|
|
|
|
|
أضيف في 18 مارس 2019 الساعة 13 : 10
تُعتبَر نظريةُ وحدة الوجود من ألصق النظريات بالفكر الفلسفي القديم. فقد ظهرت في الفلسفة الهندية، حيث كانت مدرسة الـﭭيدنتا اللاثنوية تعلِّم أن جميع أشكال الحياة، من حياة الآلهة إلى حياة أحقر الخلائق، هي ذات واحدة جوهرية: وظهرت أيضًا في الفلسفة الصينية، وخاصةً في الحكمة الطاوية التي دعا إليها الحكيم لاو تسُه؛ وفي الفلسفة اليونانية، حيث نادى بها كسينوفانس القولوفوني، مؤسِّس المدرسة الإيلية، وكذلك پرمنيدس، والرواقية، والمدرسة الفيثاغورية، والأفلاطونية المحدثة و"وحدة الوجود" تعني، مجملةً، أن الكل هو الإله وأن الإله هو الكل. وقد انقسم معتنقوها إلى طائفتين هما: أصحاب وحدة الوجود الإلحادية: وهم الذين يعتقدون أن العالم وحده هو الموجود الحق، وليس الإله سوى مجموع الأشياء الموجودة في العالم. أصحاب وحدة الوجود الإيمانية: ويرون أن الإله وحده هو الحقيقي، وما العالم إلا مجموعة من تجلِّياته التي ليس لها وجود من دونه ولقد كان الشيخ محي الدين بن عربي من أبرز مَن دعا إلى وحدة الوجود الإيمانية في التصوف الإسلامي؛ إذ تُعتبَر بمثابة حجر الزاوية في مذهبه. وغني عن البيان أن وحدة الوجود عنده ليست مادية كما هي الحال أيضًا عند غيره من الصوفية المسلمين وتجدر الإشارة إلى أن كثيرًا من الباحثين الغربيين يستعملون لفظة pantheism للدلالة على وحدة الوجود كما ظهرت في التصوف الإسلامي، في حين أن ذلك المصطلح عندهم يعني أن الله مجموع الأشياء، مما لا علاقة له بالتصوف الإسلامي إطلاقًا. وإلى هذه الحقيقة أشار الشيخ عبد الغني النابلسي في قوله: أما القائلون بوحدة الوجود من الجهلة الغافلين والزنادقة الملحدين، الزاعمين بأن وجودهم المفروض المقدَّر هو بعينه وجود الله تعالىليستدلوا بذلك على إسقاط الأحكام الشرعية عنهم، وإبطال الملَّة المحمدية، وإزالة التكليف عن نفوسهم، فالطعن عليهم بسبب القول بوحدة الوجود على هذا المعنى الفاسد طعنٌ صحيح. ولا شك أن الباحث في نظرية وحدة الوجود يصطدم حتمًا بإشكالية معقدة ذات طابع عقائدي وفلسفي وأخلاقي. إذ كيف يمكن لنا أن نُرسي قواعد تربوية في عالم لا ينفصل فيه المكلِّف عن المكلَّف، ولا الحق عن الخلق؟ لذا، فقبل تناوُلنا تلك الإشكالية بالبحث، يجدر بنا أن نبحث في طبيعة تلك النظرية عند الشيخ الأكبر. . مفهوم وحدة الوجود عند الشيخ الأكبر يقرر ابن عربي أن العالم ما هو إلا "ظل الله"، فيقول: المقول عليه سوى الحق أو مسمَّى العالم هو، بالنسبة إلى الحق، كالظل للشخص؛ فهو ظل الله وللتوضيح فإن لفظ "السوى" لفظٌ تعارَف عليه الصوفية حتى يميزوا بين الله والعالم في النظر العادي. وحقيقة الأمر أنه لا يوجد هناك "سوى" في نظرهم؛ إذ ليس في الوجود إلا الله وأسماؤه ليس غيرفالإقرار بوجود "سوى" الله معناه الإقرار بوجودين اثنين: وجود الله من جهة، ووجود العالم من جهة ثانية. وإذا تصورنا هذا وقعنا في مشكلة "الإثنينية الوجودية" التي اعتبرها ابن عربي وغيره من الصوفية شِركًا منافيًا للتوحيد الخالص. إن الوجود، بحسب محي الدين بن عربي، وجود واحد، لكن له وجهين: وجه حقيقي: وهو وجود الله – سبحانه وتعالى – الذي لا يحتاج في وجود إلى غيره؛ وهو "الوجود من حيث هو وجود، بلا اعتبار الكثرة فيه ولا الإضافة"، وهو الهوية المطلقة وجه مجازي: وهو وجود جميع الكائنات، حيث إنها "وُجدت من العدم بوجوده تعالى، لا بنفسها. ووجودها محفوظ عليه في كلِّ لمحة بوجوده، لا بنفسها. وإذا كانت كذلك فوجودها الذي هي موجودة به في كلِّ لمحة هو وجود الله تعالى؛ وأما ذواتها وصورها من حيث هي، فلا وجود لأعينها أصلاً. فوجودها، إذن، إضافي، وهو، بالنسبة إلى الحق تعالى، كالظل للشخص وبهذا يؤكد ابن عربي أنه إذا نظرنا إلى العالم من حيث أحدية موجِده – الذي هو الله عزَّ وجل ، قلنا عنه هو الحق الواحد الأحد؛ وإذا نظرنا إليه من حيث كثرة الصور والتعدد العارض له بالإضافة، قلنا عنه إنه العالم أو "اسم السوى" أو "الغير. فكل ما ندركه إذن هو [...] وجود الحق في أعيان الممكنات. فمن حيث هوية الحق هو وجوده، ومن حيث اختلاف الصور فيه هو أعيان الممكنات. بناءً على ما سبق، يمكن لنا الاستنتاج أنه "ما ثم إلا وجود واحد، وإنْ ظهر لنا أنهما وجودان؛ إذ الوجود الذي هما موجودان به وجود واحد، وهو للقديم بالذات وللحادث بالغير". فيتضح أن وحدة الوجود بهذا المعنى هي وحدة وجود إيمانية روحيإلا أنها لاقت سخطًا من جانب بعض الفقهاء، نذكر منهم الإمام ابن القيم الجوزية، حيث يقول مستنكرًا: زعم أهل الاتحاد القائلون بوحدة الوجود أن الفناء هو غاية الفناء عن وجود السوى. فلا يثبت للسوى وجود البتة، لا في الشهود ولا في العيان، بل يتحقق بشهود وحدة الوجود، فيُعلَم حينئذٍ أن وجود جميع الموجودات هو عين وجود الحق. فما ثم وجودان، بل الموجود واحد. وحقيقة الفناء عندهم أن يفنى عما لا حقيقة له، بل هو وهم وخيال. . موقف ابن عربي من الحلول والاتحاد لقد وقع الالتباس عند كثير من العلماء والباحثين في فهم نظرية وحدة الوجود كما وردت عند الشيخ محي الدين بن عربي، فراحوا يخلطون بينها وبين الحلول والاتحاد والحقيقة أن ابن عربي كان من أبعد الناس عن الحلول والاتحاد، يشهد بذلك ما جاء صريحًا في كتبه. فهو ينفي الاتحاد بقوله: إذا كان الاتحاد يُصيِّر الذاتين ذاتًا واحدة فهو محال، لأنه إن كان عين كلِّ واحد