|
|
|
|
|
أضيف في 25 مارس 2019 الساعة 35 : 10
إميل بنفنست Emile Benveniste (19021976 )، من أهم علماء اللسانيات العامة واللسانيات المقارنة واللغات الهندية الأوروبية. ويمكن اعتباره كذلك من مؤسسي النظريات التلفظية والتداولية والتفاعلية في اللسانيات الحديثة. لكن تأثيره قد تعدى حدود البحث اللساني إلى كثير من العلوم الإنسانية وإلى الدراسات الأدبية ذات المنحى البنيوي. وقد كان صدور كتابه Problèmes de linguistique générale سنة 1966 حدثا مزدوج الأهمية: فقد جعل أبحاثه ونظرياته تخرج من دائرة المتخصصين المحصورة إلى المجال الواسع لجمهور القراء، خصوصا في تلك الفترة المنبهرة بإنجازات البنيوية الظاهرة وقاطرتها المتمثلة في لسانيات دي سوسير؛ وكان محتوى الكتاب، من جهته، شديد التنوع والثراء، والجرأة أيضا: كثيرة هي القضايا التي أنارها بنفنست بضوء جديد، وعديدة هي الأوهام، والأغلاط، والمشكلات الزائفة التي صححها أو بين بطلانها، وغزيرة هي الأفكار وسبل البحث الجديدة التي ابتدعها، لا سيما نظرية التلفظ والتفاعل الكلامي. من بين الدراسات التي اشتمل عليها الكتاب، دراسة هامة أثارت نقاشا عريضا وخلافا شديدا. فقد درست بوسائل جديدة، ومن وجهة نظر مبتكرة، الإشكالية القديمة المتجددة على الدوام، لعلاقة الفكر باللغة، أو العلاقة بين "مقولات الفكر ومقولات اللغة" وفقا للعنوان نفسه لتلك الدراسة. والحقيقة أن الدراسة تضمنت مبدأ عاما في التفكير اللساني والفلسفي لبنفنست، ومسلمة نظرية ومنهجية وجهت أبحاثه وتشييداته لنظرية التلفظ. وإحدى أوضح الصياغات، إضافة إلى الدراسة التي نقدم لترجمتها، لهذا المبدأ، نجدها في الفقرة التالية في مطلع الكتاب: "يتبين أن "المقولات الذهنية" و"قوانيين الفكر" ليست، في قدر كبير منها، سوى انعكاس لنظام المقولات اللسانية وتوزيعها. إننا نفكر عالما قد صاغته لغتنا مقدما. وتوجد ضروب التجربة الفلسفية أو الروحية تحت التبعية اللاواعية لتصنيف تجريه اللغة وذلك لسبب وحيد هو أنها لغة وأنها ترمز وتتواتر على طول الكتاب التوضيحات والتحديدات: "عالم اللسانيات من جهته يرى أنه لا يمكن وجود فكر دون لغة" والخلاصة أن "صورة" الفكر متشكلة بواسطة اللغة". فاللغة "هي قبل كل شيء تصنيف مقولي، وخلق للأشياء وللعلاقات بين هذه الأشياء "فكل لغة نوعية وتشكل العالم على طريقتها الخاصة" "واللغات لا تقدم لنا في الحقيقة سوى بناءات مختلفة للواقع ويستخلص بنفنست، في تأكيد متواتر، أن اللغة هي الأساس في وجود المجتمع البشري وفي وجود ذاتية الإنسان، فاللغة ذات قدرة خالقة وتأسيسية، وهي المفسر l’interprétant لكل الأنساق الرمزية الأخرى، ولكل أنظمة العلامات، إن اللغة تتضمنها وتفسرها، بينما اللغة لا يمكن أن يتضمنها أو يفسرها أي نظام سيميولوجي آخر. ومقال "مقولات الفكر ومقولات اللغة" بسط لهذه الأطروحة وبرهنة عليها. ومقولات أرسطو هي موضوع البرهنة ووسيلتها. فهذه المقولات هي أقصى ما يبلغه الذهن، حسب أرسطو، من تجريد حين يريد وصف شيء مفرد أو التعرف عليه. أو أن يجيب على السؤال البسيط ( ! ): ما هو الشيء؟ لو شئنا التذكير بعنوان شهير لهيدغر. إنها، كما سماها الفلاسفة والمناطقة العرب، "الأجناس العالية". لكن هل يقصد أرسطو الأشياء أو الأسماء؟ هل الفلسفة تفكر بواسطة اللغة أم "داخل" اللغة؟ هنا لب المسألة حيث ينتظرنا بنفنست ليكشف لنا الأساس الخفي لمقولات أرسطو التي كان يعتقد، لمدى قرون طويلة، أنها تتطابق مع الفكر البشري ذاته، وأن أرسطو لم يقترح نظرية معرفية ومنطقية مشروطة، بل اكتشف اشتغال آلة الفكر ذاتها. من المعلوم أن هذه المقولات ليست غريبة على الثقافة العربية، فقد تغلغلت ونفذت خارج المجال الفلسفي المحض إلى علم الكلام والجدل، وعلم الأصول، والبلاغة والنقد. وصارت مادة للتدريس وظلت تتردد في حلقات "العلم" بالعالم العربي قرونا بعد أفول مملكة أرسطو في الغرب. بل ما أكثر الطلبة الذين كانوا يرددون ألفاظ الجوهر والكمية والكيفية والموضوع والمحمول دون أن يكونوا قد سمعوا قط باسم ارسطو، بل كانوا سيتعوذون من "التمنطق" الذي يفضي إلى "التزندق". إن تاريخ مقولات أرسطو في الفكر والثقافة العربيين تاريخ طويل زاخر ومثير وسنقتصر في هذه المقدمة على عرض سريع للمقابلات التي ترجمت بها هذه المقولات إلى اللغة العربية. والمسألة، في اعتقادنا، لا تزال تنتظر بحثا لسانيا وترجميا مستقلا. مصطلح قاطيغورياس (كما عربه بعض المترجمين العرب القدامى ) مشتق من المصدر اليونانــــي katagôreusiV الذي يعني التصريح والإبانة والشرح والقول. ومن هذا المصدر اشتق فعل kat. agôreuw الذي يعني "صرح جهرا"، إذ أن المصدر والفعل مركبان من السابقة kata المتعددة الدلالات (وهي هنا بمعنى "وفقا لـ..