انطلقت الحملة الصّليبية من (فرنسا) في (أكتوبر 1096)، والتقى أفرادُها بالبابا (أوربان الثاني) في (لوكا) فعيّن مندوبيْن عنه؛ ولكن كم هو عدد الجيوش التي انطلقتْ نحو (بيت المقدس) من (فرنسا)، ومَن كان على رؤوس هذه الجيوش؟
* الجيش الأول تولّى قيادتَه (هيو كونت فرماندو)، وهو الابن الأصغر للملك (هانري الرابع)، ملك (فرنسا)..
*الجيش الثاني تولّى قيادتَه (غودي فري دي بوايون)، وهو كونْت (اللّورين السّفلى) شمالَيْ (فرنسا)..
* الجيش الثالث تولّى قيادتَه (بُوهيموند) النورماني..
* الجيشُ الرابع تولّى قيادتَه (ريموند الرابع)، وهو كونت (تولوز)، وتألّف جيشُه من فرسان جنوبي (فرنسا)، و(البروڤنسال)..
* الجيش الخامس تولّى قيادتَه (روبيرت) كونْت (النورماندي)، والكونت (ستيڤَن) وتألّف من الفرسان القادمين من غرب (فرنسا)..
لقد اتّصف الصليبيون الفرنسيون بالحماس الشديد، وبدا جليّا أنه لا حظّ لعالمٍ عربي مقسّمٍ بيْن سُنّة في (بغداد)، وشيعة في (مصر)، و(بيت مقْدس) ليستْ عليه حراسةٌ مشدّدة، وقد كان تحت سيطرة (العُبيْديين) في (مصر)، وكانوا أضْعَف من أن يواجهوا كلّ هذا العدد من الجيوش في عالم عربي مشتّت بيْن مذْهبين، وما زال كذلك إلى يومنا هذا.. ثم أتت الفتوى التي تبرّر (التّولي يوم الزّحف)، وهي من الموبقات السبع: [لِلبيت ربٌّ يحميه]؛ لكن لماذا لا يُقال بخصوص (بيت المال): [للبيت ربٌّ يحميه]؟ وهكذا؛ فبعد سقوط [الرُّها، وأنطاكية، وكربوغا]، وإقامة إمارات صليبية في مدن الساحل، كان وقتُ سقوط (بيت المقْدس) محتّمًا، وقضى على هَيْبة (العُبيْديين)، وانتشر الصّليبيون في جنوبيْ بلاد (الشام)، وسقطتْ (حايْفا)، وتلاها قيامُ (مملكة بيت المقدس).. وهنا سأختفي من الصورة، وأعطي الكلمةَ لمؤرّخٍ مجهول، كان شاهدًا على (مذْبحة بيت المقدس)، وهي المجزرةُ التي علّق عليها مؤرّخٌ آخر يُدْعى (ولْيام الصُّوري) الذي يصفه (ابن الأثير) بالدّناءة لعباراته، لكنّه يصفه بالصدق في وصفه للأحداث الدّموية..
[ارتكبَ الصليبيون مذبحةً مروّعةً، خاضوا فيها حتى أكعابهِم في دماء القتلى؛ وعندما التجأ المسلمون إلى (المسجد الأقصى) تبعوهم من دون أن يُراعوا حُرمتَه، وأجهزوا عليهم، وفاض المسجدُ كلّه بدمائهم، وقد بلغ عددُ القتلى في المسجد وحده ما يزيد عن (سبعين ألفًا)، منهم جماعةٌ من أئمّة المسلمين، وعلمائهِم، وعُبّادهم، وزُهّادهم؛ وذبَحوا المسلمين في الشوارع، وفي البيوت بوحشية بالغة، ولم يجد المسلمون في المدينة مكانًا آمنًا يعتصمون فيه، فألقى بعضُهم بأنفسهم من فوق الأسوار، وازدحم آخرون في القصور، والأبراج، والمساجد، ولم يكن يُسمَع في تلك الساعة غيْر أنين الجرحى، وحشْرجات الموتى، كما وطئ الفرسانُ أكداسَ الجثث وهم يطاردون أولئك الذين حاولوا الهربَ عبثًا.]..
ويروي المؤرّخ (ويليام الصُّوري) قائلا: [استمرّت المطارداتُ، والمذابحُ مدة أسبوع كامل، والصليبيون يتعقّبون أهل المدينة من الرجال، والنساء، والأطفال، ويقتلونهم، وجُمِعَت بعد ذلك جُثَثُ القتلى، وطُرِحت خارج الأبواب، فتعالت أكوامُهم حتى حاذت البيوتَ ارتفاعًا، وما تأتّى لأحد قطّ، أن سمع أو رأى مذبحةً كهذه المذبحة].. لقد اعترف المؤرّخون الصّليبيون بهذه الحقيقة، فذكر المؤرّخُ (ريموند دي جيل) وهو شاهدُ عيان، أنّ الدماءَ قد وصلتْ في رواق المسجد إلى الرّكب، وأضاف قائلا: [حتى أنّ جنودَنا كانوا يخوضون حتى سيقانهِم في دماء المسلمين].. لقد بلغت الدماءُ من شدّة التدفّق في الشوارع أنْ فاض الناسُ بخيولهم فيها، وعندما زار الحرمَ الشريفَ غداة المذبحة، لم يستطع (ريموند) أن يشقّ طريقَه وسط أشلاء المسلمين إلاّ بصعوبة، وأنّ دماء القتلى بلغتْ رُكْبَتَيْه.. ويروي المؤرّخُ الصليبي (فولشَر الشارتري): [لو كنتَ هناك لتلطَّخَتْ قدماكَ حتى الكواحل بدماء القتلى؛ ماذا أقول؟ لم يبْقَ منهم أحدٌ، ولم يرحموا امرأةً ولا طفلاً].
لعلّ هذا ما دفع بعض المؤرّخين الأوربّيين في العصر الحديث إلى الاعترف بأنّ مذبحةَ (يونيو 1099) كانت لطْخَةَ عارٍ في تاريخ الصّليبيين، وأنها تركتْ أثرًا عميقًا في جميع أنحاء العالم.. لم يسمع البابا (أوربان الثاني)، واضعُ أساس الحرب الصّليبية، وهو فرنسيٌ، بهذا الانتصار؛ فقد مات في (29 يوليوز 1099) قبْل أن يصله الخبرُ.. نجا من المذبحة جنودُ الدولة (العُبَيْدية) بعدما طلبوا الأمان، وخرجوا بأموالهم، وأرواحهم، تَرْهقُهم ذلّةٌ.. وهكذا تم تنصيبُ (غودي فري دي بوايون) الفرنسي، ملكًا على (مملكة بيت المقدس)، ثم جرى اختيارُ (روبيرت) النورماني ليشغل نائبًا لكرسي البَطْرِيرْكية، وهكذا أُسْدِلَ ستارٌ من الظّلام على (الشرق العربي)..