منهما موجودًا في حال الاتحاد فهما ذاتان، وإن عدمت العينُ الواحدة وبقيت الأخرى فليس للأول حد ومعنى ذلك أنه لا توجد ذاتان – في حقيقة الأمر – حتى يتم الاتحاد بينهما؛ إذ ما ثم إلا الله وصفاته وأسماؤه كما مرَّ بنا. وبالتالي، بَطُلَ الاتحاد من أصله. لكن الصوفية قد يستعملون مصطلح "الاتحاد" ليشيروا به إلى معانٍ معينة، يحدِّد ابن عربي بعضها كالآتي، أ. فيقول: قد يكون الاتحاد عندنا عبارة عن حصول العبد في مقام الانفعال عنه [عن الله] بهمَّته وتوجُّه إرادته، لا بمباشرة ولا بمعالجة. فبظهوره بصفة هي للحق تعالى تسمَّى اتحادًا لظهور حقٍّ في صورة عبد ولظهور عبدٍ في صورة حق. وابن عربي يشير، من خلال هذا القول، إلى مقامَين يصل إليهما العارفون، يُطلَق عليهما مصطلحا "قرب الفرائض" و"قرب النوافل". فقوله: "ظهور حق في صورة عبد" إشارة إلى أنه إذا كان الحق ظاهرًا، كان الخلق خفيًّا، وكان جميع أسماء الحق وصفاته. وهذه حالة شهودية يصلها العارف حينما لا يرى في الوجود متجليًّا إلا الله. وقد نلمس هذا المعنى في قوله تعالى: "وما رميتَ إذ رميتَ ولكن الله رمى". فاليد يد سيدنا محمد – عليه الصلاة والسلام –، وقد نفى الله عنه الرمي، حيث قال: "ولكن الله رمى"، بمعنى أن الرامي هو الله في حقيقة الأمر. وذلك ما يسمى بـ"قرب الفرائض". أما قوله: "وظهور عبد في صورة حق" فإشارة إلى أنه إن كان الخلق ظاهرًا كان الحق مستورًا. وهذه حالة شهودية أخرى يصلها العارف، فيكون الحق تعالى سمعه، وبصره، ويده، ورجله، وجميع جوارحه وقواه، بلا حلول ولا امتزاج، كما جاء في الحديث الشريف. وذلك ما يسمى بـ"قرب النوافل وعن هاتين المرتبتين يقول الشيخ الأكبر: فإن كان الحق هو الظاهر فالخلق مستور فيه، فيكون الخلق جميع أسماء الحق: سمعه، وبصره، وجميع نسبه وإدراكاته؛ وإن كان الخلق هو الظاهر فالحق مستور باطن فيه. فالحق سمع الخلق وبصره ويده ورجله وجميع قواه، كما ورد في الخبر الصحيح فهذه إحدى معاني الاتحاد الذي يقصده ابن عربي. ب. وهناك معنى آخر للاتحاد يتعلق بتداخل أوصاف الحق وأوصاف الخلق؛ وهو قريب من المعنى الأول. يقول فيه ابن عربي: وقد يُطلَقُ الاتحاد في طريقنا، لتداخل أوصاف الحق والخلق. فوصفْنا الله بأوصاف الكمال، من الحياة والعلم والقدرة والإرادة وجميع الأسماء كلِّها، وهي له؛ ووصفَ نفسه بأوصاف ما هو لنا، من الصورة والعين واليد والرجل والذراع والضحك والنسيان والتعجب والتبشبش وأمثال ذلك مما هو لنا. فلما ظهر تداخُل هذه الأوصاف بيننا وبينه، سمينا ذلك اتحادًا لظهورنا به وظهوره بنا. فيصح قول القائل عن هذا: "أنا من أهوى/ ومن أهوى أنا وابن عربي كان واضحًا، دقيقًا، في رفض الحلول والتمييز بين الله ومخلوقاته، حيث يقول: [...] فلو جمع بين الواجب بذاته وبين الممكن وجهٌ، لجاز على الواجب ما جاز على الممكن من ذلك الوجه من الدثور والافتقار – وهذا في حق الواجب محال. وهو يرفض رفضًا شديدًا فكرة "اتحاد" العبد بالرب، فيؤكد على ضرورة التمييز بينهما، فيقول: [...] فكما لا يكون الرب عبدًا، كذلك لا يكون العبد ربًّا، لأنه لنفسه هو عبد، كما أن الرب لذاته هو رب. فلا يتصف العبد بشيء من صفات الحق بالمعنى الذي اتصف بها الحق، ولا الحق يتصف بما هو حقيقة للعبد. وقد يقرأ بعضُهم قول ابن عربي في مقدمة الفتوحات: الرب حق والعـبد حـق يا ليت شـعري من المكلَّف إن قلت عبد فذاك مــيت أو قلت رب أنَّى يكلـف فيجتث البيتين اجتثاثًا، ويغفل عما قبلهما وما بعدهما، ويسارع إلى اتهام الرجل بالحلول والاتحاد، مع أن البيتين وردا في سياق توحيدي قدسي رقيق المعنى، وهو قول ابن عربي: الحمد لله الذي أوجد الأشياء عن عدمه، وأوقف وجودها على توجُّه كلمه، لنحقق بذلك سرَّ حدوثها وقِدَمها من قِدَمه، ونقف عند هذا التحقيق على ما أعلمنا به من صدق قِدَمه ثم يتكلم بعد عن "حضرة الجمع" التي يصل إليها العارفون، أي يفنون عن أنفسهم، فيكونون منزَّهين، مطهَّرين بصفائها وطهرها، دون أن يحلَّ بهم الله أو يحلُّوا به، لأن الله يتقدس أن يلحقه التشبيه. هو ذا يقول في هذا الشأن: [...] بل العبد في ذلك الموطن الأنْزه ["حضرة الجمع"] لاحق بالتنزيه، لا أنه – سبحانه وتعالى – في ذلك المقام الأنوه يلحقه التشبيه. فتزول في تلك الحضرة من العبد الجهات، وينعدم عند قيام النظرة به منه الالتفات. ثم يضيف قائلاً: ولما حيَّرتْني هذه الحقيقة، أنشدتُ على حكم الطريقة للخليقة (مخلع البسيط ): الرب حق والعـبد حـق يا ليت شـعري مَن المكلَّف إن قلت عبد فذاك مــيت أو قلت رب أنَّى يكلــف فـ"حضرة الجمع" حضرة فناء واضمحلال، تتلاشى فيها رسومُ العبد وآثارُه، بحيث يسقط التمييز فيها بينه وبين الحق ويرجع إلى أصله العدمي، فلا يبقى إلا الحق وحده. وفي هذه الحضرة لا يمكن لنا أن نتكلم عن "التكليف" أصلاً، إذ هي حضرة الحقيقة الكونية حيث لا شريعة ولا قوانين. فإن قلنا عن العبد في هذه الحضرة أنه "مكلَّف" وقعنا في التناقض، لأن التكليف يقتضي العقل والتمييز، والعبد في هذه الحالة فانٍ، مضمحل؛ وإن قلنا الرب هو "المكلَّف"، فالرب لا يكون مكلفًا أبدًا – وهذا محض التوحيد الذي أشار إليه ابن عربي حين اجتماعه بالجنيد روحيًّا، إذ قال: رأيت الجنيد في هذا التجلِّي فقلت له: "يا أبا القاسم، كيف تقول: في التوحيد يتميز العبد من الرب. وأين تكون أنت عند هذا التمييز لا يصح أن تكون عبدًا ولا أن تكون ربًّا. بهذا