إن أصالةَ العربي تبدأ من كونه يتكلّم لغةً عربيةً؛ وإذن فلا بديل أمامنا إلا أن نرعى هذه اللغة على ألسنة أبنائها وأقلام كتّابها، فهي بطاقة الهوية التي تجعل من العربي عربيًا، هذه بديهية لا أظنها مثيرة لجدال، لكنّني أنتقل إلى ما يترتب عليها، لأنه لا يبدو للناس بهذه البداهة كلها، وهو أننا إذا أردنا الحياة في عصرنا، فلابد من صبّ هذا العصر بكلّ ما فيه من علمٍ وأدبٍ في وعاء اللغة العربية، أعني لابد من ترجمة العلوم العصرية كلّها، وكذلك أدب العصر، وفلسفته، وبقدر ما نستطيع أن نسكبَ مادةَ العصر في إنائنا اللغوي، يكون نصيبنا من المعاصرة؛ ألم يقُم الخليفةُ المأمونُ بترجمة كافة العلم إلى العربية، وهيّأ لذلك الأموالَ والرجالَ حتى صارتِ اللغة العربية لغة علوم، وفلسفة، وأدب، فكانت (بغدادُ) عاصمة الفكر، والأداب، ومهد العلوم على اختلافها وكان (العراق) هو بلد العلماء، والأدباء، والفلاسفة؟
نعم؛ إنّ العصر لا يقتصر على شعب واحد، ولا على قطر واحد؛ فالعصر اليوم، هو أمريكا، وإنجلترا، وفرنسا، وألمانيا، واليابان، وروسيا، ودول أخرى تسير نحو التقدم بخطى حثيثة، لكنّ هذا العصر الواحد يلبس في كل قطر من هذه الأقطار ثوبًا ينسجه له ذلك القُطر ليجعله واحدًا من أهله، دون أن يكون تبدّلُ الأثواب سببًا في تغيير شيء من ملامح العصر، وما هذه الأثوابُ المختلفة باختلاف البلدان الممسكة بزمام الحضارة في عصرنا، إلا اللغاتُ المختلفة؛ فقد صبّ الألمانيُ مثلا نتاجَ العصر في لغته الألمانية، فبات الألماني بذلك معاصرًا لزمانه، وكذلك فعل الياباني، والروسي، وغيرهما.. لكنْ وُجِدَ في أمّتنا أفراد يعارضون ترجمةَ العلوم إلى العربية ظنّا منهم أن هذه العلوم لا يليق لها إلاّ الثوب الإنجليزي أو الفرنسي أو غيرهما من لغات الأمم المتقدّمة، وقد كان المفكّرون العرب، لا السياسيون الكذبة، يرون أنه على قدر ما ننقل إلى الثوب العربي من نتاج العصر، يكون نصيبنا من العصر.. فالأصالة في هذا المجال هي في اللغة العربية التي هي لغتنا لا لغة أحد سوانا، والتي هي كذلك ميراثٌ تسلّمناه من أسلافنا، وأمّا الـمُعاصرة فهي أن نصبَّ عصْرنا في وعائها؛ لكن للأسف الشديد، صار لـ(الأصالة والـمُعاصرة) معانٍ أخرى، ومفاهيمُ جديدة، وصار (الخطأُ المشهور هو السائد، واختفى الصحيح المهجور) على يد أحزاب يقودها جهلةٌ، لا يعرفون حقيقةَ وماهيةَ (الأصالة والمعاصرة) ولم يكلّفوا أنفسهم لجهْلهم تحديدَ مفهوم ومعنيَي اللفظتين اعتقادًا منهم أنهما محدّدتان وواضحتان.. كلاّ!