، بحسب"، ولتقوية معنى الفعل )، ومن فعل agôreuw الذي يعني "قال، تكلم، أعلن، صرح جهرا، أذاع". ويمكن أن نستخلص أن معنى "كاطيغوروسيس" هو "المقول على موضوع ما". ومن هنا يبدو أن "المقولة" هي ترجمة حرفية للمصطلح اليوناني (لاحظ أن الاسم مؤنث في اللغة اليونانية ). فالمقولات هي المحمولات "المقولة" على موضوع. وليس معروفا من وضع هذه الترجمة في العربية لقاطيغورياس اليونانية، غير أننا نجد في عنوان ترجمة إسحق بن حنين (القرن الثالث الهجري ) ما يأتي: >> كتاب أرسطوطالس المسمى "قاطيغوريا" أي "المقولات"<< (منطق أرسطو، تحقيق د.عبد الرحمن بدوي، I، ص.33 ). ويقدم إسحق بن حنين المقابلات العربية التالية لأسماء المقولات اليونانية: "جوهر"= ôusia؛ "كم"= posôn؛ كيف= poiôn؛ "إضافة"= prôV ti؛ "أين"= pou؛ "متى"= pote؛ "موضوع"= keisqai؛ "أن يكون له"= ecein؛ "يفعل"= poiein؛ "ينفعل"= pascein. وأبو عثمان الدمشقي في ترجمته لكتاب الطوبيقا (منطق أرسطو، المصدر المذكور، II، ص.502 ) يترجم: "… إن عدتها [المقولات ] عشرة: ما هو الشيء؛ والكم؛ والكيف؛ والمضاف؛ وأين؛ ومتى؛ والنصبة؛ وله؛ ويفعل؛ وينفعل". وعند الفلاسفة شارحي أرسطو، وعند المتكلمين الذين ألفوا في المنطق نجد بعض الاختلاف في تسمية هذه المقولات، نستعرض بعضها هنا على سيل التمثيل لا الحصر: في كتاب قاطاغورياس (المنشور ضمن المنطق عند الفارابي، تحقيق د.رفيق العجم، بيروت، دار المشرق، 1985، I، ص.90 )، يسمي الفارابي المقولات "الأجناس العالية"، وهي: "الجوهر والكمية والكيفية والإضافية ومتى وأين والوضع وله وأن يفعل وأن ينفعل". لكن الفارابي يستعمل مصطلح "الكم" (ص.93 وما بعدها ) ولا يستعمل "الكمية"؛ ويستعمل مصطلح "الكيفية" بعد ذلك وما بعدها ) ويقابله بمصطلح "الكمية". ثم يستعمل مصطلح "الإضافى" أو "الإضافة والمضاف". وابن سينا (كتاب الشفا، قسم المنطق، تحقيق الأب جورج قنواتي، محمد الخضيري، أحمد فؤاد الأهواني، سعيد زايد، القاهرة، 1959، يقترح: جوهر، كمية، كيفية، إضافة، أين، متى، الوضع، الجدة والملك، يفعل، ينفعل. أما ابن رشد (تلخيص كتاب المقولات، تحقيق موريس بويج، بيروت، دار المشرق، الطبعة الثانية، 1983 فيستعمل: الجوهر، الكم، المضاف، الكيف، أن يفعل، أن ينفعل، الوضع، متى، أين، له. ويستعمل أحيانا "الكيفية" و"يفعل"، و"ينفعل". والخوارزمي في مفاتيح العلوم، يقول: "ومعنى قاطيغورياس باليونانية يقع على المقولات، والمقولات عشر وتسمى القاطاغوريات" وأسماؤها عنده هي: الجوهر، الكم، الكيف، الإضافة، متى، أين، الوضع ("ويسمى النصبة" )، له (أو ّذوّ أو "الجدة" )، ينفعل، يفعل. ويذكر الخوارزمي بأن "عبد الله بن المقفع" كان قد اقترح ترجمات مغايرة، مثل استعماله "العين" بدل "الجوهر"، وهي "أسماء إطرحها أهل الصناعة". وكما قلنا آنفا، لا يزال هذا الموضوع محتاجا في حدود علمنا إلى دراسة لسانية وترجمية. غير أنه منذ الآن يمكن استخلاص ملاحظتين: باستثناء مقولة "الجوهر" التي نعلم أهميتها وانتشارها في الفلسفة وعلم الكلام العربيين، وامتداداتها الدينية؛ وفيما خلا مقولات "الكم" و"الكيف" و"متى" وأين" البينة بنفسها، فإن المقولات الأخرى قد تعددت صيغ ترجمتها وتأرجحت بين الإسمية والفعلية. ربما كان هذا دليلا على خصوصيتها وارتباطها بنسق اللغة اليونانية، كما سيبرهن على ذلك بنفنست. والملاحظة الثانية، المتضمنة في الأولى، هي أن الفلاسفة والشراح والمتكلمين قد وجدوا مجالا للقول في بعض المقولات مثل "الجوهر" و"الكم" و"الكيف"، لكنهم اختصروا اختصارا شديدا في الكلام عن مقولات أخرى مثل "الوضع" و"يفعل" وينفعل" الخ. ولم يختلفوا في هذا عن شارحي أرسطو في الغرب، حيث نلاحظ انعدام التوازن نفسه في أهمية المقولات وموقعها في النظرية المنطقية والفلسفية. وتفسير هذه الظاهرة ايضا قد نجده في دراسة بنفنست هذه التي نقترح نص ترجمتها العربية.