المنطق يمكن أن نفهم ذينك البيتين اللذين يتخذهما كثيرٌ من نقاد بن عربي حجةً على دعوته للاتحاد والحلول. وعليه، فإن العبد لا يتحد بالرب إطلاقًا في نظر ابن عربي، ولا يكون في رتبته، لأنه ممكن، مفتقر إلى خالقه: فلا يصح أن يكون، أبدًا، الخلق في رتبة الحق، كما لا يصح أن يكون المعلول في رتبة العلَّة، من حيث ما هو معلول عنها. [...] فالعالم لم يبرح في رتبة إمكانه، سواء كان معدومًا أو موجودًا. والحق – تعالى – لم يبرح في مرتبة وجوب وجوده لنفسه، سواء كان العالم أو لم يكن. فلو دخل العالمُ في الوجوب النفسي، لزم قِدَمُ العالم ومساوقته في هذه الرتبة لواجب الوجود لنفسه، وهو الله، ولم يدخل، بل بقي على مكانه وافتقاره إلى موجده وسببه، وهو الله. ولقد كان ابن عربي شديد اللهجة على دعاة الحلول والاتحاد، حيث وصفهم بالزيغ والضلال. يقول: ومن هنا زلَّت أقدامُ طائفة عن مجرى التحقيق، فقالت: "ما ثم ما إلا ما ترى"، فجعلتِ العالمَ هو الله، والله نفسَ العالم. وسبب هذا المشهد لكونهم ما تحققوا به [بالله] تحقُّق أهله. فلو تحقَّقوا به ما قالوا بذلك وأثبتوا كلَّ حقٍّ في موطنه علمًا وكشفًا وقال منزِّهًا الله عن الحلول في مخلوقاته: تعالى أن تحلَّه الحوادثُ أو يحلَّها ونلمس تلك المعاني أيضًا في إحدى مناجياته لله عند تفسيره لصيغة الدعاء "أستغفرك وأتوب إليك"، فيقول مخاطبًا المولى – عزَّ وجل – قائلاً: أطلب التستر منك في اتصافي بالوجود، لئلا أغيب عن حقيقتي فأدَّعي الوجود، وهو ليس أنا، بل هو أنت. وما أنا أنت: فأنا أنا على ما أنا عليه لذاتي، وأنت أنت على ما أنت عليه لذاتك. والحقيقة أن البحث في عقيدة الشيخ الأكبر يتطلب قراءةً شموليةً معمقةً لكلِّ ما كتب دون تجزئة. فقد نقرأ أفكارًا نبترها من السياق العام لكلامه، فنتوهم أنه يدعو للحلول والاتحاد، مع أن الحكم في تلك المسائل العقيدية الخطيرة يتطلب التأنِّي والتريث. وقد صرح ابن عربي بعقيدته في مقدمة كتاب الفتوحات، وهي عقيدة واضحة سليمة، كمذهب أيِّ عالم مسلم؛ لكنه رأى أن تفصيل تلك العقيدة وتعميقها، بما يوصل إلى "توحيد الخواص"، يتطلب تبديدها والإشارة إليها دون تصريح، فقال: وأما الصريح بعقيدة الخلاصة فما أفردتُها على التعيين، لما فيها من الغموض، لكن جئت بها مبدَّدةً في أبواب هذا الكتاب، مستوفاةً مبيَّنة، لكنها كما ذكرنا مفرقة. وأغلب الظن أن الذين يتهمون ابن عربي بالحلول والاتحاد ما قرأوا كتبه قراءةً معمقةً وشمولية. إذ إن كلَّ قراءة تجزيئية أو سطحية لكتبه، على ما فيها من غموض وتعقيد، ستكون دون شك مغامرة عقيمة مآلها سوء الفهم والتخبط في المجهول . طبيعة الفناء عند ابن عربي يرى ابن عربي، كغيره من الصوفية، أن حال الفناء لا يُنال بتعمل أو بقصد فهو محض فضل من الله – عزَّ وجل – على عبده، وموهبة وإكرام منه له واختصاص، يفعله بمن اصطنعه لنفسه، وليس هو من الأفعال المكتسَبة وقد برهن ابن عربي على أن أكثر الناس يعيشون في حياتهم اليومية حالاتٍ تشبه الفناء، لكنهم لا يتفطنون إلى ذلك. ويتضح وجودُه من خلال تلك الأحوال التي تعتري كثيرًا من الناس: فقد يحدث أن يركز الإنسان فكره في مسألة من أمور الدنيا أو من أمور من العلم، فيستغرق فكرُه كله فيها، إلى حدِّ أنك تحدِّثه فلا يسمعك، وتكون بين يديه فلا يراك، وترى في عينه جمودًا في تلك الحالة. فإذا عثر على مطلوبه، أو طرأ أمرٌ يرده إلى إحساسه، حينئذٍ يراك ويسمعك. والفناء بهذا يعني زوال الشعور والإحساس من الإنسان بسبب حال اعتراه، كصواحبات يوسف – عليه السلام – قطعن أيديهن لفناء أوصافهن، ولِما ورد على أسرارهن من لذة النظر إلى يوسف. وفي ذلك قيل: غابت صفاتُ القاطعات أكفَّهـا في شاهد هو للبرية أبــدع ففنين عن أوصـافهن فلم يكـن من نعتـهنَّ تلذُّذ وتولُّـــع فهذه أدنى درجات الفناء فيما نشاهده يوميًّا في حياتنا. فإذا ذهبنا إلى عالم التصوف، وجدنا أنهم يتحدثون عن "فناء" من نوع أعمق، هو فناء الروح في مشاهدة جمال الحق وجلاله. والفناء عند ابن عربي ينقسم إلى عدة أقسام، نلخِّصها في أربعة كبرى: 1. الفناء عن المخالفات: :أن تفنى عن المخالفات، فلا تخطر لك ببال، عصمةً وحفظًاوهذا هو المنطلق الشرعي لكلِّ صوفي. 2. الفناء في أفعال الله (وحدة الأفعال ): حيث "يفنى العبد عن شهود أفعال الله، ويشهد أفعالهم قائمةً بقيام الله على ذلك 3. الفناء في صفات الله (وحدة الصفات ): بحيث "يشهد صفات المخلوقين قائمةً بصفات الخالق عزَّ وجل 4. الفناء في ذات الله (وحدة الذات ): بحيث "يفنى السالك عن شهود ذاته، ثم "يفنى عن كلِّ ما سوى الله بالله، ثم يفنى في هذا الفناء عن رؤيته تلك، فلا يعلم أنه في حال شهود حق: إذ لا عين له مشهودة في هذا الحال" وهذه المراتب الثلاث للفناء تشكِّل مراتب التوحيد الثلاث. فالذات محجوبة بالصفات، والصفات محجوبة بالأفعال، والأفعال محجوبة بالأكوان والصوفي، من خلال سلوكه الروحي، يسعى إلى خرق تلك الحجب، فيبدأ بتحقيق مقام وحدة الأفعال – وهو "الفناء في الأفعال" –، فلا يشهد فاعلاً إلا الله؛ ثم يرتقي إلى تحقيق مقام وحدة الصفات – وهو "الفناء في الصفات" –، فلا يشاهد سميعًا ولا بصيرًا ولا مريدًا ولا متكلمًا ولا حيًّا ولا عليمًا ولا قادرًا إلا الله؛ ليصل بعد ذلك إلى مقام وحدة الذات – وهو "الفناء في الذات: –، بحيث لا يشاهد موجودًا على الحق إلا الله. وإلى هذا المعنى أشار أحد العارفين فقال: فيفنى، ثم يفنى، ثم يفنى فكان فنـاؤه عين البقاء مخاطر الفناء على العقيدة والأخلاق ذهب بعض المفكرين إلى أن ابن عربي وغيره من الصوفية هدموا الأخلاق بنظريتهم في وحدة الوجود. إذ إن المعراج الروحي ينتهي بالسالك إلى الفناء، حيث يفقد وعيه، ويذهل عن نفسه، ويغفل عن الدنيا من حوله، ويغيب عن ذاته، ولا يشعر بغير فعل الله وإرادته المطلقة التي تسيِّر كلَّ شيء. وبهذا ترتفع المسؤولية الأخلاقية بزوال ركنيها الرئيسيين: العقل والحرية والحقيقة أن تلك المخاطر واردة بالفعل، لكنْ في حدود ضيقة جدًّا. ذلك أن بعض الصوفية، عندما يصلون إلى "مقام الجمع"، يفنون عن أنفسهم، ويشهدون الحق بلا خلق. وفي هذا تعرض لهم معاطب ومهالكيُخشى عليهم من الوقوف عندها فتخسر صفقتُهم. ولا ينجو من تلك المزالق إلا مَن كان متسلحًا ببصيرة علم فالسالك عندما يكون في حال الفناء (أو الجمع ) لا يمكن له أن يفرِّق بين الإرادة الكونية والإرادة الدينية (أو بين الحقيقة والشريعة )، حيث "يشهد ما اشتركت فيه المخلوقاتُ من خلق الله إياها ومشيئته لها وقدرته عليها" – وهذا ما يُسمَّى بـ"الإرادة الكونية" (أو الحقيقة ) –، و"لا يشهد ما افترقت فيه من محبة الله لهذا، وبغضه لهذا، وأمره بما أمر به، ونهيه عما نهى عنه" – وهذا ما يُسمَّى بـ"الإرادة الدينية" (أوالشريعة ). "فربما انسلخ من دين الله ومن جميع رسله وكتبه، إذ لم يتميز عنده ما أمر الله به مما نهى عنه؛ بل لا يكون عنده في الحقيقة إلا الطاعة، لاستواء الكلِّ في الحقيقة التي هي المشيئة العامة الشاملة، و"يظن أنه وصل إلى عين الحقيقة، وإنما وصل المسكين إلى الحقيقة الشاملة التي يدخل فيها إبليس وجنوده أجمعون. فإن هؤلاء كلهم تحت الحقيقة الكونية القدرية كما أنه في تلك الحالة لا يشهد الكثرة في الوجود – وهي كثرة معاني الأسماء الحسنى والصفات العلى واقتضاؤها لآثارها – في وحدة الذات الموصوفة بها في الجمع لأن مشهده في تلك الحضرة توحيدي محض، لا يقتضي التفرقة. فإذا لم يتجاوز هذه العقبة، انسلخ عن الفرق الشرعي وظن أن التكليف قد سقط عنه. غير أن ابن عربي تفطَّن إلى هذه المخاطر الأخلاقية والعقيدية في التصوف، فأكد أنها ناجمة أساسًا عن خطأ في السلوك وضبابية في الشهود. ولذلك ركز على ضرورة الشيخ في السلوك: فالشيخ، بمعرفته لتلك المسالك الخطرة، يتمكن من حفظ المريد من الوقوع في المهالك، بترقيته عبر المقامات والمشاهد الروحية المختلفة. وقد حدد ابن عربي تلك المشاهد التي يعبرها السالكون كالآتي: 1. مشهد الكثرة الوجودية: وهذا "مشهد الناظرين إلى الخلق، الغافلين عن شهود الحق، فلا يشهدون إلا الكثرة ولا يرون إلا الخلق وهذا المقام يدعى "مقام الفرق الأول"، بحيث يحتجب صاحبُه بالخلق عن الحق وأغلب الناس من هذا النوع. 2. مشهد الوحدة الشهودية: وهذا "مقام الفناء في شهود الحق والغياب عن شهود الخلق؛ ويسميه الصوفية "مقام الجمع. ولا يعني هذا أن العالم ينتفي بوصول السالك إلى هذه المرتبة، ولكنها حالة روحية يعيشها وحده، فيدرك أن العالم موجود بين طرفي عدم، وأنه كان معدومًا وسيصير معدومًا. و"مقام الجمع" عقبة صعبة ذات خطر على الصعيد العقيدي والأخلاقي: "يُخشى على المريد من وقوفه عندها فتخسر صفقتُه". وهذا ما حدث لبعض المنتسبين للتصوف حينما [...] ادَّعوا أنهم في عين الجمع، وأشاروا إلى صرف التوحيد، وعطَّلوا الاكتساب، فتزندقوا 3. مشهد الكثرة في الوحدة والوحدة في الكثرة: وهذا أكمل مقام يبلغه السالكون، حيث "يشهدون الكلَّ حقيقةً واحدة، لكنها متكثِّرة بالنسب والإضافات، فيشهدون وحدة الحق متجلِّيةً في كثرة مخلوقاته، ويشهدون تلك الكثرة صادرةً وراجعةً إلى الوحدة الأصلية. وهذا ما يسمى بمقام "البقاء بعد الفناء"، و"الفرق بعد الجمع"، وهو مقام "الاستقامة. وفي هذا المقام تتحقق المعرفة الحق، فيتوازن العارف، بحيث يكون متشرعًا ومتحققًا في الوقت نفسه. وقد أكد ابن عربي أن مقام البقاء أكمل وأرقى من مقام الفناء؛ إذ بالوصول إليه يكون السالك قد تخلص من عقبة خطيرة: فحال البقاء أعلى من حال الفناء، وإنْ تلازما وكانا للشخص في زمان واحد. وفي تمييزه بين المقامين يقول: [...] ثم بعد هذا، في ثاني حال، يعطيك الكشف أن الحق نفسه كان عين الدليل على نفسه وعلى ألوهيته، وأن العالم ليس إلا تجلِّيه في صور أعيانهم الثابتة التي يستحيل وجودها بدونه، وأنه يتنوع ويتصور بحسب حقائق هذه الأعيان وأحوالها. [...] ثم يأتي الكشف الآخر، فتظهر لك صورنا فيه، فيظهر بعضنا لبعض في الحق، فيعرف بعضنا بعضًا ويتميز بعضنا عن بعض. فـ"الكشف الأول" هو مقام الفناء في الحق، لأن الشاهد والمشهود في ذلك الكشف ليس إلا الحق وحده، ويُسمَّى "الجمع وهو مقام جمالي محض، لا يشهد فيه صاحبه إلا الحق وحده؛ فهو محجوب بالجمال عن الجلال[77]. وهذا مقام الوحدة الشهودية. أما "الكشف الثاني"، فهو مقام البقاء بعد الفناء؛ وصاحبه أكمل من الأول لأنه لا يحتجب بالخلق عن الحق، ولا بالحق عن الخلق، فيعرف الكثرة الخلقية في عين الحقيقة الأحدية الحقية. وهو بهذا يُعتبَر من أهل الكمال الذين لا يحجبهم الجلالُ عن الجمال ولا الجمالُ عن الجلال. . الرؤية الوحدوية للوجود: رؤيةالحق في الخلق والخلق في الحق هذا وقد لخَّص ابن عربي تلك الرؤية الوحدوية للوجود في ثلاثة أبيات فقال: فالحقُّ خلقٌ بهذا الوجه فاعتبروا وليس خلقًا بهذا الوجـه فادَّكروا مَن يدرِ ما قلتُ لم تخذل بصيرتُه وليس يدريه إلا مَن لـه نـظـرُ جمعٌ وفرقٌ فإن العين واحــدةٌ هـي الكثيرة لا تُبقي ولا تَـذِرُ فالحق – عزَّ وجل – يُنظَر له من وجهين: الوجه الأول: "باعتبار ظهوره بأسمائه وصفاته في صور الأعيان وقبولها الأحكام منه، بلا حلول ولا امتزاج؛ وبهذا الاعتبار فهو خلق". الوجه الثاني: "باعتبار أحديته الذاتية وأسمائه الأولى في الحضرة الإلهية الواحدية؛ فإنه بذلك الوجه موجِد الموجودات وخالق المخلوقات؛ فلا يكون خلقًا من هذا الوجه" فالوجود الحق واحد، إلا أنه في مرتبة الجمع الأسمائي إله، وفي مرتبة الفرق مخلوق: "فليس في الوجود غيره؛ فإنه العين الواحدة، وهي بعينها الكثيرة بالتعينات التي لا تحقُّق لها بدونه. فلا موجود إلا وحده لذا فإن "الواقف مع الخلق واقف في الفرق، وهو أعور البصيرة؛ والواقف في الجمع أعور كذلك – وكلاهما قد تفرَّق نظرُه" أما الذي جمع في عين التفريق وفرَّق في عين الجمع، فقد صحَّتْ بصيرتُه. وفي موضع آخر من الفصوص، ينصح ابن عربي بضرورة الجمع بين الرؤيتين: رؤية الحق والخلق في وقت واحد، فيقول شعرًا: فلا تنــظر إلى الحــــق وتعرِّيـه عن الخلــــــق ولا تنظــر إلى الخلــــق وتكسوه سوى الحــــــق ونزِّهْـــه وشـبِّـــــهه وقُمْ في مقــعد الصِّــــدق وكنْ في الجمــع إن شــئتَ وإنْ شئـــتَ ففي الفــرق فالحق، من حيث تجلِّياتُه، يستلزم وجودَ خلقه: "فالرب يستلزم المربوب، والخالقُ يطلب المخلوق، والإلهُ المألوه، لما بينهما من التضايف، فلا يلاحَظ أحدُهما دون الآخر لذا يجب النظر إلى الحق متضايفًا مع الخلق؛ ولكن "لا يجب النظر إلى الخلق دون النظر إلى موجِده، لأنه إذا نُظِرَ كذلك، بقي على عدمه الأصلي ثم يطلب ابن عربي من السالك أن ينزِّه الحق – عزَّ وجل – ويشبِّهه في الوقت نفسه. والتنزيه الذي يعنيه ابن عربي هو تنزيه الله تعالى أن يكون متعينًا بأحد مخلوقاته، مقيدًا به، فيشبه متعينًا آخر، فيلزم الشرك كما أن التشبيه المطلوب هو شهود الله تعالى على أنه عين كلِّ مخلوق من مخلوقاته؛ إذ لا قيام لمخلوق من دونه. فإذا جمع السالك بين التنزيه والتشبيه بالمعنيين المذكورين، شاهد الله وحده، وصار عارفًا بالحضرتين: حضرة الإطلاق (التنزيه )، وحضرة التقييد (التشبيه وانتفى في حقِّه كل "سوى"، وبلغ مقام "مقعد الصدق"، وهو مقام التوحيد الذاتي والجمع بين المطلق والمقيَّد. ويصح له بعد هذا التحقيق أن تتلون مشاهدُه: فإن شاء فرَّق، وإن شاء جمع. وعلى الرغم من أن لغة ابن عربي واضحة في ضرورة رؤية الفرق في عين الجمع ورؤية الجمع في عين الفرق، حتى لا تسقط التكاليف وتنهدم أركان الأخلاق، فإن ابن القيم بالَغ في إدانة الصوفية من أصحاب وحدة الوجود (ومنهم ابن عربي )، من حيث إنهم يجعلون مقام الجمع – وهو الفناء عن شهود السوى وشهود الحقيقة الكونية – غايةَ السلوك والمعرفة عندهم. كما يذهب إلى اتهامهم بأنهم يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين، وأن السالك عندهم، إذا ترقَّى، شهد أفعالَه كلها طاعاتٍ لا معصية فيها، لشهود الحقيقة الكونية الشاملة لكلِّ موجود: "فلا طاعات ولا معاصي، لأن ذلك يستلزم اثنينيةً وتعددًا، ويستلزم مطيعًا ومطاعًا، عاصيًا ومعصيًّا – وهذا عندهم محض الشرك، والتوحيد المحض يأباه والحقيقة أن مقام الفناء أو الجمع لم يكن أبدًا غاية السلوك عند الصوفية، كما اعتقد الإمام ابن القيم، بل هو مرحلة انتقالية لا بدَّ أن تُكلَّل بمقام البقاء أو "الفرق الثاني"، الذي يعني "شهود الكثرة الخلقية في الوحدة الحقِّية، وشهود الوحدة الحقِّية في الكثرة الخلقية، من غير احتجاب بأحدهما عن الآخر – وهو مقام "الاستقامة"، على حدِّ تعبير ابن عربي. والغريب حقًّا أن يمتدح ابن القيم ذلك المقام، دون يذكر أن ذلك عين ما دعا إليه ابن عربي، فيقول: فأولى الناس بالله وكتبه ورسله ودينه أصحاب الفرق في الجمع، فيقومون بالفرق بين ما يحبه الله ويبغضه [...]، مع شهوده الجمع لذلك كلِّه في قضائه وقدره ومشيئته الشاملة العامة، فيؤمنون بالحقيقة الدينية والكونية، ويعطون كلَّ حقيقة حظَّها من العبادة. فحظ الحقيقة الدينية القيام بأمره ونهيه[95]، وحظ الحقيقة الكونية إفراده بالافتقار إليه والاستعانة به والتحقق بأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن. فلهذه الحقيقة عبودية، ولهذه الحقيقة عبودية، ولا تُبطِلُ إحداهما الأخرى، بل لا تتم إلا بها. فبمقارنة ما قاله ابن القيم مع ما قاله ابن عربي في تلك المسألة الشائكة، يتضح جليًّا أنهما متفقان تمام الاتفاق ! غير أن الإمام ابن القيم، وإن كان قد قبل وحدة الشهود أو ما يسميه "الفناء عن شهود السوى"، فإنه يرفض رفضًا قاطعًا وحدة الوجود التي يطلق عليها لفظ "الفناء عن وجود السوى"، بحجة أنه "فناء الملاحدة القائلين بأنه ما ثم غير، وبحجة أنهم يشهدون وجود العبد عين وجود الرب، بل ليس عندهم في الحقيقة رب وعبد"، وأنهم "يجعلون الأمر والنهي للمحجوبين، وأنهم يدعون إلى رفع الطاعات والمعاصي لأنها تستلزم اثنينية وتعددًا، وتستلزم مطيعًا ومطاعًا وعاصيًا ومعصيًّا. وهذا عندهم محض الشرك، يأباه التوحيد المحض" وإذا كان قد تبين لنا مما سبق أنه لا ابن عربي ولا غيره من الصوفية المسلمين دعوا إلى مثل هذه الأفكار الخطيرة، أمكن لنا أن نستنتج مدى ثقل الاتهامات التي كالها ابن القيم لابن عربي وغيره من الصوفية الذين وصفهم بـ"الاتحاديين