هذا الصّباح، سيّدي القارئ الكريم، سنتحدّث في عجالة لضيق الحيّز عن إمبراطور عظيم، قلّما سمعتَ به ومن يدري، بالرغم من كوْنه الأصلَ في إخراج بلده من رواسب القرون الوسطى، حيث قضى على الفيودالية، والإقطاعية، وعلى سيطرة قادة العسكر على الشعب، ثم دفع بالبلاد نحو التقدم العلمي والصناعي على شاكلة الدول الغربية المتقدّمة؛ لكنْ قبْل كل شيء اهتمّ بقطاع التربية والتعليم، باعتباره القنطرة التي تمكّن من العبور من عالم التخلّف والجهل والأمية إلى عالم التقدّم، والعلم، والتقنية.. كان يختار مستشاريه بعناية؛ فلا يمكن أن تجد مكانًا إلى جانبه، في بلاطه، إلاّ إذا كان عِلْمُكَ، وحكْمتُك، يؤهّلانِكَ، وإلاّ نزلتَ إلى الشارع، لتقوم بواجبكَ كأي مواطن عادي؛ فمن هو هذا الملكُ العظيم الذي حوّل بلدَه من شعب متخلّف إلى مجتمع عالمٍ، وواعٍ، ومثقّف؟
هو الإمبراطور الياباني [ميدْجي]؛ ولد في [كيوطو، سنة 1852 ميلادية]، وتولّي حُكْم [اليابان] سنة (1867)، ومن ذلك العصر، انطلق حُكْم (آل ميدجي)؛ وتوفّي هذا الإمبراطورُ العظيم سنة (1912).. كان توّاقًا إلى التقدم، وكان يحبّ العلْم، والعلماء، والمفكّرين، وكان يقرّبهم، ويأخذ بآرائهم، ويعمل بمشْورتهم.. كان يعتبر الخطأ واردًا عن حسْن نيّة؛ لكنّه كان يعتبر الضعف عارًا، لا يجوز أن يتصف به من كان يدير شأنًا من شؤون الأمّة، وللتدليل على ذلك، نراه يهمِل ابنَه [طايْشُو] لعدم جدّيته، ويهتم بتربية حفيده [هيرو هيتو] ليخلُفَه.. لقد ألغى [الشُّغُونَة] وهي زُمْرة [الشوغون] أي القادة العسكريين، الذين كانوا يتحكّمون في مصائر المواطنين، ومصادر عيشهم؛ كما قضى على (الفيودالية والإقطاعية) باعتبارهما رمزًا للتخلّف في القرون الوسطى، وأعطى أوّلَ دستور للشعب سنة (1895).. كان توّاقًا إلى التقدم العلمي، والصناعي على شاكلة الدول الغربية المتقدّمة، لكنْ أوّل ما بدأ به هو قطاع التربية والتعليم.. فماذا فعل بهذا الخصوص، وكيف نهضت التربيةُ والتعليمُ في أمّة كانت تتخبط في أوحال الجهل، والأمّية؟
استشار مستشاريه العباقرة حوْل كيفية إصلاح قطاع التربية والتعليم، فأشاروا عليه أن يبعث ببعثة، تزور كلاّ من أمريكا، وبريطانيا، وفرنسا، وألمانيا، ثم توافيه هذه البعثةُ بتقاريرَ مفصّلة ودقيقة ليتمّ اختيارُ أجود منظومة تعليمية لتعتمدها (اليابانُ) بعد دراستها من طرف مستشاريه الحكماء؛ فتم اختيارُ المنظومة الألمانية، وإلى يومنا هذا، فما زال هناك أوجُه شبَه بيْن التعليم في (اليابان) والتعليم في (ألمانيا).. التفتَ الإمبراطورُ نحو قطاع البحرية، خاصّة و(اليابان) هي بلد مكوَّن من خمس جزرٍ رئيسية: [هاندو، وهوكّايدو، وكيُو، وشيُو، وشيكوك]، فأشاروا عليه ببعْث طلبة إلى (بريطانيا) باعتبارها سيدة البحار إلى ذلكمُ الحين، ففعل، وكان من بيْن المتخرّجين الأميرال [طُوجُو] الذي هزم الروسَ سنة (1905) في مضيق [تسوشيما]، وألحق بهم هزيمةً نكراءَ، لأنّ [روسيا] كانت تعاني من فساد شامل أيام الإمبراطور [نيكولا الثاني].. كان الإمبراطور [ميدجي] حذرًا، ويخشى مَكْرَ التاريخ، مما جعله يطوّر أسطولَ بلده البحري، وقد خاض حربيْن ضدّ (الصّينيين والرّوس) وانتصر فيهما معًا؛ ولكنْ أيّةُ حادثة كان يتذكّرها [ميدجي] ويخشى حدوثَها مرّة أخرى، وهو ما جعله حذرًا جدّا، ولم يَمُتْ إلاّ و(اليابان) بلد قويٌّ عسكريًا وصناعيًا؟
لكن ما هي هذه الذكرى التي لم يَكُنْ [ميدجي] ينساها، وكأنّها قد تحدث ذات يوم؟ في سنة (1281)، هجم الإمبراطور الماغولي [كوبْلاَي خان] حفيدُ [جِينْزِيزْخان] على (اليابان) وكان أسطولُه الضخم يناهز (4000) سفينة حربية؛ رأى اليابانيون الأسطولَ يقترب مساءً من الشواطئ، واستعدّ (السّاموراي) للمواجهة، ولكنّهم كانوا قلّة، وتوقّع الشعبُ الياباني الأسوأ خلال صبيحة اليوم التالي؛ ولكنْ حوالي الساعة الواحدة صباحًا، وفي ظلمة الليل البهيم، هبّت عاصفةٌ هوجاء مدمّرة، فتحطّم أسطولُ المغول بأكمله، وغرق إلى الأعماق بكلّ مَن كانوا على متن تلك السّفن.. وفي الصباح، تفاجأ اليابانيون وشكروا الله، وسمُّوا تلك العاصفة [العاصفة الإلاهية] أو [كاميكاز]، وهو المصطلح الذي أطلقوه على الطائرات التي كانت تصطدم بحاملات الطائرات الأمريكية سنة (1945) خلال الحرب العالمية الثانية.. لقد أُلقيتْ قنبلتان نوويتان هما [اَلْفَات مان] أو الرَّجل المقاتل؛ و[اللّيتَلْ بُوي] أو الفتى الصغير، على كلٍّ من [هيروشيما وناکازاكي].. لقد دمَّرت القنبلتان اليابان، لكنّها لم تُفلِحا في تدمير الإنسان الياباني، لأنّ الإنسانَ هو رأسُ المال الحقيقي إذا أُحسِن بناؤُه، ونهضت (اليابانُ) من رمادها من جديد، وهي أحسن (ديموقراطية) على الإطلاق في العالم؛ أوليس في هذا النموذج والمثال!؟