مقولات الفكر ومقولات اللغة
إميل بنفنست
نستعمل اللغة التي نتكلم بها استعمالات لا حصر لتنوعها، سيكون تعدادها متمادا مع لائحة النشاطات التي يمكن أن يباشرها الفكر البشري. غير أن لهذه الاستعمالات في تنوعها خصيصتين مشتركتين. إحداهما هي أن حقيقة اللغة تظل في تلك الاستعمالات لا واعية في الأغلب، وفيما خلا الدراسات اللسانية بحصر المعنى، لا يوجد لدينا سوى وعي ضئيل ومتقطع بالعمليات التي ننجزها ونحن نتكلم. وثانيتهما هي أنه مهما بلغت عمليات الفكر من التجريد والاختصاص، فإنها تلقى تعبيرا لها في اللغة. بمقدورنا أن نقول كل شيء، وبمقدورنا أن نقوله كما نشاء. ومن هنا ينشأ اعتقاد واسع الانتشار ولا واع هو كذلك، كما هو الشأن في كل ما يتصل باللغة، أن التفكير والكلام نشاطان جوهريا متمايزان، يتزاوجان لضرورة الاتصال العملية، غير أن لكل منهما مجاله وإمكاناته المستقلة، وتقوم إمكانات اللغة في الوسائل المتاحة للذهن لأجل ما يسمى التعبير عن الفكر. هذه هي المسألة التي سننظر فيها هنا بإيجاز لا سيما لتنوير بعض الالتباسات التي يكون المسؤول عنها هو طبيعة اللغة ذاتها. من الأكيد أن اللغة بوصفها كلاما منطوقا مستعملة لنقل "ما نريد قوله". غير أن ما نسميه هنا "ما نريد قوله" أو "ما في ذهننا" أو فكرنا" أو مهما يكن الاسم الذي نطلقه عليه، هو محتوى للفكر، مستعص جدا على التحديد في ذاته، إلا أن يكون ذلك بمميزات المقصدية أو باعتباره بنية نفسية، إلخ. وهذا المحتوى يتلقى شكله حين يتلفظ به وفقط حين يتلفظ به. إنه يتلقى شكله من اللغة وفي اللغة، التي هي قالب كل تعبير ممكن؛ لا يمكنه أن ينفك عنها ولا أن يتعالى عليها. والحال أن هذه اللغة هي ذات شكل عام في مجموعها ومن حيث هي كلية. وهي فضلا عن ذلك منظمة بوصفها ترتيبا لـ"علامات" متمايزة ومميزة، قابلة في ذاتها لأن تنفك إلى وحدات أدنى أو أن تتجمع في وحدات مركبة. هذه البنية الكبرى، المتضمنة لوحدات أصغر على مستويات عديدة تعطي لمحتوى الفكر شكله. ويلزم هذا المحتوى، كي يصير قابلا للتوصيل، أن يتوزع بين مورفيمات من أصناف معينة، مرتبة في نظام معين، إلخ. وباختصار، لا بد لهذا المحتوى أن يمر عبر اللغة ويستعير منها الأطر. وإلا فالفكر، إن لم يصر لا شيء تماما، فإنه يصير على اي حال من الإبهام واللاتمايز إلى حد لا يكون بمقدورنا إدراكه بوصفه "محتوى" متمايزا عن الشكل الذي تمنحه اللغة إياه. فليس الشكل اللساني إذن شرط إمكان التبليغ فحسب، بل هو كذلك شرط تحقق الفكر. إننا لا ندرك الفكر إلامتلائما مقدما مع أطر اللغة. خارج هذا ليس ثمة سوى فعل إرادي مبهم، واندفاعة تتفرغ في حركات وإيماءات. هذا يعني القول إن مسألة معرفة إن كان بإمكان الفكر أن يستغني عن اللغة أو يتفاداها باعتبارها عقبة، ستبدو، إذا ما حللنا بصرامة المعطيات الحاضرة أدنى تحليل، غير ذات معنى. غير أن هذه ليست سوى علاقة بحكم الواقع. فاعتبار أن هذين الطرفين، الفكر واللغة، مترابطان وضروريان لكلا الطرفين لا يرشدنا إلى كيف يكونان مترابطين، ولماذا يعتبران ضروريين لبعضهما البعض. وبين فكر لا يمكن أن يتجسد إلا في اللغة ولغة لا وظيفة لها سوى "أن تدل"، سيكون من المرغوب فيه إثبات علاقة نوعية، لأنه من الواضح أن الطرفين المتواجهين ليسا متناظرين. والحديث عن الشكل والمحتوى ما هو إلا تبسيط. لا ينبغي لهذه الاستعارة أن تخدعنا. وإذا ما توخينا الدقة في التعبير، فالفكر ليس مادة تهبها اللغة صورة، لأنه لا يمكن لحظة واحدة تصور هذا "الشكل" فارغا من "محتواه"، ولا "المحتوى: مستقلا عن "شكله". وتصير المسألة كالآتي: مع التسليم بأن الفكر لا يمكن إدراكه إلا متشكلا ومتحينا في اللغة، هل لدينا الوسيلة للاعتراف للفكر بمميزات خاصة به لا تدين بشيء للتعبير اللساني؟ بمقدورنا وصف اللغة لذاتها. فيلزم بالطريقة نفسها بلوغ الفكر مباشرة. فإذا كان من الممكن تحديده بسمات ينفرد بها،فسيتضح نتيجة لذلك كيف يتوافق مع اللغة وما طبيعة علاقاتهما. يبدو من المفيد تناول القضية عن طريق "المقولات" التي تظهر بصفة وسائط. فهي لا تظهر بالمظهر نفسه إذا ما كانت مقولات للفكر أو مقولات للغة. وهذا التنافر ذاته يمكن أن يجلو لنا طبيعة كل منهما. مثلا، نحن ندرك فورا أن الفكر بمقدوره تخصيص مقولاته في حرية، وتأسيس مقولات جديدة، في حين أن المقولات اللغوية، وهي خصائص نسق يتلقاه كل متكلم ويؤمن دوامه،ليست قابلة للتغيير وفقا لمشيئة أي كان؛ ونلحظ ذلك الاختلاف الآخر المتمثل في أن بإمكان الفكر أن يطمح إلى وضع مقولات كلية، لكن المقولات اللغوية هي دائما مقولات لغة خاصة. وللوهلة