عندما قرّر الرئيس الجزائري تحت ضغْط الشارع، إلغاء ترشّحه لولاية خامسة أدركتُ أنّ الأمرَ يتعلّق بخدعة سياسية لا أقلّ ولا أكثر؛ وبعد حين قيل إنّ الرئيس سيقترح على الشعب دستورًا جديدا سيكون موضوعَ استفتاء شعبي، ثم تلا ذلك تأجيلُ موعد الانتخابات الرئاسية لأجلٍ غير مسمّى، عندها فقط اكتشِفَ المستور، وانفضحتِ اللُّعبة الخفية، وطُرِحت أسئلة منطقية، وهي: لماذا أُجِّلَ موعدُ الانتخابات الرّئاسية إلى أجل غيْر مسمّى، وعلى أيّ أساس تمّ هذا التأجيل؟ لماذا يقوم رئيسٌ منتهية ولايتُه بوضع مشروع لدستور جديد، وعلى أيّ أساس شرعي يعيّن الرئيسُ المنتهيةُ ولايتُه رئيسًا لحكومة جديدة؟ ومَن هم هؤلاء الذين سينظّمون مناظرةً وطنية لتغيير النظام؟ ومن هو هذا النظامُ الذي يراد تغييرُه والجيشُ هو المتحكّم في السياسة، وهو من يعيّن الرئيس وأزلامَ النظام منذ الاستقلال؟ وهل فعلاً أنّ (بوتفليقة) هو من اتّخذ كلّ هذه القرارات فعلاً وهو الرئيسُ المريضُ والقعيدُ على كرسي متحرك، بل إنه لا يقوى حتى على الكلام، وعلى التفكير، ولا يدري حتى ما يجري حوْله وما يُصْنَع بشخصه من طرف الماسكين بخيوط (الدُّمية) من وراء السّتار، يحركونها حسب مصالحهم؟
لكنْ تألّمتُ لشعب يريد التغيير فعلاً، ويريد إقامةَ دولة الحق والقانون؛ ويريد التناوبَ الشّفاف والنزيه على السلطة؛ ويريد اختفاءَ وجوه عرفها وملّها وسئمَ عبْر السّنون من سياستها ولكنّ الجيش يحميها وهذا هو دورُه في الوطن العربي عامّة وليس الدفاع عن حوزة الوطن؛ تلك الأكذوبة التي يحشون بها أدمغةَ المواطنين؛ فأريني جيشًا استعاد أرضًا، وذَادَ عن كرامةٍ في أي بلد شئتَ أو استجاب لطموحات أمّة، وجعل الشعبَ هو مصدر السلطة في البلاد؛ فمهما بحثتَ، فلن تجد نموذجًا واحدًا يُحْتذى ذكرهُ التاريخُ، ونوّه بأمجاده، فمهمَا أشْقاك البحثُ وأضناك، فلن تجد مثالاً واحدًا يُحتذى على طول ربوع الوطن العربي الذي تأبّد فيه التخلفُ واستطال، وكل زُمْرة ذئبية حاكمة، تحافظ على سلطتها ومنافعها ومصالحها على حساب مستقبل أمّة برُمّتها.. لكنْ هل هذه الزُّمَرُ المنْقضةُ على رقاب الشعوب تُعتبر ظاهرةً غريبةً أو شاذّة في الوطن العربي الكبير؟ الجواب: كلاّ! فالنظام يستمدّ شرعيتَه من التراث الديني، ومن التاريخ العريق، ومن الأعراف المتّبعة، ومَن تمرّدَ عليه كان خائنًا وجب الضربُ على يده، وجعْلِه أمثولَة لغيْره؛ فالنظام الحاكم هو (الثابت)، والوجوه التي يتمّ استبدالُها هي (الـمُتغيِّر) وهذه ثوابتُ وجب الحفاظُ عليها وحمايتُها..
