لقد عرفت الكتابة عند الفلاسفة القدماء ظاهرة الازدواجية أو التناقض، سواء في الكتاب الواحد أو المؤلفات المختلفة لنفس الكاتب. والحق أن هذا التناقض ليس حكرا على الفلسفة فحسب، بل يطال التصوف والكلام، وإن بدرجات أقل. وهذا يعني أن التناقض عند القدماء يشمل قارات التراث المختلفة، بغض النظر عن الأسرة الفكرية التي ينتمي إليها هذا الكاتب، أو ينتسب لها ذاك. وقد شئنا لحديثنا في هذا العرض أن يقتصر على الفلسفة التي سنمثل لظاهرة التناقض فيها بالفارابي وابن رشد دون غيرهما من الفلاسفة المسلمين، حتى لا نثقل على القارئ الكريم، ونطول أنفاسه. فهل هذا التناقض الذي تحبل به الكتابات القديمة، مقصود أن غير مرام؟ كيف يمكن رأب الصدع ومد الجسور وإصلاح ذات البين، بين هذا الكتاب وذاك لنفس المؤلف؟ كيف يمكن فك "طلاسم" هذه الازدواجية، وتقريب الأفكار في ما بينها، وتأويل التناقض عند أصحابها؟ كيف يمكن سد الثلم والخروم، وملء الفجوات والنتوءات التي تقدم لنا هذا الفيلسوف أو ذاك، في صورة رجل "ولاج خراج"؟
لقد جرت العادة عند الباحثين المعاصرين، أن يعبروا عن ظاهرة التناقض عند القدماء باسم "الكتابة المزدوجة"، ولا نشتط إذا قلنا بأن هذه الظاهرة قديمة قدم الكتابة ذاتها، حيث ترتد بنا إلى اليونان. إذ يمكن تقسيم الكتابة الأرسطية –تمثيلا لا حصرا إلى كتب أفلاطونية يدافع فيها المعلم الأول عن مذهب أفلاطوني، وكتب أخرى ينتقد فيها هذا المذهب نقدا مرا، ويتخلى فيها عن أسلوب المحاورات، ليكتب بأسلوب برهاني. ولا نبالغ إذا قلنا بأن ظاهرة التناقض عند الفلاسفة المسلمين لم تنشأ من فراغ أو عدم، بل لها ظروفها الموضوعية التي أوجدتها، وتربتها الملائمة التي أنجبتها، استنادا إلى المبدأ اليوناني الذي يعلمنا أنه "لا شيء من لا شيء". فلنومئ إلى مكامن هذا التناقض عند الفيلسوف المشرقي، قبل أن نشير بالبنان إلى مواطن الازدواجية عند الفيلسوف المغربي.
ازدواجية الكتابة الفارابية:
يحتل الفارابي وزنا استثنائيا في الفلسفة الإسلامية، فهو المعلم الثاني بعد أرسطو، والمؤسس الثاني للفلسفة التي قام بـ"تبيئتها"، وإعادة تأسيس مصداقيتها في الملة الإسلامية. ولا نغالي إذا قلنا بأن "الفارابي مؤلف بارز في حقل السياسة" دبج العديد من الكتب والرسائل في الفلسفة السياسية التي تبتدأ به، هذه الفلسفة التي تنحل في التحليل الأخير إلى السعادة. فالفيلسوف لا يتأمل الممارسة والتدبير البشري، إلا ليصل إلى السعادة. وبناء عليه، فالسعادة هي المدار الذي عليه مدار فلسفة الفارابي، إذ ألف فيها أهم مؤلفاته التي يمكن أن نذكر منها، كتاب "التنبيه على سبيل تحصيل السعادة" الذي يتحدث فيه عن سعادة الفرد، وكتاب "تحصيل السعادة" الذي يتناول فيه سعادة الأمة، إلخ. بيد أن حديث فيلسوفنا الأعظم عن السعادة –هذه الكلمة السحرية التي كانت تسيطر على ألباب القدماء لا يسلم من التناقض في الآراء، وعدم التناسق في الأفكار. فما هي السعادة الحقة عند الفارابي؟ وما هو موقفه من السعادة الأخروية؟ للإجابة على ذلك، سنستمع إلى هذا النص الذي يقول فيه: "أما العلم المدني فإنه يفحص عن أصناف الأفعال والسير الإرادية، وعن الملكات والأخلاق والسجايا والشيم التي عنها تكون تلك الأفعال والسير، وعن الغايات التي لأجلها تفعل، وكيف ينبغي أن تكون موجودة في الإنسان، وكيف الوجه في ترتيبها فيه على النحو الذي ينبغي أن يكون وجودها فيه، والوجه في حفظها عليه، ويميز بين الغايات التي لأجلها تفعل الأفعال وتستعمل السير، ويبين أن منها ما هي في الحقيقة سعادة، وأن منها ما هي مظنون أنها سعادة من غير أن تكون كذلك، وأن التي هي في الحقيقة سعادة لا يمكن أن تكون في هذه الحياة، بل في حياة أخرى بعد هذه، وهي الحياة الآخرة".