الأولى يبدو أن هذا يؤكد الموقع المتميز والمستقل للفكر تجاه اللغة. لكننا لن نستمر، بعد كثير من المؤلفين، في وضع المسألة بهذه العمومية. فلا بد لنا من الولوج إلى ملموسية وضعية تاريخية، وفحص مقولات فكر ولغة بعينهما. بهذا الشرط وحده فقط سنتلافى اتخاذ المواقف الاعتباطية والحلول التجريدية. والواقع أن لنا الحظ في التوافر على معطيات تبدو كما لو كانت توجد جاهزة لفحصنا، مهيأة ومعروضة بطريقة موضوعية، ومدرجة في مجموع معروف: إنها مقولات أرسطوطاليس. سنسمح لأنفسنا بالنظر إلى هذه المقولات دون انشغال بالتقنية الفلسفية، واعتبارها مجرد مجمل للخاصيات التي كان يرى مفكر يوناني أنها قابلة للحمل على موضوع، وبالتالي كونها لائحة المفاهيم الماقبلية التي يرى أنها تنظم التجربة. إنها وثيقة ذات قيمة عظيمة لغرضنا. لنذكر أولا بالنص الأساسي الذي يعرض اللائحة الأكمل لهذه الخاصيات العشر في مجموعها (قاطيغورياس، الفصل الرابع ) كل العبارات التي لا تدخل في تركيب تعني: الجوهر؛ أو كم؛ أو كيف؛ أو إضافة إلى؛ أو أين؛ أو متى؛ أو أن يكون على هيئة؛ أو أن يكون في حال، أو أن يفعل، أو أن ينفعل. "جوهر"، مثلا، على العموم، "إنسان؛ فرس"؛ "كم"، مثلا "ذراعان؛ ثلاثة أذرع"؛ "كيف"، مثلا "أبيض؛ متعلم"؛ "إضافة إلى"، مثلا "ضعف؛ نصف؛ أكبر" "أين"، مثلا "في لوقيون؛ في السوق"؛ "متى"، مثلا "البارحة؛ العام الماضي"؛ "أن يكون على هيئة"، مثلا "متكئ، جالس"؛ "أن يكون في حال"، مثلا "منتعل؛ متسلح"؛ "أن يفعل"، مثلا "يقطع؛ يحرق"؛ "أن ينفعل"، مثلا "ينقطع؛ يحترق"<<. وهكذا يضع أرسطو مجموع المحمولات التي يمكن إثباتها للوجود، ويرمي إلى تحديد الوضعية المنطقية لكل واحد منها. والحال أنه يبدو لنا وسنحاول البرهنة على ذلك أن هذه التمييزات هي قبل كل شيء مقولات اللغة، وأن أرسطو في الواقع، فيما هو يفكر بطريقة مطلقة، قد عثر من جديد ببساطة على بعض المقولات الأساسية للغة التي كان يفكر ضمنها. وأدنى انتباه لمنطوق المقولات والأمثلة الموضحة لها، يجعل ممكنا التحقق، دون شروح طويلة، من صحة هذا التأويل، الذي يبدو أن لا أحد قد اقترحه من قبل. سنستعرض المصطلحات العشرة على التوالي: ليس مهما ترجمة ousia بـ"جوهر" أو "ماهية". إنه هو المقولة التي تجيب على السؤال "ماذا؟" بالجواب: "إنسان" أو "فرس"، أي عينتين من الصنف اللساني للأسماء التي تشير إلى أشياء سواء كانت مفاهيم أو أشخاصا. سنعود فيما سيأتي إلى مصطلح ousia لتعيين هذا المحمول. المصطلحان التاليان poson و poion يشكلان زوجا. إنهما يحيلان على "الوجود ذي الكم"، ومن ثم الاسم المجرد posothV "الكمية"، وعلى "الوجود ذي الكيف"، ومن ثم الاسم المجرد poiothV "الكيفية". والمصطلح الأول لا يعني فحسب "العدد"، الذي ليس سوى أحد أنواع poson، وإنما يعني عموما كل ما هو قابل للمقدار؛ وهكذا تميز النظرية "الكم" المنفصل مثل العدد واللغة، و"الكم" المتصل مثل الخط المستقيم أو الزمان أو المكان. وتشمل مقولة poion "الكيف" من دون استثناء أي نوع. أما الثلاث التالية، pote, pou, proV ti، فهي تحيل دون التباس على "الإضافة" و"المكان" و"الزمان". لنركز اهتمامنا على هذه المقولات الست في طبيعتها وتجميعها. يبدو لنا أن هذه المحمولات لا تتطابق البتة مع صفات مكتشفة في الأشياء، بل مع تصنيف صادر عن اللغة ذاتها. إن مفهوم ousia يشير إلى صنف الأسماء. و posonو poion المذكورتين معا تقابلان ليس فحسب صنف النعوت عموما وإنما على الخصوص نمطين من النعوت تربط بينهما اللغة اليونانية ربطا وثيقا. ومنذ النصوص الأولى، وقبل يقظة التأمل الفلسفي، كانت اللغة اليونانية تقرن أو تعارض النعتين posoi و poioi بالشكلين المترابطين osoV و oioV [نعتان بمعنى أي للتعجب وكم التكثيرية على التوالي] وكذا posoV و toioV [نعتان بمعنى: بهذا القدر وبهذه الكيفية على التوالي] (2 ). لقد كانا تشكيلين متجذرين جدا في اليونانية، مشتقين كليهما من سيقان ساق = جذر + صائت ضمائرية وكان الثاني منهما منتجا: فزيادة على toioV,poioV, oioV، يوجد alloioV [مختلف، من طبيعة أخرى، غير omoioV شبيه، مشترك إذن فهذان المحمولان الضروريان يجدان أساسهما في نظام مباني اللغة. وإذا انتقلنا إلى proV ti ، فإن وراء "الإضافة" توجد أيضا خصيصة أساسية للنعوت اليونانية، وهي منح اسم تفضيل (مثل meixos [اسم تفضيل بمعنى: أكبر، أعظم؛ مشتق من النعتmegaV = كبير، عظيم وهو فضلا عن هذا مثال في نص أرسطو ) الذي هو الشكل "الإضافي" بامتياز. والمثالان الآخران في نص أرسطو diplasion الضعف وhmisu النصف