|
|
|
|
|
أضيف في 16 مارس 2019 الساعة 42 : 16
قبل بداية الحديث عن التاريخ السياسى للإسلام منذ بدء الرسالة فى القرن السابع الميلادى وحتى انهيار الإمبراطورية (الخلافة ) العثمانية فى الربع الأول من القرن العشرين، لابد من إلقاء بعض الضوء على تاريخ شبه الجزيرة العربية قبل الإسلام. أهمية إلقاء هذا الضوء على هذه المرحلة ليس فقط لهدف علمى أو منهجى، ولكنه لهدف شعبى بالأساس، فالخطاب الإسلامى السائد فى الأوساط الشعبية هو اعتبار مرحلة ما قبل الإسلام مرحلة ظلام دامس بلا حضارة أو مقومات حياة عادلة، والحقيقة أن هذا غير دقيق، فالعالم عموما وشبه الجزيرة خصوصا عرفت الحضارة والعلم والفنون والعمارة والشعر والأدب قبل الإسلام، والملاحظ هنا هو ذلك الفرق الشاسع بين الرسالة النقية التى نشرها الرسول محمد (صلى الله عليه وسلم )ــ على الأقل كما يفهمها كاتب هذه السطور ــ وبين الخطاب الإسلامى الشائع، فلم يُعرف عن الرسول أبدا التقليل المعمم أو الانتقاص المجحف للحضارات السابقة على الإسلام، بل على العكس تماما، فقد أكد الرسول أن رسالة الإسلام «مكملة» و«متممة» للرسائل السابقة وهو أمر تغير مع الظروف التاريخية فعمد علماء المسلمون لاحقا ــ لأسباب ربما تتعلق بتدهور الحضارة الإسلامية أمام التقدم الغربى ــ إلى التقليل بل والحط من الحضارات والرسائل الأخرى وهى أمور قد أتناولها لاحقا. بل وحتى الآيات القرآنية التى استخدمت لفظ «الجاهلية» مثل (١٥٤ آل عمران، ٥٠ المائدة، ٣٣ الأحزاب، ٢٦ الفتح )، فقد جاءت هذه الآيات جميعا لتتحدث عن مواقف بعينها، من أجل التصحيح وفقا للرسالة الإسلامية وهو أمر بعيد كل البعد عن الحط من حضارات الآخرين كما اعتادت الخطب الإسلامية أن تفعل. *** قبل نزول الرسالة الإسلامية فى القرن السابع الميلادى، كانت منطقة شبه الجزيرة العربية تمر بمراحل صعود وهبوط قبل وبعد المسيح، جنوب الجزيرة العربية (اليمن وبعض مناطق عمان حاليا ) عرفت العديد من الحضارات القديمة مثل سبأ وحمير ومأرب، كانت حضارات متقدمة ومساهمة بشدة فى التطور الإنسانى والحضارى بمعايير عصرها، بينما كان شمال شبه الجزيرة (المسكون بالقبائل العربية ) أقل تقدما وحضارة بسبب قسوة الطقس وظروف البيئة الصحراوية والتنقل والترحال الدائم للبدو. ورغم ذلك وبعد ثلاثة قرون من نزول المسيحية فإن شمال شبه الجزيرة العربية كان فى تقدم وتحضر مستمر، فمع القرن الثالث الميلادى نظم العرب أنفسهم وقاموا بإنشاء الجيوش وتنظيم حركة التجارة وبناء اقتصاد أكثر تطورا من خلال شبكة مواصلات بدائية، وعرف العرب وقتها الشعر ونظموا المهرجانات الثقافية كما عرفوا الحج نحو مكة وإن ظلت علاقتهم بممالك الجنوب مضطربة. كانت تجارة العبيد هى البضاعة الأكثر رواجا فى تلك الفترة كما كانت فى مناطق أخرى من العالم، لكن كانت الأديان الإبراهيمية تسهم كثيرا فى ضبط علاقات المجتمعات العربية وغير العربية فى شبه الجزيرة، فانتشار المسيحية واليهودية فى الكثير من المناطق الشمالية والشرقية والجنوبية لشبه الجزيرة كان من أهم ملامح التطور الحضارى للسكان فى تلك المنطقة، فعرف العرب مفهوم التوحيد والكتب المقدسة والصلوات المنتظمة وبدأت هويات دينية جديدة تتشكل إلى جانب الهويات القبلية أو العصبية. ورغم ذلك، فلم تتمكن هذه الهويات الجديدة من إعادة تنظيم المجتمع سياسيا واقتصاديا وثقافيا بشكل جذرى كون أن الرسالتين اليهودية والمسيحية إما تميزت بالمحدودية والانتقائية فى الدعوة (اليهودية )، أو التركيز على الجوانب الروحية دون السياسية أو المجتمعية (المسيحية )، ومن هنا فلم تتمكن هذه الديانات من توحيد شبه الجزيرة أو تقديمها كقوة عظمى تنافس الحضارات والإمبراطوريات المجاورة (الإمبراطورية الفارسية فى الشرق، والبيزنطية فى الشمال وحمير فى الجنوب ). *** قبل نزول الرسالة الإسلامية مباشرة كانت التركيبة المجتمعية لمنطقة شبه الجزيرة شديدة الهيراركية والقبلية، فقد كان الانتماء القبلى أهم بكثير من الانتماء الدينى، فبقدر قوة وأهمية قبيلتك بقدر ما قد تتمكن من تحقيقه فى المجتمع. كانت مكة أيضا واحدة من أهم مدن غرب شبه الجزيرة العربية وكانت مركزا للتجارة والمواصلات والتبادل الثقافى فى تلك الفترة، فى تلك الأجواء ظهر الرسول مبشرا بدعوته فى عمر الأربعين وقد كان له من المكانة ما كان لقبيلته (قريش ) غير أن الرسول نفسه لم يكن سوى رجل عادى لم يكن معروفا بالسطوة والجاه بقدر ما كان معروفا بالأمانة والصدق والتواضع وقطعا رفض عبادة الأوثان. ورغم أن الرسول محمد كان لا يقرأ ولا يكتب (رغم أن بعض الكتابات التاريخية غير الإسلامية تشكك فى تلك الحقيقة )، إلا أنه كان شخصا يتسم بسعة الأفق وبعد النظر والحس السياسى. فلأنه كان يعرف جيدا أن مجتمعا بهذه التقاليد وهذه الهيراركية وهذه العصبية وهذه الحياة القاسية من الصعب قلبه رأسا على عقب، فقد اتبع أسلوب التغيير التدريجى الذى انتهى بثورة غيرت من الأوضاع المجتمعية والاقتصادية كثيرا. *** لم تتعامل الرسالة الإسلامية مع العرب على أنهم مجرد مفعول بهم، كما أنها لم تنكر بعض ما حققوه من حضارة، ولم تغفل أبدا تقاليدهم ولا عاداتهم، فبدأت الدعوة سلمية، تعاملت بحرص مع مواضيع الخمر والإماء والعبيد والربا وغيرها من المحرمات الإسلامية، سعت إلى التماس عناصر القوة الحربية والسياسية بشكل تدريجى، فحينما اضطر الرسول أن يهاجر ضعيفا من مكة إلى المدينة لم يكابر أو يقاوم، وحينما ذهب إلى المدينة فقد عقد الصلح المشهور ووقع الدستور الشهير ــ يفضل الكاتب أن يسميه معاهدة لأن لفظ دستور به الكثير من التزيد والمبالغة ــ وعاش بجانب اليهود وغير المسلمين حتى تمكن من العودة إلى مكة فاتحا ومسيطرا. فى تقديرى فإن الحديث عن الغزوات كوسائل عنيفة للتغيير ومتناقضة مع المبادئ السلمية للرسالة الإسلامية، تغفل الكثير من الحقائق السائدة لهذه المرحلة التاريخية والتى لم تعرف سوى هذه اللغة فى التغيير، كان الرسول برجماتيا إلى أقصى مدى، وعرف من فنون السياسة ما مكنه من التغير والسيطرة وإقناع آلاف (لاحقا ملايين ومليارات ) البشر بالرسالة الإسلامية ومبادئها. لم يتعامل الرسول أبدا مع العرب غير المؤمنين برسالته على أنهم جهلة أو أنصاف بشر، بل احترم قوتهم ولغة بيئتهم واعترف بالحضارات السابقة للرسالة الإسلامية ولكنه عزم فى الوقت نفسه على التغيير والسيطرة وفرض منطق وثقافة جديدة غيرت ومازالت من تاريخ الحضارة البشرية. التعامل مع الرسول إذا على أنه مجرد قائد روحى أو دينى لا يمكن أبدا أن يمكننا من فهم فترة دعوته وحكمه، فقد كان قائدا دينيا وسياسيا فى الوقت ذاته، كان بشرا وليس ملاكا، كان حقيقيا وليس مصطنعا، كان من الأرض وقد عاد إليها ولم يكن من السماء، هذا كان سر التفوق والانتصار والنجاح وليس تلك الصفات العنترية الأسطورية التى يحاول مسلمو هذا العصر إلصاقها به ظنا منهم أنها تضفى المزيد من الهيبة على الإسلام ورسوله. ما قبل الإسلام لم يكن جاهلية تامة وما بعد