إن موقف الفارابي من السعادة الأخروية في هذا النص لا لبس فيها ولا التباس، فهي أوضح من الفلق. كيف لا، وهي السعادة الحقة التي لا تشوبها شائبة الزيف والظن. وبعبارة أدق: إن السعادة عند المعلم الثاني درجات ومراتب، فإذا كان الفارابي في النص السابق يضع السعادة الأخروية المثالية في أعلى عليين، فإنه –مقابل ذلك يضع السعادة المادية الأرضية المحسوسة في الدرك الأسفل، وخانة الظنون والأوهام، فهل هذا الاختيار قار عند الفارابي؟ للإجابة على هذا السؤال، سنحقق وندقق في هذا النص الذي يتحدث فيه بلسان ابن طفيل، قائلا: "وأما ما وصل إلينا من كتب أبي نصر فأكثرها في المنطق، وما ورد منها في الفلسفة فهي كثيرة الشكوك: فقد أثبت في كتاب "الملة الفاضلة" بقاء النفوس الشريرة بعد الموت في آلام لا نهاية لها، ثم صرح في "السياسة المدنية" بأنها منحلة وصائرة إلى العدم، وأنه لا بقاء إلا للنفوس الفاضلة الكاملة، ثم وصف في شرح "كتاب الأخلاق" شيئا من أمر السعادة هذا معناه: "وكل ما يذكر غير هذا، فهو هذيان وخرافات عجائز".
يبدو أن الفارابي ينطبق عليه المثل المغربي القائل: "ما حرثه الجمل دكه"، فقد نسي أو تناسى في هذا النص الذي أورده الفيلسوف ابن طفيل، ما سبق له أن دافع عنه في النص الذي اقتطفناه من "إحصاء العلوم". فبعد أن طأطأ الرأس للسعادة الأخروية في النص الأول، وانحنى بظهره لها في كتبه المشهورة، عاد في كتاب شرح الأخلاق إلى نيقوماخوس –الذي ضاع ليرجمها بالحجارة، بدعوى أنها لا يمكن أن تكون بعد نفاذ الجسم واندراسه وتوقفه عن "أن يكون". فما هي حقيقة موقف الفارابي من السعادة الأخروية؟ هل موقفه الحقيقي هو الذي نجده في شروحه على أفلاطون وأرسطو؟ أم هو الذي نعثر عليه في كتبه الأخرى؟
إن الاختلاف بين شروح الفارابي وكتبه الأخرى قائم على قدم وساق، ولا أدل على ذلك من النصين السابقين اللذين يتعاندان ويختلفان ويتغايران، عوض أن يتماثلا ويتقاطعا ويتظافرا ليؤديا نظرية واحدة، وموقفا واحدا. فهل كان الفارابي ماديا ينكر السعادة الأخروية، أم مثاليا يؤمن بها؟ وهل يمكن أن نتحدث لحل هذه المعضلة عن مرحلة الشباب ومرحلة النضج؟ وبالتالي سيكون لزاما علينا البحث عن تاريخ كتابة الفارابي لمؤلفاته، حتى يتأتى لنا معرفة تطور الخط الفكري من المادية إلى المثالية أو العكس.