الملحدين". بناءً على ما سبق، يمكن لنا القول إن وحدة الشهود ("الفناء عن شهود السوى" ) التي تحصل في مقام الجمع والفناء ما هي إلا مرحلة تمهيدية لوحدة الوجود ("الفناء عن وجود السوى" ) التي تحصل في مقام البقاء؛ إذ لا يذوق السالك وحدة الوجود إلا إذا ذاق وحدة الشهود، وهذا خلافًا لما ذهب إليه بعض المفكرين من أن هناك فرقًا بين وحدة الشهود، التي هي تجربة روحية، وبين وحدة الوجود، التي ما هي إلا مجرد نظرية فلسفية نبعت من الاتحاد والحلول وبدأت من حيث انتهى إليه التصوفُ السنِّي وقد تتداخل المصطلحاتُ في مذهب ابن عربي، وتتعدد السبلُ السلوكية في فكره التربوي، لكنها تؤدي جميعًا إلى الوحدة الوجودية التي نادى بها. وهي وحدة لا تُنال إلا بخوض التجربة الصوفية، شريعةً وحقيقة. وقد عبَّر أحد مشائخ الصوفية، وهو الشيخ حسن رضوان (1239–1310هـ )، عن تلك التجربة كما عاشها، فقال: إذا مَنَّ الحق تعالى على عبد من عباده، واصطفاه بصفاء نفسه من كدورة التعلق بما سواه، وطهَّره من جنبات غفلاته ورعونات شهواته، حتى أفناه به في حقِّ اليقين، وبلغ بذلك مرتبة جمع الجمع، ولحقت نفسُه بعالمها العلوي الأصلي، قامت به حينئذٍ رقيقةٌ لطيفةٌ ذاتيةٌ حقِّيةٌ مفاضةٌ من جانب الحق تعالى بفيض رحمانيته، ينكشف له بها سرُّ سريان الوجود الحق في جميع ذرات الممكنات، وسرُّ تجلِّيات الأسماء والصفات، وظهورُه في كلِّ مظهر بحسب استعداده، كشفًا إيمانيًّا وذوقًا روحانيًّا وفيضًا إحسانيًّا، فيرى الحق في الخلق والخلق بالحق – وهذا هو مشهد كُمَّل العارفين المحقِّقين. . الراجعون للخلق وغير الراجعين إن الحديث عن الفناء يقودنا إلى البحث في مشكلة ذات طابع نفسي واجتماعي، حيث تصوَّر بعضُهم أن ذلك المقام الذي يدعو إليه الصوفية هو حالة مرضية سلبية تؤدي إلى العزلة والانسحاب من الحياة الاجتماعية، فضلاً عن مخاطرها الأخلاقية. غير أن ابن عربي أكَّد، كغيره من الصوفية، أن مقام الفناء مرحلة عرفانية ضرورية يتطلَّبها السلوك: إذ "لا بدَّ لمن أراد أن يعرف مراتب الوجود أن يدخل إليها؛ وفي الدخول فيها حلٌّ لتركيبه، وفناءٌ عن ذاته، حيث إن كلَّ مرتبة وجودية تطلب مناسبتها منه، إلى أن ينتهي إلى رتبة الحق. ثمَّ لا بدَّ له بعد ذلك أن يرجع إلى البقاء وقد أحاط بالحقائق علمًا. فالفناء، إذن، ليس نهاية معراج الصوفي حتى نقول إنه انسحب بسببه من الحياة وانعزل عن المجتمع، وإنما هو فترة مؤقتة يتطلبها السلوك، ولا بدَّ أن يكون بعده ما يُسمَّى بـ"مقام البقاء"؛ و"كل فناء لا يعطي بقاءً لا يعوَّل عليه" لأنه حالة ناقصة. ولذا اختلفت أحوال السالكين: فمنهم الراجعون إلى مقام البقاء بعد الانمحاق في الفناء، ومنهم غير الراجعين: أ. فغير الراجعين من السالكين "عباد فاجأهم الحق على غفلة منهم، دون أن يكون لهم استعداد لما تجلَّى به عليهم، فأخذهم إليه وذهب بعقولهم في الذاهبين، ولم يردهم إلى العالم وشغلهم به"، و"أبقى عليهم ذلك الأمر الذي فاجأهم مشهودًا له فهاموا فيه، ومضوا معه، فبقوا في عالم الشهادة بأرواحهم الحيوانية يأكلون ويشربون ويتصرفون في ضروراتهم الحيوانية تصرف الحيوان المفطور على العلم بمنافعه المحسوسة ومضاره، من غير تدبير ولا روية ولا فكر، فينطقون بالحكمة ولا علم لهم بها، ولا يقصدون في ذلك نفع الناس". أما التكليف فقد سقط عنهم؛ إذ ليس لهم عقول يفقهون بها. وهؤلاء يطلق عليهم ابن عربي اسم "البهاليل" أو "عقلاء المجانين"، لأن "جنونهم لم ينجم عن فساد مزاج، وإنما كان عن تجلٍّ إلهي لقلوبهم وفجأة من فجآت الحق ومتى ما عاد للواحد منهم عقلُه، وصحا من سكره، عاد إلى التكليف من حينه ولازم الآداب الشرعية ب. الراجعون للخلق: يؤكد ابن عربي أن هذا النوع السابق معذور في أحواله، ولا تكليف عليه مادام في تلك الحال، لكنه غير كامل ولا يصلح للتربية الصوفية: إذ إن كمال الوارث النبوي الرسالي في الرجوع إلى الخلق ودلالاتهم على الله وإرشادهم. و"من أُبقِيَ عليه عقلُه كان عند القوم أتم وأعلى وهذا ما يتصف به كُمَّل السالكين الذين عادوا على مقام البقاء، فلا يحجبهم حق عن خلق ولا خلقٌ عن حق، فيشاهدون الوحدة في الكثرة والكثرة في الوحدة. وذلك أكمل الشهود، كما مرَّ بنا. وهؤلاء الراجعون على مراتب، وكل واحد منهم، إذا رُدَّ إلى الخلق بالإرشاد والهداية، لا يتعدى ذوقُه في أي مرتبة كان وقد تحدث ابن عربي عن مقام بلغَه، ففني فيه عن نفسه، لكنه لم ينتهك فيه حرمةَ الشريعة ولا أخلَّ بشيء من فروضها – وتلك حال قلما تحدث للسالكين –، فقال: ولقد ذقت هذا المقام، ومرَّ عليَّ وقتٌ أؤدي فيه الصلوات الخمس إمامًا بالجماعة، على ما قيل لي، بإتمام الركوع والسجود وجميع أحوال الصلاة من أفعال وأقوال، وأنا في هذا كلِّه لا علم لي بذلك، لا بالجماعة ولا بالمحلِّ ولا بالحال ولا بشيء من عالم الحسِّ، لشهودٍ غَلَبَ عليَّ، غبت فيه عني وعن غيري. وأُخبِرْتُ أني كنت، إذا دخل وقتُ الصلاة، أقيم الصلاة وأصلِّي بالناس، فكان حالي كالحركات الواقعة من النائم ولا علم له بذلك. فعلمت أن الله حفظ عليَّ وقتي ولم يَجْرِ على لساني ذنب. [...] إلا أني كنت في أوقات حال غيبتي أشاهد ذاتي في النور الأعم والتجلِّي الأعظم بالعرش العظيم يصلِّي بها، وأنا عري عن الحركة بمعزل عن نفسي، وأشاهدها بين يديه راكعةً وساجدة، وأنا أعلم أني أنا ذلك الراكع الساجد كرؤية النائم، واليد في ناصيتي. وكنت أتعجب