الإسلام لم يكن عنجهية أو تكبرا أو فوقية كما يعتقد البعض، وهذا هو محور الحديث فى المقالة القادمة. حينما بدأ الرسول دعوته إلى الإسلام، فقد كانت الدعوة خاصة فى البداية، نشرها بين بعض المقربين الذين صدقوه ودعموه، لم يكن الأمر سهلا، حينما تأتى بعد المسيح بأكثر من ٦٠٠ عام وتبدأ فى الحديث عن دعوة جديدة وخصوصا فى منطقة مثل شبه الجزيرة العربية، فإن مهمتك لن تكون سهلة على الإطلاق، عرف الرسول ذلك، وجعل دعوته محدودة الانتشار. من الملاحظ أنه فى بداية عصر الوحى، لم يكن هناك أبعاد سياسية مباشرة للآيات القرآنية، بيد أن هذا البعد بدأ فى الانتشار تدريجيا بعد ذلك بسنوات قليلة. كان الرسول واضحا فى حديثه عن القرآن من زاويتين، الزاوية الأولى هو أن القرآن هو كلام الله مرسلا عبر الوحى وليس من صنع أو حتى من تحرير الرسول، ومن زاوية ثانية تمكن الرسول من رسم مساحتين مستقلتين للدعوة الإسلامية، المساحة الأولى هى كلام الله المقدس الذى حمله الوحى، والثانية هى مساحة الرسول نفسه كحامل ومبلغ وقائد للدعوة. كان الرسول حريصا (وهكذا يؤمن المسلمون ) على التأكيد على هذه الكيانات المنفصلة. يرى بعض المؤرخين أن هذا الفصل الذى كان واضحا منذ بداية الدعوة الإسلامية هو واحد من أهم أسباب تأثير الدعوة الإسلامية وانتشارها سريعا فى منطقة شبه الجزيرة العربية بعد سنوات قليلة من بداية الرسالة. الحقيقة أن هذا الفصل كان بمثابة اختلاف (وربما ردا ) على المعتقد المسيحى الذى يرى أن الكيانين متداخلان أو مشتبكان. ومن هنا لم تكن دعوة الرسول نفيا لليهودية والمسيحية، بقدر ما كانت ــ من وجهة النظر الإسلامية ــ تصويبا وإكمالا للدعوتين. من حيث كونها تصويبا، فهى أعادت مفهوم الوحدانية الذى جعل كيان الإله متمايزا تماما عن كيان البشر، ورغم ذلك من الجدير بالذكر أن الإسلام أقر بمعجزة يسوع كونه من أم بلا أب، وبفكرة الرفع ــ القيامة فى المفهوم المسيحى ــ إلى السماء حتى وإن تباينت مع المسيحية فى بعض التفاصيل الخاصة بحادثة الصلب والموت، وكذلك فإن هناك اعتقادا إسلاميا بعودة المسيح. وأما من حيث كونها إكمالا، فقد حرص الإسلام على التأكيد على كونه رسالة مكملة للرسالات الإبراهيمية وأنه أيضا رسالة خاتمة فانقطع من بعدها الوحى. هذا هو البعد الدينى والعقيدى الجديد الذى أتت به الرسالة الإسلامية، لكن كانت هناك بعض الأبعاد الاجتماعية أيضا فى بداية الدعوة، فبالإضافة إلى مفهوم الوحدانية والتأكيد على عودة البشر إلى الله من أجل الحساب فى اليوم الآخر، وعلى الوضعية الخاصة للرسول، فقد كلفت الرسالة المسلم بالدعوة إلى الله باعتباره واجبا دينيا وكذلك أكدت على بعد التكافل الاجتماعى عن طريق تكليف الغنى بمساعدة الفقير. بيد أنه وبعد سنوات قليلة من بداية المجاهرة بالدعوة، فقد ظهر سريعا البعد الأشمل للرسالة الإسلامية بالتركيز على بعض القيم المرتبطة بأبعاد سياسية وقانونية واجتماعية واقتصادية لمجتمع مرجو رسمته الدعوى الإسلامية فى أيامها الأولى، فقد رسمت نظاما قانونيا أساسه «العدل» ونظاما اقتصاديا أساسه «عدم الاستغلال» ونظاما اجتماعيا قائما على «التكافل» ونظاما سياسيا قائما على «القوة«و «العهد» و«التعددية». وهكذا فقد وازنت الرسالة الإسلامية بين تفهم ظروف البيئة التى نزلت بها، وبين الرغبة فى التصحيح والتغيير من خلال طرح قيم جديدة أثارت اعتراضات ورفض وجهاء المجتمع العربى وقتها ودفعتهم لمحاربة الرسالة وهو أمر متوقع من الناحية