَ بصيغة تقريرية إذ يقول عليه الصلاةُ والسلام: [سَتَصيرون بعْدِي كفّارًا يضْرب بعضُكم رقابَ بعض]؛ وإذا تأمّلنا الواقع، وراجعْنا التاريخ، لألْفيْنا أنّ الحديث التّقريري الثاني أصدَق من الحديث التحذيري الأوّل، ونحن نعلم ما يجري للأحاديث من تعديل، وبتْرٍ حتى يلائم الأنظمة الحاكمة في كلّ زمان من أزمنة البطش، والقهر، وقطْع الرؤوس.. كان الأمويون الأوائل لا يسْمحون لأيّ قانون إنساني أو إلاهي بالوقوف عقبةً في تنفيذ مشاريعهم، أو تحقيق مطامحهم، وقد حرّضوا على تسميم حفيد رسول الله، وعلى قتْل (الأشْتَر) الـمُعارض لهم..
أوْلَـمُوا لـ(الأشتر) ودسُّوا له سُمّا في عسَل فمات؛ فلـمّا جاؤُوا ليزُفُّوا له (؟) الخبر (السّعيد)، قال: [ماذا وراءكم؟]؛ فأجابوا: [إنّ لله جنودًا من عَسَل]؛ فضحك وأثنى على صنيعهم؛ وأمّا الرّؤوس التي قُطِعت فلعلّه رأسُ [حِجْر بن عَدِي] وابنه وهو صاحب رسول الله صلى الله عليه وسلم، وقد نُبِشَ قبرُهُما منذ أربع سنوات من طرف [داعش] في (سوريا)؛ فأيُّ إسلام هذا، وأيُّ إيمان هذا، عند مَنْ ينبش القبور، ويعْبث بحرمة الموتى؟! صعد (الـمُعِزُّ لدين الله) في أوّل ولايته ليخطب يوم الجمعة، فوجد هناك ورقةً كُتِبَ فيها بيتان: [إنّا سمعنا نسبًا مُنْكرًا * يُتْلى على المنبر في الجامع.. إنْ كنتَ فيما تدّعي صادقًا * فاذْكُرْ أبًا بعْد الأب السابع]؛ ومعلوم أنّ (العبيْديين) كان مشكوكًا في نسبهم، وأنّ جهلَة العوام هي مَن سمّتْهم (الفاطميون)؛ فهم غيْر قُرشيين، وجدُّهم كان مجوسيًا، وأنّ (سعيد) كان أبوه يهوديًا حدّادًا كما يقول (عبد الجبّار البصري).. [الـمُعزّ] صاحب (القاهرة) سأله (ابنُ طباطبا العلوي) عن نسبهم؛ فجذب نصْفَ سيفه من الغِمْد وقال: [هذا نسبي، ونثَر على الأمراء والحاضرين الذّهبَ وقال: هذا حَسَبي].. وكتب إلى الأموي صاحب (الأندلس) كتابًا سبّه فيه وهجاه، فكتب إليه (الأموي): [أمّا بعْد؛ فإنّكَ قد عرفْتَنا فهجوتَنا، ولو عرفْناكَ لأجبناكَ]؛ وهذه هي سياسة العرب منذ القدم، وإلاّ انظُرْ منْ حولِك!
والشعوب العربية تثوق إلى التغيير، وتريد دخولَ التاريخ، والإسهام في حضارة العالم العلمية والفكرية، والسياسية؛ ولكنْ لا حظَّ لها، لأنّ التغيير، يسْبقه تغييرٌ في العقلية أوّلاً، وتتلوه مراجعةٌ نقدية للتّراث، وليس تغيير أنظمة متماثلة أو شخصيات متشابهة؛ هذا غيْر مُجْدٍ، ونحن لم يظهرْ بعدُ في تاريخنا فيلسوفٌ مثْل (ديكارت) الذي درس تراثَ الأسلاف بعقلية نقدية، ولم يظهرْ بعدُ بيْننا فيلسوفٌ مثْل (إسبينوزا) الذي حذّر من إدخال الدّين في السياسة؛ ولم يبرزْ في حياتنا الثقافية والسياسية واحدٌ من أمثال (جون لوك) الذي يرى أنّ الحكومة هي الحارس لحقوق المواطنين.. فكلّ مفكّر عربي نَحا هذا المنحى، إلاّ وقُتِل أو نُفِي أو صُودرتْ كتبُه؛ فمِن أين سيتولّد التغييرُ في عالمنا العربي والحالةُ هذه؟! فماذا تغيّر وقد رأيتَ شابّا يحرق جسدَه لأمرٍ صار في الأخير لمصلحتهم؟ ماذا تغيّر بعْد (فوْرة الربيع العربي)، وأكذوبة التّغيير الوهمي؟ ما هو الجديد في مهزلة الجزائر؛ ومِضْحَكة تونس؛ ودراما مصر، ومأساة اليمن؛ وتراجيديا سوريا؛ وملهاة السّودان؛ وسكيتشات ليبيا؛ ومهرجان الضّحك في المغرب بزعامة (البيجيدي)، ورُعْب أبو منشار (هناك)؛ وعَنْتريات قطر؛ و… و…؟ فالزُّمَر الذّئْبية في العالم العربي لا تعاني من أيّ نقص؛ فذِئبٌ يمضي، وآخر يأتي، أو يعود من بعيد.. فالأقطار العربية استحالتْ إلى معتقلات، وهو ما يفسّر فرارَ سجنائه عبْر موجات الهجرة وبأيّ ثمن؛ ومن ذلك ترى أنّه ومنذ قرون، لا جديدَ تحت شمس العالم العربي، وليس هناك أيُّ مؤشّر لمستقبل يُدْخِلُنا التاريخَ مجدَّدا..