من ذلك وأعلم أن ذلك ليس غيري ولا هو أنا. . ضرورة التكامل بين الشريعة والحقيقة عند ابن عربي لقد كان ابن عربي حريصًا على المحافظة على الشريعة في نفسه، وفي تربيته لمريديه، تشهد بذلك سيرتُه وأفكارُه التي ضمَّنها كتبَه. فهو يؤكد على أن الشريعة أصل والحقيقة فرع عنها؛ بل لا يمكن الحديث عن الحقيقة في غياب الشريعة. ولذلك انتقد في شدة مَن يذهب إلى الفصل بينهما، فقال: تخيَّلَ مَن لا يعرف أن الشريعة تخالف الحقيقة. وهيهات لما تخيلوه ! بل الحقيقة عينُ الشريعة. فإن الشريعة جسم وروح: فجسمها علم الأحكام، وروحها الحقيقة. فما ثمَّ إلا شرع. وقد كان حريصًا على بناء فلسفة أخلاقية إسلامية محضة، مُفادها وضع الأخلاق في محالِّها بمراعاة رضا الخالق، لا رضا الناس. إذ ليس في وسع الإنسان، لا عقلاً ولا عادةً، أن يسَعَ الناسَ بمكارم أخلاقه، لأن أغراضهم وإراداتهم مختلفة ومتضادة. فتعيَّن عليه، خاصةً إذا كان صوفيًّا، أن يترك هوى نفسه، ويرجع إلى خالقه، ويتَّبع مراضيه، ويقف عند حدوده ومراسمه. فإذا استطاع أن يفعل ذلك، فقد حقَّق مقامًا عظيمًا يدعى "مقام الفتوة ففلسفة الأخلاق تقوم عنده على الحكمة الشرعية، إلى غاية أن معاملة الناس بالأخلاق تقتضي وضعها في مواضعها، كما نصَّ عليها الشرعُ الحنيف، لا كما يقتضيه هوى الإنسان. لذا يحتاج الصوفي إلى علم كبير، حتى يضع كلَّ خلق في محلِّه الذي يليق به عن أمر الله، فيكون ذلك قربة له إلى الله: فلأجل هذا تنزَّلت الشرائع لتبيِّن للناس محالَّ أحكام الأخلاق. مثال ذلك قول الله تعالى: "فلا تخافوهم" (آل عمران 175 )، فأبان عن المحلِّ الذي ينبغي أن لا يظهر فيه خلق الخوف، ثم قال: "وخافونِ"، فأبان لهم أين ينبغي أن يظهر حكمُ هذه الصفة: وكذلك سائر الأخلاق، أبان الله لنا حيث نُظهِرها وحيث نمنعها. فإنه من المحال إزالتها عن هذه النشأة إلا بزوالها، لأنها عينها، والشيء لا يفارق نفسه. وفي إحدى رسائله، يقدم ابن عربي جملةً من الحكم التربوية للسالكين، يحذِّرهم فيها من مغبة البعد عن الشريعة، منبهًا إياهم أن كلَّ سلوك غير مستند على الشرع الإسلامي هو سلوك مرفوض ولا يعوَّل عليه في طريق التصوف. يقول في ذلك: خرق العوائد والمزيد من الفوائد، مع استصحاب المخالفات، لا يعوَّل عليه. كل علم من طريق الكشف [...] أو حقيقة تخالف شريعةً متواترةً لا يعوَّل عليه. كل خرق عادة يكون عن استقامة أو يُنتِج استقامة فهي كرامة، وإلا فلا يعوَّل عليها. التصوف بغير خُلُق لا يعوَّل عليه. نظر الخلق بعين الحق مع التسليم لا يعوَّل عليه. التسليم الذي يخرج عن مراعاة الحدود لا يعوَّل عليه فبهذه الفلسفة التربوية كان ابن عربي يربِّي مريديه. ومما لا شك فيه أن الفحص عن هذه القواعد، وعن غيرها، يجعلنا ندرك حجم الخطأ الذي يقع فيه بعضُ الدارسين حينما يتسرعون في الحكم على ابن عربي و يذهبون إلى حدِّ القول بأن الطاعة والمعصية ليس لهما مدلول حقيقي في مذهبه، وبأنه لا وجود لأية أخلاق على أساس من الشريعة في نظريته لقد أنشد ابن عربي: ما نال مَن جعل الشريعةَ جانبًا شيئًا، ولو بلغ السماءَ منارُه فهل بعد هذا الإقرار من تعليق؟ ! . فكرة "الأعيان الثابتة" وعلاقتها بالمشكل الأخلاقي إن "الأعيان الثابتة"، في نظر ابن عربي ومن نحا نحوه، تعني "حقائق الممكنات في علم الحق تعالى وتُسمَّى، في اصطلاح المحقِّقين من الصوفية، "أعيانًا ثابتة" و"استعدادات" و"حقائق علميةوباصطلاح الحكماء "ماهيات"، وباصطلاح الأصوليين "معدومات" و"أشياء ثابتة. وعلى هذا الأساس، يكون كل ما يحدث في العالم مبرمَجًا برمجةً مسبقة؛ وما يحدث للإنسان وما يصدر عنه ما هو إلا نتائج "عينه الثابتة" في الحقيقة الأزلية، لأن "ماهيات" الموجودات أو "الأعيان الثابتة" موجودة منذ الأزل في العقل الإلهي، ولأنها هي الحق، لا غيره، ولأن ظهورها على مسرح الوجود معناه ظهور الذات الإلهية الواحدة في مجلى الوجود الخارجي، حسبما تقتضيه طبيعة الأعيان. وهذا معنى ما قاله ابن عربي: "ما كنت به في ثبوتك ظهرتَ به في وجودك. وهنا نتساءل: هل إن ابن عربي بذلك يقرِّر "جبرية" صارمة تحكم الوجود؟ وبأي شكل نتكلم على "تربية صوفية" في غياب حرية الإنسان؟ ! إن ابن عربي يرى أن مشيئة الله تابعة لعلمه، وعلمه تابع للمعلوم، والمعلوم هو الإنسان وأحواله في حال عينه الثابتة في الأزل: "فليس لعلم الله أثر في المعلوم، بل حال المعلوم يعطي للعلم من نفسه ما هو عليه في عينه الثابتة" – وهذا هو معنى القضاء وسر القدر. فالإنسان وجميع الكائنات "غذاء الحق بالأحكام"، لأن الوجود الحق إنما يظهر بصور أحكام عين الكائن؛ و"الحق هو غذاء الكائنات بالوجود"، حيث لا تظهر إلا بوجوده. بهذا يبتعد ابن عربي عن القائلين بالجبر، لأن الكائنات عنده هي التي اختارت مصائرها بحسب ما فيها من استعدادات، فأعطت لله العلمَ من نفسها، فكان قضاءُ الله فيها طبقًا لذلك العلم: فمَن كان مؤمنًا في ثبوت عينه وحال عدمه، ظهر بتلك الصورة في حال وجوده؛ وقد علم الله منه أنه هكذا يكون، فلذلك قال: "وهو أعلم بالمهتدين". فلما قال مثل هذا قال أيضًا: "ما يبدل القول لدي" لأن قولي على حدِّ علمي في خلقي، "وما أنا بظلاَّم للعبيد"، أي ما قدَّرتُ عليهم الكفر الذي يُشقيهم، ثم طلبتهم بما ليس في وسعهم أن يأتوا به؛ بل ما عاملناهم إلا بحسب ما علَّمناهم، وما علَّمناهم إلا بما أعطونا من نفوسهم مما عليه – فإن كان ظلم فهم