نكتشف هاته الأيام مجددا تلك العبارات المبنية للمجهول وعليه، تريد من خلال هذا البناء الفرار من الواقع الذي صنعته بيدها أو على الأقل ساهمت بقسط وافر في صناعته.
أشهر جملة من هذا النوع نسمعها في البلاد هاته الأيام هي جملة «الأساتذة الذين فرض عليهم التعاقد»، دون أن نعرف بالتحديد كيفية هذا الفرض، ولا الجهة التي فرضته، ولا كيف يمكن أن تفرض عليك هاته الجهة المجهولة هذا التعاقد، ثم تقرر بعد أن وقعت عليه بملء قواك العقلية أن ترفضه وأن تعتبره مفروضا عليك.
إضافة لهاته العبارة هناك عبارة أخرى تسير معها في نفس البيانات التي تصدر هاته الأيام هي عبارة «المرسبون ظلما»، ومرة أخرى لا تستطيع أن تحدد من رسب من، ولماذا قررت الجهة المرسبة (بكسر السين) أن ترسب هذا المرسب (بفتح السين هذه المرة) دون بقية المنجحين، لأنه من غير المعقول أن نقول الناجحين وأن نبني صفة التفوق هاته إلى المعلوم في الوقت الذي نلصق صفة الفشل أو الترسيب بالمجهول وعواله.
ومن يتذكرون قليلا نقاش العطالة والتعطيل سيتذكرون العبارة الشهيرة التي كانت تجوب المغرب منذ سنوات، وهي عبارة المعطلين، التي كان البعض يرفضها ويقول إن الأمر يتعلق بعاطلين طالما ألا وجود لرغبة في تعطيل حاملي الشهادات هؤلاء، وأن سوق الشغل هو الذي لم يعد قادرا على احتواء خريجي معاهد وجامعات لا تتلاءم مع هذا السوق.
لكن مرة أخرى هاته الرغبة في عدم تحمل المسؤولية تقفز إلى المقدمة، وتعفينا من اقتحام نقاشات حقيقية وجدية، وتكفينا شر التفكير الفعلي في الحلول من خلال إلصاق تهمة التعطيل هاته بالجهة المجهولة الشهيرة والسلام.
الحكاية ليست عجبا في مجتمع يصعب فيه أن تسمع على لسان فرد من أفراده منذ لحظات الصغر الأولى عبارة من عبارات تحمل المسؤولية، فنحن القوم الذين «كيهرب علينا التران»، و«كتديرها بينا الطيارة»، و«كيتهرس لينا الكاس»، و«كيطيح لينا البزطام»، عوض أن نقول بأننا تأخرنا عن موعد القطار أو الطائرة، أو عوض أن نعترف أننا كسرنا الكأس وأضعنا حقيبة نقوذنا.
دائما لدينا القدرة العجيبة على تحميل كل كوارثنا للآخرين، ودائما لدينا تلك الموهبة الأكثر عجبا على التنصل من المسؤولية وإلقائها على الآخرين أحيانا اتهام الجماد بها، والذهاب بعيدا في سماوات التأمل منتظرين أن تمطر السماء علينا بالذهب والفضة الشهيرين.
وحتى عندما تضيق بنا آفاق التفسير «المنطقي» للأشياء، نجد أنه من الممكن أن نلوم الأعضاء البشرية الموجودة في جسم الإنسان، وفي مقدمتها «العين»، التي نعتبر أنها قادرة على صنع المعجزات ضدنا، إلى الحد الذي يجعل أي فاشل في أي مجال من المجالات، من العملية إلى الشخصية قادرا على أن يفسر كل كوارثه والمصائب بهذا العضو البشري الصغير أي «العين» التي يتصور أنها «تابعاه»، وأنها تمنعه من تحقيق المعجزات، وتتصدى له لكي لا يتمكن في يوم من الأيام من إنجاز أي شيء…
هل نعود للازمتنا الشهيرة عن الأسرة وعن ضرورة زرع روح المبادرة العاقلة في الناس منذ الصغر، وعن إلزامية تعليم أبنائنا وبناتنا منذ لحظة القدوم الأولى للحياة عبارة صغيرة تسمى النقد الذاتي، ستكون مساعدة لهم في اللاحق من الأعوام على كثير المواجهة الصارمة مع حرب الحياة، وهي حرب حقيقية وليست نزهة أو لحظة تسلية وستمر؟
نعم ملزمون بذلك، وملزمون أيضا بالتذكير بدور المدارس، فور أن نعثر لها على مدرسين حقيقيين، في تكوين هاته الملكة النقدية لدى الناس، والخروج بعقول صغارنا من غباء الحفظ والتفسير اللامنطقي للأشياء.
فعندما تعلم الصغير في بداية حياته التواكل وعدم الاعتراف بمسؤوليته عن أي شيء، لا تنتظر منه عندما يكبر أن يقوم بالعكس أو أن يجد تفسيرا منطقيا لكل ما يقع له في حياته.
سيبني حياته كلها إلى المجهول، وسيتهم الجهات التي يراها والأخرى التي لا تظهر (بسم الله الرحمان الراحيمين مثلما ينطقها المغاربة) بالتسبب في كل كوارثه، وحتى عندما سيصل إلى المراتب العليا من التسيير في البلاد، ستجده ذات يوم واقفا يبكي في تجمع انتخابي قبل الأوان وهو يتهم «العفاريت» و«التماسيح» وبقية السخافات أنها السبب الرئيسي في عدم قدرته على القيام بأي شيء.
مجتمع حتى داخل غرفة نومه يفسر عدم قدرته على الانتصاب - أعز الله قدر الجميع - بالثقاف، وبأعمال سحر وشعوذة أبطلت عنه كل فعالية، وجعلته عنينا يحدق بعينيه ويكتفي، علما أن «الشوف ما كيبرد الجوف»، هل يمكنك أن تنتظر منه شيئا غير هذا يا هذا؟
لا أعتقد، والله أعلم قبلا، وبعدا، وفي منتصف كل الأشياء…
ملحوظة على الملحوظة
(لا علاقة لها دائما بما سبق)
المغامرة الجميلة التي تصر جمعية «العرض الحر» بقيادة الفنان محمود بلحسن على خوضها كل سنة في مكناس من خلال مهرجان الدراما التلفزيونية، مغامرة تستحق كثير الاهتمام، في مدينة كانت ذات يوم مهد كل الثقافة في البلد.
اليوم هناك هذا المهرجان ومهرجان التحريك «الفيكام»، الذي يقوده فنان متميز آخر هو محمد بيوض وبعض الفلتات هنا وهناك لا تقنع من عبر «المكناسة» يوما أن الأمر كاف.
قالها ذات يوم عبد الحق الزروالي وهو فوق خشبة مسرح «الريجان»، الذي تحول إلى عمارة حاليا «هذه المدينة أفينيون المغرب».
لم يتبق من تلك العبارة إلا صدى جد قديم لا يعني شيئا وبعض محاولات المقاومة هنا وهناك لئلا يموت كل شيء...
المختار لغزيوي