يميزان "الإضافة" بطريقة مختلفة: إن مفهوم "الضعف" أو "النصف" هو الإضافة بحكم تعريفه ذاته، في حين أن صيغة meixon هي التي تشير إلى "الإضافة". أما pou "أين"، و pote "متى"، فهما يتضمنان على التوالي صنفي التسميات المكانية والزمانية. وهنا أيضا فالمفهومان مصوغان وفق قالب خصائص هاته التسميات في اليونانية: إنهما ليست متعالقين فحس بواسطة تناظر صياغتهما المنقولة في ou ote هذاحينما toutote في ذلك الحين لكنهما ينتسبان إلى صنف يضم ظروفا أخرى (من نمطecqeV الأمس perusin العام الماضي أو عبارات إرابية تستعمل صيغة تدل على المكان (كما هو الحال في enlukeiw في لوكيون = موقع مدرسة أرسطو بضاحية أثينا enagora في السوق أو الساحة العامة . فليس إطن من دون سبب تجد هذه المقولات نفسها مذكورة ومجتمعة على هذا النحو. إن المقولات الست الأولى تحيل بأجمعها على صيغ اسمية. وهي لا تجد وحدتها إلا في خاصية علم الصرف اليوناني. وبالاعتبار نفسه، فالمقولات الأربع التالية تشكل أيضا مجموعة: إنها بأجمعها مقولات فعلية. ويزيد من أهميتها عندنا أن طبيعة اثنتين منها لا يبدو أن التعرف عليها قد تم بطريقة صحيحة. إن المقولتين الأخيرتين واضحتان على الفور: poiein "يفعل"، مع المثالين kaiei, temnei، "يقطع"، "يحرق"؛ و pascein "ينفعل"، مع المثالين kaeitai, temnetai، "ينقطع"، يحترق"، تظهران المقولتين النحويتين المتعلقتين بتصريف الأفعال المسماتين actif المبني للفاعلو passif المبني للمفعول وفي هذه المرة، فالأمثلة ذاتها مختارة للتأكيد على التعارض اللساني: إنه ذلك التعارض الصرفي بين "الصيغتين" الاثنتين القائم في عدد كبير من الأفعال اليونانية الذي يتبدى في المفهومين المتقاطعين poiein و pascein. لكن ما شأن المقولتين الأوليين keisqai و ecein؟ فحتى ترجمتهما ذاتها تبدو غير ثابتة: فالبعض يعتبر أن ecein تعني "الملك. وأية أهمية يمكن أن تكون لمقولة مثل "الهيئة" keisqai هل هي محمول في مثل عمومية "المبني للفاعل" و"المبني للمفعول". هل هي على الأقل من الطبيعة ذاتها؟ وماذا نقول عن ecein مع أمثلة كـ"متنعل"، "متسلح"؟ يبدو أن شارحي أرسطو قد اعتبروا هاتين المقولتين ثانويتين؛ والفيلسوف لم يذكرهما إلا لاستيفاء جميع المحمولات المنطبقة على إنسان. يقول غومبرتس Gompertz: "يتخيل أرسطو إنسانا منتصبا أمامه، في اللوقيون مثلا، فيستعرض بالتتابع الأسئلة والأجوبة الممكن قولها بشأنه. إن جميع المحمولات التي يمكن أن تسند إلى هذا الموضوع تندرج تحت هذه أو تلك من المقولات العشر، من السؤال الأول: ما الشيء المدرك هنا؟ حتى أسئلة ثانوية مرتبطة بالمظهر الخارجي الخالص مثل ما الحذاء الذي ينتعله أو السلاح الذي يحمله؟… فقد صيغ التعداد لاستيعاب العدد الأقصى من المحمولات المتعينة لشيء أو كائن (3 )…" هذا هو، كما نرى، الرأي العام عند المتخصصين. وإذا ما صدقناهم، فإن الفيلسوف كان لا يميز جيدا بين المهم والثانوي، بل إنه يمنح هذين المفهومين، المحكوم عليهما بكونهما ثانويين، الأفضلية على تمييز مثل التمييز بين المبني للفاعل والمبني للمفعول. هنا أيضا يبدو لنا أن المفهومين ذوا أساس لساني. لنتناول أولا keisqai. ماذا يمكن أن يقابل لسانيا مقولة keisqai المنطقية؟ الجواب موجود في المثالين المذكورين:anakeitai "متكئ"؛kaqetai "جالس". إنهما عينتان من الأفعال الوسطى (**** ). وهذا مفهوم أساسي من وجهة نظر اللغة. وعلى العكس مما قد يبدو لنا، فالفعل الأوسط أهم من الفعل المبني للمفعول المشتق منه. إن التمييز الأساسي في نظام الأفعال في اللغة اليونانية القديمة، وكما استمر في الحقبة الكلاسيكية، هو التمييز بين الفعل المبني للفاعل والفعل الأوسط (4 ). فكان بإمكان مفكر يوناني أن يضع عن حق في المطلق محمولا يعبر عنه بصنف خاص من الأفعال، تلك التي لا تكون إلا وسطى (media tantum ) وسطى فقط وتشير من بين أشياء أخرى إلى "الوضع" و"الهيئة". فكان الفعل الأوسط، بمباينته على السواء للفعل المبني للفاعل والفعل المبني للمفعول، يدل على كيفية في الوجود متميزة تميز الفعلين الآخرين. وليس الأمر على خلاف ذلك بالنسبة للمحمول المسمى ecein. فلا ينبغي فهمه بالمعنى الاعتيادي لـecein "أن يملك"، أي "ملكية" حيازة مادية. إن ما هو خاص ومحير للوهلة الأولى في هذه المقولة يتوضح من خلال المثالين:upodedetai "متنعل"، وwplistai "متسلح"، وأرسطو يؤكد على هذا حين يعود للمسألة (في الفصل التاسع من المقولات )؛ فهو يكرر بصدد ecein المثالين نفسهما، وهذه المرة بصيغة المصدر to upodedesqai، وtowplidqai. إن