إن هذا التناقض الذي لمسناه عند الفارابي، يضارع الالتباس الذي سنكشف عنه عند ابن رشد. فلننتقل إلى فيلسوف قرطبة ومراكش.
ازدواجية الكتابة الرشدية:
إذا كان المشرق الإسلامي يعطي الأهمية المركزية للفارابي، فإن الغرب الإسلامي يعطي الأهمية المركزية لابن رشد، فهو فيلسوف البرهان الذي يمثل الخطاب البرهاني وصاحب الدعوة إلى المنطق البرهاني، وهو الشارح الأعظم الذي يذكر دائما وتذكر معه الفلسفة اليونانية. وقد دأب الباحثون المعاصرون على فصل الكتب الجدالية لابن رشد عن شروحه، فميزوا بين الثالوث الرشدي المشهور (الفصل – الكشف – التهافت )، وبين شروحه اللاتينية والعبرية. وهذا التمييز الذي سارت بذكره الركبان، ليس اعتباطيا أو عشوائيا، بل يجد سنده وأساسه في تضارب آراء ابن رشد، وعواصة إدراك الفلسفة الرشدية، "ولذلك لن نغالي إن سمينا الفلسفة الرشدية بالفلسفة المزدوجة". ولا ننأى عن الصواب إذا قلنا بأن هذا التعارض، أصبح اليوم قضية معروفة في الدراسات الرشدية. فالكتب الثلاثة أو الأربعة المشهورة لابن رشد تمثل أقرب وجهات نظر ابن رشد إلى الدين، ولا غبار على أن هذه الكتب الرشدية كتبها في جداله مع الأشاعرة عامة، وسجال مع الغزالي وأستاذه الجويني اللذين لا يذكر غيرهما في "الكشف عن مناهج الأدلة" خاصة. وما يلفت نظر الباحث في الثالوث المشهور لابن رشد وتدقيقا في "الكشف عن مناهج الأدلة" هو معدن لسانه، فهو يتحدث بلغة سنية وسلفية تحرم الكلام طورا، وتبدع حجة الإسلام مرة، وتكفره تارة، جاعلا من الإسلام حجة على حجة الإسلام بعد أن نصب نفسه قاضيا يحكم بالمنع والحجز لكتب الغزالي. وكأني بالشارح العربي تناسى محنته، فلم يجد غضاضة في مصادرة حق الاختلاف وتأليب صاحب السيف على صاحب اليراع (الغزالي )، كما ينبه إلى ذلك بعض الباحثين المعاصرين !. غير أن لفيفا من الشروح الرشدية لا تقدم ابن رشد في هذه "الجبة" السلفية، ولا تقدم المبادئ بنفس التقرب من الدين مثل ما نجد في الكتب الجدالية، وللتأكد من ذلك، لنستمع إلى فرح أنطوان في هذا النص الذي يتحدث فيه عن مسألة الخلود عند ابن رشد، حيث يقول: "ربما كان لابن رشد جوابان على هذه المسألة الخطيرة، التي هي الآن دعامة عظيمة من دعائم الإنسانية. فإننا في أثناء مطالعتنا لبعض كتبه قبل الإقدام على ترجمته، رأينا له في عدة مواضع كلاما يدل أصرح دلالة على اعتقاده بالحياة الثانية، حتى بالعقاب والثواب أيضا. فعجبنا كل العجب من تكفير الناس رجلا يرى هذا الرأي، ولكنا لما وصلنا إلى مذهبه الفلسفية، ورأينا متابعته لأرسطو فيما يختص باعتقاده بالنفس وخلق الكون، تغير وجه المسألة. ذلك أن ابن رشد كان يكتب هنالك كرجل مؤمن خاضع لتقاليد آبائه وأجداده، فهو يكتب بقلبه لا بعقله، أما عند بحثه بالعقل عن مصدر العقل وعلة العلل، فقد كان يكتب كفيلسوف يدخل بجرأة الأسد إلى كهف الحقيقة المحجبة ولا يبالي. ولذلك قلنا إنه ربما كان له في ذلك جوابان: "أما الجواب الأول فيما يختص بالعقاب والثواب فهو قول مشهور، وإنما يزيد عليه ابن رشد وجوب التأويل،وأما جوابه الثاني، أي الجواب الفلسفي الذي طلبه بالعقل دون سواه، فإليك خلاصته: "قال: إن العقل الفاعل العام… من صفاته، أنه مستقل ومنفصل عن المادة وغير قابل للفناء والملاشاة، والعقل الخاص المنفعل من صفاته، الفناء من جسم الإنسان. وبناء عليه، يكون العقل العام الفاعل خالدا، والعقل المنفعل فانيا. ولكن ما هو العقل الفاعل العام الذي هو خالد في رأي ابن رشد؟ إن هذا العقل الخالد هو العقل المشترك بين الإنسانية، فالإنسانية إذا هي خالدة وحدها دون سواها. وبناء عليه، لا يكون بعد الموت حياة فردية، ولا شيء مما يقوله العامة عن الحياة الثانية".
