لم يتجرع حاكم في التاريخ الذل مثلما تجرعه السلطان العثماني بايزيد الأول، فلم يكتف القائد المغولي تيمورلنك بهزيمته والقضاء على جيشه، بل أسره في قفص حديد وضعه داخل قصره، ليجبره على أن يشاهد زوجته دسبينا خاتون مجرد جارية عارية تقدم الطعام والشراب، وترقص أمام الجميع فمات غما وكمدا عليها في العام 1403م.
نهاية طبيعية لحاكم أطاح بكل القيم الإسلامية لإرضاء نزواته الشخصية، وأنفق ثروات بلاده على الملذات والمجون.
البداية الحمراء
في العام 1389، وعقب معركة كوسوفو التي قتل فيها الوالد السلطان مراد الأول اشتعل الصراع المعتاد على العرش العثماني بين ولديه بايزيد ويعقوب بك ، وانتهى بانتصار الأول وقتله لأخيه في سبيل الملك، هكذا افتتح بايزيد عهده الذي شهد الكثير من سفك دماء معارضيه وكل من وقف في وجه سلطته الغاشمة.
وبعد أن استتب الأمر له في القصر ببورصة عاصمة العثمانيين وقتذاك، حول بايزيد مجالسه الخاصة إلى خيام حمراء، وراح يجبر المشايخ على تحليل المحرمات ليفعل ما يحلو له دون أن يجد من يردعه،فالشاب الذي وجد نفسه سلطانا على الدولة في سن الثلاثين تملص من الأحكام الشرعية والفقهية، واعتبرها تضييقا على حريته، ووجد ضالته في احتضان الفرق والمذاهب الدينية الضالة التي أمطرته بسيل من البدع والافتراءات.
خطب ود شيوخ "الطريقة البكتاشية" الذين أجازوا قتل الإخوة من أجل الوصول للعرش، وأحلوا له شرب الخمر والمسكرات بجميع أنواعها، بحجة أنها مدد روحاني من السماء ! لم تكن الخمور وحدها هي ما وقع في غرامها بايزيد الأول، لكنه تخطاها إلى ممارساته الجنسية الشاذة، والمجاهرة بها، وهو ما ذكره المؤرخ عاشق باشا زاده في كتابه تواريخ آل عثمان بقوله:"كان السلطان بايزيد الأول يحب عيش وعشرت". تعني "يحب حياة السفاهة والخمر والمجون".
لكن.. من الذي جرأه على فعل المنكرات؟
إنها زوجته ماريا وقائده المقرب جاندارلي علي باشا، أقنعاه بشرب الخمر، فلم يفارق الكأس يده، وفي عهده أصبحت الدولة العثمانية سلطنة السكارى والماجنين، خاصة بعد أن جعل الخمر والحشيش مشروبين رسميين، وقرب منه الفاسقين والمنحرفين أخلاقيا، وجعلهم حاشيته ورفعهم إلى مجلسه.
ماريا دسبينا
تزوج بايزيد من ماريا دسبينا بنت لازار ملك الصرب عام 1391، وجدت الفرصة سانحة للانقضاض على السلطة وتوجيه السياسة العثمانية من داخل أروقة الحرملك، مستغلة فجوره فتلاعبت به، وغمرت قصره بالأوروبيات من بني جنسها لتضمن ولاء الجواري، ونشرت الرذيلة بين أمراء آل عثمان وأشرفت على الليالي الحمراء، وجمعت حوله سفهاء الأتراك، أما وزيره جاندارلي فقد تولى تنظيم حفلات شرب الخمر، وكان صديقاه خاصكي محمود بك وعبدالرحمن بن مؤيد من أشهر رواد القصر، واصطفاهما لجلب الخمر والحشيش للبلاط العثماني.
سقاة الخمر
أنفق بايزيد أموال الرعية على نزواته وشهواته، وكلف وزيره باستيراد أشهر أنواع الخمور من الشرق وأوروبا، وفي سعيه الحثيث لنشر الخمور بالسلطنة راح يقدمها هدايا لرجال دولته، وعرف الفاسدون ولعه بالخمر فقدموا له منها أجود الأنواع الفرنسية، وأصبح سقاة الخمر الأكثر تواجدا في القصر العثماني، فكانوا يملأون ويوزعون الأقداح بحرية وعلانية على الأمراء والضيوف في حفلات القصر الماجنة.