مفتاح التأويل هو في طبيعة مبنى الفعلين: upodedetai وwplistai هما فعلان يدلان على الماضي التام. بل إنهما، بحصر المعنى، تامان أوسطان. لكن خصيصة الفعل الأوسط قد احتازتها، كما رأينا، مقولة keisqai، التي ينبغي أن نلاحظ أن فعليها الشاهدين anakeitai "متكئ" وkaqetai "جالس"، ليس لهما ماض تام. فمقولة الماضي التام هي الموضحة في المحمول ecein وفي بناء الفعلين الشاهدين. إن معنى ecein، الذي هو في الآن ذاته "أن يملك"، وفي الاستعمال المطلق "الوجود في حال معينة"، ينسجم غاية الانسجام مع صيغة الماضي التام. ودون الدخول في شرح يمكن تطويله بسهولة، لنلاحظ فقط أنه لإبراز القيمة اللسانية للماضي التام في ترجمة الصيغتين المذكورتين يجب أن ندرج فيهما مفهوم "الامتلاك" upodedetai "له نعلان في قدميه"؛ wplisqai "له سلاح على جسده". لنلاحظ أيضا أن هاتين المقولتين، كما نفهمهما، تتابعان في التعداد ويبدو أنهما تشكلان زوجا، تماما مثل poiein وpasceinالتاليتين. ويوجد حقا بين الفعل الماضي التام والأوسط اليونانيين روابط عديدة صيغية ووظيفية، موروثة عن الهندية الأوروبية، قد شكلت نظاما معقدا؛ مثلا صيغةgegona صيغة الماضي التام من الفعل الأوسط gignesqai بمعنى "صار، حدث" وهو الماضي التام المبني للفاعل تتزاوج مع المضارع الأوسط gignsmai = أصير]. وهذه الروابط قد خلقت العديد من المصاعب للنحاة اليونانيين من المدرسة الرواقية: فتارة قد عرفوا الماضي التام بوصفه زمنا مستقلاparakeimenoV = متعلق بـ أو teleioV = تام وتارة صنفوه مع الأوسط ضمن الصنف المسمى mesoteV = أوسط، المتوسط بين المبني للفاعل والمبني للمفعول. ومن الأكيد على أي حال أن الماضي التام لا يندرج في نظام أزمنة الأفعال في اللغة اليونانية ويبقى منعزلا، دالا، بحسب الحال، على صيغة للزمان أو كيفية لوجود الفاعل. وبهذا الاعتبار، يمكن، نظرا لعدد المفاهيم التي لا يعبر عنها في اليونانية إلا بصيغة الماضي التام، تصور أن أرسطو قد جعل منها كيفية نوعية للوجود، حالا (أو مظهرا ) للذات. يمكننا الآن أن ندون بمصطلحات اللغة لائحة المقولات العشر. ونورد بعد كل واحدة المفهوم الذي تعينه ثم المعادل اللساني: ousia ("الجوهر" )، اسم؛ poson poion, ("كيف"، "كم" )، نعوت مشتقة من ضمائر، على نمط اللغة اللاتينيةqualis = كيف]، quantus = كم ؛proV ti ("الإضافة" )، اسم تفضيل؛ pou ("أين" ) pote ("متى" )، ظرفا مكان وزمان؛ keisqai ("أن يكون على هيئة" )، فعل أوسط؛ ecein ("أن يكون في حال" )، ماض تام؛ poiein ("أن يفعل" )، مبني للفاعل؛ pascein ("أن ينفعل" )، مبني للمفعول. كان أرسطو، وهو يشيد هذه اللائحة من "المقولات"، يتغيا إحصاء جميع المحمولات الممكنة للقضية [المنطقية]، بشرط أن يكون كل مصطلح دالا في حال الانفراد، غير مدرج في sumplokh، أي في تركيب كما قد نقول. وبطريقة لا واعية فقد جعل من الضرورة العملية لإيجاد تعبير منفصل لكل واحد من المحمولات معيارا له. فكان إذن محكوما عليه أن يعثر ثانية، دون أن يريد ذلك، على التمييزات التي تقيمها اللغة نفسها بين الأصناف الأساسية من الأبنية، إذ أنه لا دلالة لسانية لهذه الأبنية وهذه الأصناف إلا باختلافاتها. كان يعتقد أنه يحدد صفات الأشياء؛ إنه لم يقرر سوى موجودات لسانية: فاللغة، بفضل مقولاتها الخاصة بها، هي التي أتاحت التعرف عليها وتخصيصها. وهكذا صار لدينا جواب على السؤال الموضوع في البداية والذي ساقنا إلى هذا التحليل. كنا قد تساءلنا عن ماهية الروابط بين مقولات الفكر ومقولات اللغة. وبالقدر الذي اعترف فيه بصلاحية مقولات أرسطو للفكر، فقد تكشفت هذه المقولات عن كونها نقلا لمقولات اللغة. إن ما يمكن قوله هو الذي يحدد وينظم ما يمكن التفكير فيه. واللغة هي التي تقدم التشكيلات الأساسية للخصائص التي يعترف بها الفكر للأشياء. فهذه اللائحة من المحمولات تخبرنا إذن قبل كل شيء عن بنية تصنيفات لغة خاصة. وينتج عن هذا أن ما عرضه علينا أرسطو بوصفه لائحة شروط عامة ودائمة ما هو إلا إسقاط مفهومي لوضع لساني معين. بل من الممكن توسيع هذه الملاحظة. فما بعد المصطلحات الأرسطية، وفوق هذا التصنيف للمقولات، ينبسط مفهوم الـ"être" "أن يكون"، "أن يوجد" الذي يشمل كل شيء. ودون أن يكون هو نفسه محمولا فإن "être" هو شرط لجميع المحمولات. فكل أصناف "الكيف" و"الحال"، وكل منظورات "الزمان" الممكنة، إلخ. متعلقة بمفهوم الـ"être". والواقع هنا أيضا أن ما يعكسه هذا المفهوم هو خصيصة لسانية نوعية جدا. فاللغة اليونانية لا تمتلك فحسب فعل "être" (وليس هذا ضروريا في كل