الظالمون. وبهذا المعنى شرح الأمير عبد القادر الجزائريت 1883 ) قوله تعالى: "إن الله لا يغيِّر ما بقوم حتى يغيروا ما بأنفسهم": أي أنه تعالى لا يغير حال قوم وينقلهم من حالة إلى حالة أدنى أو أعلى في الظاهر حتى يغيروا ذلك بأنفسهم، بمعنى يطلبون باستعدادهم في الباطن من الحق تعالى إيجاد تلك الحالة المنتقَل إليها، وهو معنى التغيير: فليس للحق تعالى إلا إعطاء الوجود لتلك الحالة المنتقَل إليها بطلبهم الاستعدادي. [...] فما حَكَمَ عليهم غير أنفسهم. و"الممكن في شيئية ثبوته حر. فإذا خرج من عندية الحق فَقَدَ حريته وخضع لجبرية استعداده الأزلي. ومعنى ذلك أن العبد يحكم باستعداده الأزلي على نفسه بنفسه، وهو مسؤول من هذه الجهة عما يصدر عنه من أفعال، لأنه خاضع لطبيعته الخاصة التي اقتضتْها طبيعةُ عينه الثابتة؛ وبالتالي، يصبح مسؤولاً تمام المسؤولية عما يصدر منه، فلا يحمد إلا نفسه ولا يذم إلا إياها. وما بقي للحق تعالى إلا حمد إفاضة الوجود لأن ذلك له، لا للمخلوق: [...] فما استقلَّتِ القدرةُ بالإيجاد دون استعداد الممكن، ولا استقلَّ استعدادُ الممكن دون القدرة الإلهية بالإيجاد – وهذا سارٍ في كلِّ ممكن. . شهود الأمر التكويني والأمر التكليفي مشهد الأمر التكويني: بيَّن ابن عربي أن العارف تكمل معرفتُه بإطَّلاعه على عينه الثابتة؛ وذلك لا يتسنى له إلا برجوعه إلى العدم الأصلي عن طريق الفناء. فإذا أدرك ذلك أدرك سرَّ القدر الذي هو "من أجلِّ العلوم، وما يُفهِمُه الله إلا لمَن اختصَّه بالمعرفة التامة" وقد مرَّ بنا أن السالك في مقام الفناء يشهد أحدية العين، فلا يرى معصيةً ولا طاعة، بل "يشاهد أن الطائع والعاصي كلاهما على صراط ربِّه، ما عدل أحد منهما على علم الله منه وعما اقتضتْه عينُه الثابتة". لذا قال الشيخ الأكبر واصفًا هذا المشهد: ومن هذا نعلم أن كلَّ حُكم ينفذ اليوم في العالم أنه حُكم الله، وإنْ خالف الحُكمُ المقرَّرَ في الظاهر المسمَّى شرعًا؛ إذ لا ينفذ حُكمٌ إلا لله في نفس الأمر، لأن الأمر الواقع في العالم إنما هو على حُكم المشيئة الإلهية، لا على حُكم الشرع المقرر فإن الأمر الإلهي، إذا خولف هنا بالمسمَّى معصية، فليس إلا الأمر بالواسطة، لا الأمر التكويني. فما خالف الله أحدٌ قط في جميع ما يفعله من حيث أمر المشيئة، فوقعت المخالفةُ من حيث أمر الواسطة. ولقد علمنا فيما سبق أن مشهد "الأمر التكويني" لا يكون إلا في حالة الجمع والفناء، وهو ليس غاية في السلوك؛ ولذلك يُخاف على المريد فيه أخلاقيًّا وعقائديًّا. مشهد الأمر التكليفي: فإذ كان السالك في مقام الجمع قد شهد "الأمر التكويني" الذي لا فرق فيه، فإنه مطالب بالعودة إلى مقام البقاء، حيث يشهد الفرق الشرعي، فيميز بين الطاعة والمعصية. وهذا هو "الأمر التكليفي" الذي جاءت به الشريعة واقتضتْه المراسيمُ الاجتماعية. ولقد رأينا فيما سبق أن سلوك العارف لا يكتمل إلا إذا فرَّق في جمعه وجمع مفروقه، وإلا خسرت صفقتُه، فكان من المتزندقين. ولذا قال ابن عربي في إحدى لطائفه ناصحًا مريده: إذا كنت في عين الجمع والوجود فقل: "كل من عند الله." وإذا كنت في عين التفرقة فقل: "وما أنسانيه إلا الشيطان." وكل قول في موضعه أدبٌ مع الحق. وقد نبَّه ابن عربي إلى قضية خطيرة، وهي اللبس الذي يقع للكثيرين حين لا يفرقون بين الأمرين التكويني والتكليفي، فيعتقدون أن الرضا بالقضاء يستلزم الرضا بالمقضي، حتى ولو كان شرًّا ومعصية. يقول: لا يلزم الراضي بالقضاء أن يرضى بالكفر والمعاصي والمخالفات؛ فإنها كلَّها معصية، ما هي عين القضاء. والشارع أمرَنا بالرضا بالقضاء لا بالمقضي. [...] وليس لك أن تقول: "رضيتُ بما قضى الله لي من المخالفات. فشهود الأمر التكويني يقتضي الرضا بالقضاء الشامل للكائنات كلِّها. أما شهود الأمر التكليفي الشرعي فيقتضي وزن المقضي بميزان الشرع والأخلاق: فإن كان موافقًا لها قُبِلَ، وإن كان مخالفًا لها رُفِض. وهو عين ما ذهب إليه ابن القيم في قوله: فحظ الحقيقة الدينية القيام بأمره ونهيه....] وحظ الحقيقة الكونية إفراده بالافتقار إليه والاستعانة به [...] والتحقق بأنه ما شاء كان وما شاء لم يكن. [...] فلهذه الحقيقة عبودية، ولهذه الحقيقة عبودية؛ ولا تُبطِلُ إحداهما الأخرى، بل لا تتم إلا بها. خاتمة هكذا نصل في ختام هذا المقال إلى أن ابن عربي لم يتوصل أبدًا إلى إسقاط التكاليف، ولم يحدث أن تدنَّى في تصوفه إلى درجة نادى فيها بالحلول والاتحاد؛ بل إنه كان متبرئًا من القائلين [...] بوحدة الوجود من الجهلة الغافلين والزنادقة الملحدين، الزاعمين بأن وجودهم المفروض المقدَّر هو بعينه وجود الله تعالى، ليستدلوا بذلك على إسقاط الأحكام الشرعية عنهم وإبطال الملَّة المحمدية وإزالة التكليف عن نفوسهم. لقد كانت فلسفته التربوية قائمةً على أسُس صوفية إسلامية محضة. ولقد كان في حياته ملتزمًا بالأخلاق الإسلامية، ضاربًا بتجربته الروحية في أغوارها، عارفًا بظاهرها وباطنه. ولعل صعوبة كتبه هي التي دفعت بالعلماء إلى أن يتفرقوا في شأنه شيعًا، ويسلكوا في أمره طرائق قددًا: فذهبت طائفة إلى أنه "زنديق" وقال فيه قومٌ إنه "واسطة عقد الأولياء و"رئيس الأصفياء لقد كان ابن عربي في تنظيره الأخلاقي إنسانيًّا إلى أبعد مدى، فكان يدعو إلى التعامل مع البشر وفق ميزان إسلامي راقٍ.
سكينة عشوبة
|
|
2629 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|