فبقاء رئيس جمهورية في منصبه رغْم سوء حالته الصّحية وذهاب فطنتِه، وجمود عقْله، وتراجُع ملَكاته، هو أمرٌ شرعي، وثابتٌ في الأمّة بنصوص دينية، وفتاوى شرعية.. فماذا يقول التراث الديني بهذا الخصوص؟ [إذا وصل الحاكمُ إلى السلطة إمّا لمنزلة أسْرتِه؛ أو لمالِه؛ أو بقوة رجاله (يعني الجيش) كانت ولايتُه شرعية، ولو كان عبدًا مجدَّعَ الأطراف] يعني مقطوع الذّراعيْن والسّاقيْن؛ أليس هذا ما يقوله تراثُنا في المراجع؟ فولاية (بوتفليقة) شرعية بالنص، وكذلك ولاياتُ رؤساء بلغوا من العمر عتيًا، وكانوا في السلطة منذ (1958)، وكانوا من أعمدة النظام لعشرات السنين، فنُوديَ عليهم، فخرج رئيسٌ من النافذة بعد ثورة وهمية، ودخل رئيسٌ آخر بنفس العباءة من الباب، واستمرّ الفساد، وطال الظُّلم، واستطال القمع، وفشى الجوع، والبطالة، والأمّية في الوطن، ووسائلُ إعلام التضليل تتحدّث عن (الثورة، والديموقراطية، والتغيير)، ولستُ بحاجة إلى إعطاء أمثلة؛ فهناك أنظمة حافظتْ على بقائها بواسطة الجيش المسلّح ضد الشعب؛ وهناك رؤساء تشبّثوا بمناصبهم حتى والشعب يرفضهم، وهو يموت جوعًا، وبردًا، ومرضًا، ويحتجّ يوميا في الشوارع، وقد قضى الرئيسُ (34) سنة في الحكْم، فأزّم وضعية البلاد، وساءتْ أحوالُ العباد..
لقد صار الوطنُ العربي أضحوكةً في نظر عدد من المؤرّخين، كما صار مادّةً دسمة لعدد من المخرجين السّينمائيين في أفلامهم المضحكة حوْل هذا العالم العربي الذي صار خارجَ التاريخ.. في سنة (1996) عرضت التلفزة الوطنيةُ فيلمًا للمخرج المغربي (نبيل لحلو) وكان بعنوان: [حاكِم جزيرة الشّاكَربَا كربن]؛ لكنّ الرقابةَ شوّهتْه بالقصّ، واللّصق، والحذف، حتى صار الفيلمُ مشوّهًا وعبارةً عن مشاهد لا تربطها روابط فكرية وسينمائية؛ لكنّ المضمون العام لم يستطعيوا محوَه، وخاصّة ذلك المشهد المضحك الذي يظهر فيه رئيسُ مؤسّسة، يجوب المكاتب، ويعطي الأوامر، ويوبّخ الموظّفين، وهو محمول في (قُفّة) يأحذها رَجلان من (أُذُنَيْها)، لأنّ الرئيس كان مبتور السّاقيْن، وقَزَمي القامة، أصلع الرّأس، وكل الناس تنحني أمامه إجلالا له وتعظيما لشخصه.. منذ ذلك الحين، لم يقدَّمْ هذا الفيلمُ مرة أخرى لما يتضمّنه من مشاهدَ ساخرة، ونقْد اجتماعي وسياسي لما يَعْتمل في الوطن العربي، وقد كان من المفروض تكريمُ هذا المخرج الذي تنبّأ له الممثّلُ الراحلُ (العربي الدّغمي) بأنّه سيكون هو [جون هيُوسْطن] (المغرب)؛ ولكنّ الإهمال، وعدم الاهتمام، ونوعية الأفلام التي يتعاطاها المخرجُ (نبيل لحلو) حالت دون ذلك، وهو المخرج الملتزم، والمتأثّر بـ(الفلسفة الوجودية)، وكان فيلمُه صادقًا وها هي الأحداث في الوطن العربي تؤكّد بالملموس ما صوَّره (نبيل لحلو) وكأنّه فيلمُ خيالٍ علمي، صار مضمونُه حقيقةً علميةً معاشة في عالم اليوم..