لغة )، بل إنها جعلت لهذا الفعل استعمالات خاصة جدا. فقد أوكلت إليه وظيفة منطقية، وظيفة الرابطة الإسنادية (وكان أرسطو نفسه قد لاحظ أن الفعل في هذه الوظيفة لا يعني شيئا بالضبط، بل يقوم فقط بـ synthesis = تأليف وتركيبومن ثم، فإن هذا الفعل قد تلقى مدلولات أوسع من أي فعل آخر. وبالإضافة إلى ذلك، يمكن لفعل "être" أن يصير، بفضل أداة التعريف، مفهوما اسميا، يعامل كموضوع، ويكون مجالا لتنويعات، مثلا اسم الفاعل المستعمل هو نفسه اسما بأنواع عديدة (ta onta, oi onteV, to on = اسم الفاعل من فعل einai، أي فعل "الوجود"، في حالات صرفية وإعرابية مختلفة ويمكن أن يستعمل محمولا لذاته كما في عبارة to ti hn einai، التي تشير إلى الجوهر المفهومي لشيء، دون الحديث عن التنوع المدهش للمحمولات الخاصة التي يمكن تركيبه معها، بواسطة الحالات الإعرابية وحروف الجر والإضافة.. ويطول بنا الأمر لو أردنا حصر هذه الوفرة من الاستعمالات، لكن المسألة مرتبطة حقا بمعطيات اللغة، والتركيب، والاشتقاق. لنؤكد على هذا، لأن وضعا لسانيا بهذه الصفة هو الذي جعل ممكنا أن تولد فيه وتمتد كل ميتافيزيقا "الوجود" اليونانية، والصور الرائعة في قصيدة بارمينيدس، كما في جدلية السوفسطائي (* ). إن اللغة طبعا لم توجه التعريف الميتافيزيقي لـ"الوجود"، إذ لكل مفكر يوناني تعريفه الخاص، لكنها أتاحت أن تجعل من "الوجود" مفهوما قابلا لأن يصير موضوعا يمكن للنظر اللسفي أن يعالجه ويحلله، ويحدد له موقعا كأي مفهوم آخر. ويزداد الإدراك بأن الأمر هنا هو في المقام الأول واقعة لسانية، عن طريق ملاحظة سلوك هذا المفهوم ذاته في لغة مغايرة. ومن المفيد اختيار لغة من نمط مغاير تماما لمقابلتها باللغة اليونانية، لأن أغلب اختلاف الأنماط اللسانية هو في التنظيم الداخلي لهذه المقولات. لنوضح فقط أن ما نقارنه هنا هو وقائع التعبير اللساني، لا عرض للمفاهيم. في لغة إيوي ewe (المنطوق بها في الطوغو غرب إفريقيا التي نختارها لهذه المواجهة، يتوزع مفهوم "الكينونة"، أو ما قد نسميه بهذا الاسم، بين عدة أفعال هناك أولا فعل نيي nyé الذي قد نقول إنه يميز هوية المسند والمسند إليه؛ يعني "أن يكون من، أن يكون ماذا". والواقعة الغريبة هي أن nyé يتصرف مثل فعل متعد وأنه ينصب مفعولا به هو بالنسبة لنا مسند هوية. وفعل ثاني هو لي le الذي يعبر بالضبط عن "الوجود؛ مثلا "ماوو لي": "الله موجود". غير أن له أيضا وظيفة إسنادية، فيستعمل "لي" مع مسندات الحال، وظروف المكان. "الكينونة" في مكان، أو في حال، أو في زمن، أو بهيئة؛ "إيلي نيي" ele nyuie: "هو حسن"؛ "إيلي أفي" ele a fe "هو هنا"؛ "إيلي حو مي": "هو في الدار"، في كل هذه الاستعمالات، لا يكون إلا في زمن واحد هو الماضي غير المحدد aoriste، الذي يقوم بوظائف زمن سردي ماض وكذلك وظائف ماض تام. وإذا لزم تحويل الجملة المتضمنة فعل "لي" إلى زمن آخر، مثل المستقبل أو الاعتيادي، فيحدث تعويض فعل "لي" بالفعل المتعدي "نو" no الذي يعني "ظل، بقي"، أي أنه وفقا للزمن المستعمل، لا بد من فعلين متمايزين، "لي" اللازم أو "نو" المتعدي، للتعبير عن المعنى ذاته. والفعل "وو" wo الذي يعني "جعل، أنجز، أحدث أثرا"، إذا ارتبط ببعض أسماء المادة، يتصرف على منوال فعل "الكينونة" المتبوع بنعت مادي: فعل "وو" مع "كي" "رمل" يعطي "وو كي" wo ke "أن يكون رمليا"؛ ومع "تسي" "الماء": "وو تسي" wo tsi "أن يكون رطبا"؛ ومع "كبي" "حجر": "وو كبي" wo kpe أن يكون حجرا". إن ما نعرضه بوصفه "كينونة" للطبيعة هو في لغة الإيوي فعل "جعل" كما في جملة "جعلت الريح". وإذا كان المسند إليه اسم وظيفة، أو تشريف، فإن الفعل هو "ذو" du، وهكذا فإن "ذو فيا" du fia تعني "أن يكون ملكا". وأخيرا، فإنه مع بعض المسندات إليها للوصف الجسدي، والحال، يكون التعبير عن فعل "الكينونة" بواسطة "ذي" di: مثلا "ذي كو" di ku، "أن يكون هزيلا"، ذي فو" di fo "أن يكون مدينا". لدينا إذن عمليا خمسة أفعال متمايزة من أجل مطابقة تقريبية مع وظائف فعل "الكينونة" في اللغة الفرنسية]. إن الأمر لا يتعلق بتجزيء مجال دلالي واحد إلى خمسة أجزاء، وإنما بتوزيع يؤدي إلى تنظيم مختلف، وحتى في المفاهيم المجاورة. مثلا إن مفهومي "فعل الكينونة" être و"فعل الملك" avoir هما بالنسبة لنا في اللغة الفرنسية] متمايزان تمايز اللفظتين المعبرتين عنهما. لكن في لغة الإيوي، فأحد الأفعال المذكورة، "لي"،فعل الوجود، إذا ارتبط بلفظ "أسي" asi، فإنه يبني عبارة "لي أسي" le asi، التي تعني حرفيا "أن يكون في اليد"، وهو المعادل الأكثر استعمالا