كما تغزل بايزيد في الخمر وألقى قصائد شعر في مديحها وأمر بكتابتها بماء الذهب وعلقها على جدران قصره، ووصل به الأمر أنه أمر الولاة بنشرها في السلطنة، وأباح السلطان لقوات الإنكشارية شرب الخمور وفعل المنكرات والمجون، واعتبرها نوعا من الترفيه بشرط أن يقدموا فروض الطاعة له ويعاونوه في حروبه التوسعية.
خصص لهم مخازن للخمور بالمعسكرات ووزع عليهم حصصا أسبوعية من النبيذ مجانا، فأصبحت الجيوش العثمانية بؤرة للفساد الأخلاقي وضعفت همتها، فهجموا على القرى والمدن ليمارسوا عمليات نهب وسلب الممتلكات ثم باعوها ليشتروا بثمنها الخمور، وعانت الولايات العثمانية من مجونهم بعد أن عاثوا في الأرض فسادا وهتكوا أعراض النساء.
الغضب الشعبي
واكبت أفعال السلطان العثماني الماجن موجة من الغضب الديني والشعبي، انتشرت أنباء انحلاله وحاشيته، فقام رجال الدين بالتصدي لقرارات إباحة شرب الخمر، وشكلوا فيما بينهم وفدا قام بمقابلته وحذروه إن لم يأمر بالمعروف وينهى عن المنكر فسيتركون البلاد، فقابل تحذيرهم باستهزاء واستهتار وأمر بسجنهم قبل ان يقوم بنفيهم إلى الجبال.
سياسات بايزيد لم تُخف القاضي الملا فناري، فأفتى برد شهادة السلطان، لشربه الخمر وتركه صلاة الجماعة، واعتبره غير أهل للحكم وشبهه بالخوارج والزنادقة، وشدد على عدم طاعته هو وحاشيته ورجاله حتى يتوبوا ويطبقوا أحكام الشريعة الإسلامية بين الرعية.
التصرفات الماجنة لبايزيد لاقت رفضًا من عائلته، ويعد الأمير شمس الدين محمد الملقب بأمير سلطان، أشهر من رفضوا تلك الممارسات، وأمير سلطان هو عالم ومفكر إسلامي ومتصوف، تزوج من خوندي فاطمة خاتون بنت السلطان بايزيد،كره أمير سلطان من بايزيد سفهه ومجونه، وعرض عليه التوبة والإقلاع عن الرذائل، إلا أن بايزيد رفض النصيحة واعتبرها تدخلا في حريته الشخصية، فما كان من أمير سلطان سوى أن يقاطعه ويمنع زوجته فاطمة من زيارة والدها ثلاثة أشهر.
هزيمة مذلة
السلطان الماجن الذي انغمس في حياة الخلاعة، لم يستعد للخطر القادم من الشرق، فجيوش آسيا الوسطى تحركت تحت قيادة تيمور لنك بهدف إعادة إحياء إمبراطورية المغول، أطاح الغازي الأزوبكي بدول الشرق واقترب من حدود الدولة العثمانية، لم يهتم بايزيد بالاستعداد الكافي، لعب الخمر برأسه وتخيل قدرته على قهر غازي الشرق الذي انسحبت من أمامه قوات سلطان مصر والشام.
التقت جيوش بايزيد العثماني مع تيمور لنك في ساحة أنقرة العام 1402، وانتهت كما هو متوقع بهزيمة ساحقة لبايزيد، والذي وقع في أسر الغازي الأوزبكي، الذي تفنن في إذلال السلطان العثماني، عندما ألقى به في قفص حديدي، وأجبره أن يشاهد زوجته في أحضان الغازي تيمورلنك ويموت بايزيد الماجن كمدًا على ضياع ملكه وانتهاك عرضه.
المصادر:
من كتاب خليل اينالجيك تاريخ الدولة العثمانية من النشوء إلى الإنحدار
بقلم دكتور يونس العمراني