المنطقية على الأقل، فقد كانت الرسالة الإسلامية دعوة مباشرة ــ حتى وإن كانت هادئة وتدريجية ــ للتغير وإقامة نظم اجتماعية وسياسية واقتصادية جديدة. كانت الهجرة من مكة إلى المدينة هى بمثابة التحول التكتيكى الأهم فى التاريخ السياسى للمسلمين، فمن ناحية كان قرارا براجماتيا لتجنب ضياع الرسالة والحفاظ عليها والوقوف فى وجه قوى أكبر مع قوة المسلمين فى ذلك الوقت، ومن ناحية فقد كان قرارا سياسيا سهل كثيرا من عملية وحدة المسلمين والتآلف بينهم، ومن ناحية ثالثة كان قرارا استراتيجيا لأنه ساهم فى انفتاح الرسالة الإسلامية على الديانات والقبائل الأخرى التى قبلت بالمعاهدة (دستور المدينة ) فبدأت تجربة سياسية توافقية أشبه بالاتحاد الفيدرالى فى العصر الحديث، تم تنظيم أمور الدفاع والقضاء والسياسية والاقتصاد فيها. وهكذا فإن أول تجربة لإقامة كيان سياسى له طابع إسلامى، تجربة تعددية توافقية وهو ما يمكن تقريبه لفكرة الليبراليةــمع علم الكاتب التام بفارق المحتوى نتيجة لفارق المدى الزمنى. أصبحت الدعوى الإسلامية أكثر قوة وصلابة ووحدة خلال سنوات قليلة أثبت فيها الرسول مهاراته السياسية وتمكن من تثبيت الدعوى اجتماعيا وسياسيا حتى نقضت قريش العهد فكان التوقيت المناسب للعودة إلى مكة وتحقيق انتصار حربي وسياسي كان بمثابة الإعلان الرسمى عن بداية إمبراطورية كبيرة تفوقت بعد سنوات على الإمبراطوريتين الفارسية والبيزنطية. كانت معظم الغزوات الحربية فى بداية عهد الإسلام دفاعية ثم تحولت بالتدريج إلى هجومية وكان هذا هو المعيار الوحيد للقوة والسيطرة فى ذلك العهد، وهنا كان الرسول حاضرا كقائد وزعيم سياسى وحربى بالأساس بجانب كونه القائد الدينى، فبدأ الإسلام يجذب المزيد من التابعين، المهمشين والفقراء والأجانب، وجهاء القبائل وسادتها، أبناء وأخوات التجار فى الجزيرة العربية. فى خلال عقود قليلة نجحت الرسالة الإسلامية فى تحقيق الكثير من المكاسب، فقد تمكنت أولا من جذب الكثير من العرب إليها، بعضهم تخلص من التهميش وحصل على الحقوق الاجتماعية والاقتصادية التى كان محروما منها، وبعضهم وجد فى الإسلام ورسالته فرصة للارتقاء السياسى، لكن لا يشك المؤرخون أبدا فى أن السبب الأول والأهم فى الإيمان بالرسالة هو تصديقها وتصديق رسولها. ثم أنها ثانيا صنعت هوية جديدة للعرب تمكنت من تحدى الهويات القبلية والعشائرية مما ساهم لاحقا فى صنع حضارة كبيرة ومؤثرة سيطرت على نصف العالم القديم، كما أنها ثالثا وضعت الإسلام على طريق العالمية، باعتباره رسالة للناس جميعا تهدف للإخاء بينهم بغض النظر عن أجناسهم وأنسابهم وألوانهم. لكن بعد وفاة الرسول كان الاختبار الحقيقى للبعد السياسى للإسلام، مات الرسول، القائد الدينى والزعيم السياسى، مات رسولا لم يصنع الأساطير حول نفسه، ولد بشرا، عاش بشرا، ومات بشرا، فماذا يفعل المسلمون من بعده؟ هذا ما أتناوله في المقالة القادمة. المصادر : يعتمد الكاتب بالأساس على قراءة التاريخ الإسلامى من أكثر من مصدر ولعل أهمها: ــ تاريخ كامبردج للإسلام (الجزء الأول )، المحرر بواسطة بى أم هولت وآخرين، عن دار نشر جامعة كامبردج 2008. ــ تاريخ الانقسام السنى الشيعى، المحرر بواسطة تشارلز ريفر وجيسى هراستا، عن دار تشارلز ريفير عام 2014 ــ الإسلام: الدين، التاريخ، والحضارة لسيد حسين نصر،
بقلم يونس العمراني
|
|
2279 |
|
0 |
|
|
|
هام جداً قبل أن تكتبو تعليقاتكم
اضغط هنـا للكتابة بالعربية
|
|
|
|
|
|
|
|