لفعل "الملك" في الفرنسية "غا اي أسينيي" ga le asi nye (حرفيا "المال يكون في يدي" ) "أملك مالا". هذا الوصف للأوضاع في لغة الإيوي ينطوي على قسط من الاصطناع. فهو معمول من وجهة نظر لغتنا [أي الفرنسية لا، كما كان ينبغي، من داخل أطر اللغة المقصودة. فلا شيء في علم الصرف أو التركيب بلغة الإيوي، يربط بين هذه الأفعال الخمسة، إننا لا نكتشف شيئا مشتركا بينها إلا بواسطة استعمالاتنا اللغوية الذاتية. لكن هنا تكمن فائدة هذه المقارنة "المركزية الذاتية"؛ إنها تنير بصيرتنا حول ذاتنا، وتوضح لنا أن هذا التنوع لاستعمالات فعل "الكينونة" في اليونانية هو واقعة خاصة باللغات الهندية الأوروبية، وليس وضعا كونيا وشرطا ضروريا. أكيد أن المفكرين اليونان قد أثروا بدورهم على اللغة، وأغنوا الدلالات، وخلقوا أشكالا جديدة. فحقا إنه عن نظر فلسفي حول "الوجود" قد صدر الاسم المجرد المشتق من [فعل] einai؛ إننا نراه يتخلق عبر التاريخ: أولا بصيغةesnai في الفلسفة الفيثاغورية الدورية وعند أفلاطون، ثم بصيغة ousia التي فرضت نفسها. إن كل ما نريد توضيحه هنا هو أن البنية اللسانية للغة اليونانية كانت تهيئ سلفا مفهوم "الكينونة" لمصير فلسفي. وبالمقابل، فإن لغة الإيوي لا تقدم لنا سوى مفهوم ضيق، واستعمالات مخصوصة. لن يكون بمقدورنا أن نقول اي موقع سيحتله [مفهوم] "الوجود" في ميتافيزيقا الإيوي، لكن أوليا سيتمفصل المفهوم بطريقة مغايرة تماما. إن من طبيعة اللغة أن تستثير وهمين متعاكسي الاتجاه. فكون اللغة قابلة للاستيعاب، وتتشكل من عدد محدود دائما من العناصر، يجعلها تعطي الانطباع بأنها ليست سوى إحدى الوسائط الممكنة لتوصيل الفكر، وأن هذا الأخير مستقل، مكتف بذاته، فردي يستعمل اللغة آلة له. والحقيقة أننا لو حاولنا بلوغ أطر الفكر الخاصة به، فلن نمسك سوى بمقولات اللغة. والوهم الآخر هو على العكس من ذلك. فواقع أن اللغة مجموع منظم، وأنها تكشف عن خطة، يدفعان إلى البحث في نظام اللغة الشكلي على صورة "منطق" يكون ملازما للفكر، وبالتالي خارجا عن اللغة وسابقا عليها. والحقيقة أننا لا نحصل من هذا إلا على سذاجات أو تحصيل حاصل. لا شك أنه ليس مصادفة أن الإبستمولوجيا المعاصرة لا تحاول وضع لائحة من المقولات. فالأخصب هو تصور الفكر من حيث هو إمكان فعل أكثر من كونه إطارا، ودينامية أكثر من كونه بنية. ومن المحقق أن الفكر بخضوعه لمتطلبات المناهج العلمية، يتبنى في كل مكان طرائق التفكير نفسها في أي لغة اختارها لوصف تجربته. وبهذا المعنى فإنه يصير مستقلا، لا عن اللغة، بل عن البنيات اللسانية الخاصة. قد يكون الفكر الصيني ابتدع مقولات بمثل خصوصية الطاو، والين واليانغ [مفاهيم في الفكر الصيني القديم تنتظم الوجود بأكمله على كل المستويات ]: لكنه ليس أقل قدرة على استيعاب مفاهيم الجدلية المادية أو الميكانيكا الكوانتية، واللغة ليست حائلا دون ذلك. إن أي نمط من اللغة ليس بمقدوره بذاته ولوحده لا أن ييسر أو يمنع نشاط الفكر. فنهوض الفكر أكثر ارتباطا بمقدورات الإنسان، وبالشروط العامة للثقافة، وبتنظيم المجتمع منه بالطبيعة الخاصة للغة. لكن إمكان الفكر مرتبط بملكة اللغة، لأن اللغة بنية تصوغها الدلالة، وأن تفكر يعني أنك تمارس علامات اللغة.
المراجع Catégories de pensée et catégories de langue”, in problèmes de linguistique générale, 1, Paris, Gallimard, 1966, p.6274. (** ) Benveniste, op.cit., p.6. وأرقام الصفحات بعد الاستشهادات تحيل على هذا المؤلف. (*** ) Benveniste, Problèmes de l’inguistique générale, II, Paris, Gallimard, 1974, p.69. انظر المعطيات الأساسية عن هذه القضية في: Khalil Georr, les catégories d’Aristote dans leurs versions syroarabes, Beyrouth, 1948, Ibrahim Madkour, l’Organon d’Aristote dans le monde arabe, Paris, 1934, محمد حسين البليدي، المقولات العشر، تحقيق د.ممدوح حقي، بيروت، دار النجاح، 1974. لا داعي لإيراد النص الأصلي، لأن جميع المصطلحات اليونانية سترد فيما سيلي. وقد نرجمنا هذا النص حرفيا لتبليغ فحواه العامة قبل التحليل التفصيلي [ المؤلف ] وقد ترجمنا نص أرسطو إلى العربية كذلك حرفيا، وللمقارنة نورد نص الترجمة العربية القديمة لإسحق بن حنين التي نشرها عبد الرحمن بدوي ضمن منطق أرسطو، الجزء الأول، ص 3536: "كل من التي تقال بغير تأليف أصلا، فقد تدل إما على "جوهر"، وإما على "أن يكون له"، وإما على "يفعل"، وإما على "ينفعل".
سكينة عشوبة طالبة وباحثة
|
|
2297 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|