يقول الكاتبُ المغربي الراحل (إدريس الشرايبي) في كتابه الذي أثار جدلاً واسعًا في بلادنا: (Le Passé Simple) وبسببه صار من بيْن المغضوب عليهم لـمَا تضمّنَه كتابُه من نقد اجتماعي وسخرية من الجهل المتفشّي في الأمّة: [le temps galope] يعني (الزمن يجري جريَ الحصان) ونحن ما زلنا في نقاش عقيم حول مواضيع وهمية لا طائل من ورائها، ونحن نجهل إلى أين نحن متّجهون؛ فتخلُّفنا عن ركْب الحضارة أمرٌ واقع بلا شك.. نعم؛ لقد فات علينا زمنُ ترجمة العلوم إلى اللغة العربية، وقد قضيْنا عشرات السنين نناقش الموضوعَ دون جدوى، وقد نُفِيَ مفكّرون، وأُهْمِلت كتبُهم، وهوت اللغةُ إلى الحضيض، فاتُّهِمت بالتخّلف، مع العلم أنّ اللغةَ برجالها وليس العكس؛ كما أنّ التعليم الذي هو مفتاحُ مغاليق المستقبل، صار هو الرجل المريض في الأمّة، ترفعه النِّجاد، وتحطُّه الوِهاد، فيشتدّ مرضُه ويزداد، مع تغيير وزراء التعليم كلّ لحظة وحين، وصار المدرّسُ فيه مجرّد (مرتزق) يشتغل بالعقدة كما أوصتْ بذلك جهاتٌ هدّامة منذ فترة (المغادرة الطّوعية)، التي أفرغتْ جسدَ التعليم من قلبه، وكبده، وأمعائه، ودماغه، وصار مجرّد هيكل عظمي، فارقتْه الحياةُ، ورحلتْ روحُه دون طقوس أو مراسم؛ فعن أي تعليم يتحدّث هؤلاء في بلادنا!؟ فلو كان التعليم بيد سياسيين أكفاء، لأنفقوا على إصلاحه مهْما بلغتْ تكاليفُ الإصلاح؛ ولكن واحرّ قلباه!
صارتِ الأممُ تحيط أسرار علومها بستار، وتموّه بتظاهرات وبأنشطة مجانية لصرف الأنظار عن أسرار علمية خطيرة، ومثيرة، ومذهلة لا قِبلَ لنا نحن بها، وسينطلق العالمُ المتحضِّر نحو آفاق سنمثّل نحن فيها (الإنسان البدائي) الجديد، بسبب جهْلنا الذي نحرص عليه اليوم ونرعاه للأسف الشديد.. كنت في أواسط الثمانينيات أتحدث أمام الزملاء والأصدقاء عن (السّبيرْنطيقا)، فكان الكلّ يضحك ويسخر منّي لغرابة المصطلح؛ وقد كنتُ أرتكز في حديثي ذلك على (علم المستقبليات) الذي بشّرَ بهذه التقنيات التي نشهدها اليوم.. (علم المستقبل) هذا، لا وجود له في حياتنا الثقافية الراهنة للأسف الشديد.. والآن، وقد غزتْنا هذه التقنيات لكنّنا لم نوظّفْها التوظيفَ الصحيح في حياتنا. لكنْ ماهي طبيعةُ المستقبل، وكيف سيكون؟ المستقبل لا مكان لنا فيه، وليست لنا تذكرة لركوب قطاره السريع، وسيرى العالمُ ما أسماه [نيتشه] ذات يوم [السوبرمان] بتقنياته، واختراعاته، وعلومه الجديدة، والدقيقة، والمعقّدة، لن نستطيع حتى قراءةَ أسمائها، فما بالُكَ باستيعابها.. أنتَ ترى أننا لدينا حواسيب في كل الإدارات، لكنّ الإدارات صارت سلحفائية، ومتخلّفة، ورديئة، ليس بسبب الوسائل الحديثة، ولكنْ بسبب تخلّف العقليات، وانعدام مجتمع علمي، وغياب إنسان التقنيات.. إنّما يتنبّأ به صاحبُ كتاب: [صدمة المستقبل] (الڤين توفلر) ليذهل، وليخيف قارئَه؛ وقد قرأتُه، وأدركتُ بأنه لا مستقبلَ لنا في هذا المستقبل المذهل..