إن هذا النص الرشدي الذي اعتمد فيه فرح أنطوان على الشروح، يشكل معول هدم لما سبق أن قرره ابن رشد في كتبه السجالية مع الأشاعرة. وإن دل هذا على شيء، فإنما يدل على أن الشروح الرشدية وثالوثه المشهور، يتباعدان بعد المشرقين، ويتباينان تباين الثقلين. فنظرية الاتصال عند ابن رشد، تعتبر من أشهر المسائل في معاداته. فإذا كان المتصوفة قد ذهبوا إلى أن الاتصال هو اتصال بالله وفناء فيه، ويتم عبر المجاهدة والمكابدة، فإن الفلاسفة ذهبوا إلى أن الاتصال هو اتصال بالعقل الفعال، عن طريق الممارسة النظرية والعلوم القديمة. ولكن الالتباس يقع في المقصود بالعقل، هل هو العقل الإنساني، أو العقل الإلهي؟ إن فيلسوف قرطبة يرى أنه إذا كان هناك عقل أزلي، فهو عقل النوع الإنساني، لا غيرا. "وهذا الشيء الذي نسميه عقلا أيضا هو عقل ثابت لا يتغير، أن أنه لا يتقدم ولا يتأخر، ولا يزيد ولا ينقص، والناس يشتركون فيه ويستمدون منه بكيفيات متباينة، على أن من كان منهم أكثر استمدادا منه، كان أقرب إلى الكمال والسعادة". وهذا ما يسمى بعقل الإنسانية، أو وحدة العقل الناشئة عن نظرية الاتصال. وهذا القول يتعارض –طولا وعرضا مع تعاليم الإسلام، لأن موقف ابن رشد أشبه بموقف الذي يؤله الإنسانية على حد رد توما الأكويني. فموقفه في نظرية الاتصال يرتبط بموقفه من الخلود الذي يظل حكرا على العقل المشترك بين الإنسانية. ولا نشتط إذا قلنا بأن فيلسوف قرطبة يذكرنا في هذه المسألة، بموقف الفارابي في كتاب "شرح الأخلاق إلى نيقوماخوس"، مع وعينا بالفواصل والفوارق بينهما، "لأن ابن رشد لم يكن يؤمن بالخلود الشخصي أو خلود النفس الفردية، مما جعله يبحث عن سعادة زمنيةخالدة في الحياة الأرضية، هي الأمل الأقصى في الحياة الفردية، حتى لا يحرم الإنسان من أفق أخير للسعادة في فلسفة لا تؤمن بخلود الفرد فيما بعد الحياة الحاضرة".
إن الاختيارات الرشدية في الشروح، ليست هي عينها في الكتب الأخرى، لأن ما وجد فيها من الآراء يكاد أن لا يشبه تماما الآراء التي توجد في باقي كتبه. فهل تمثل هذه الشروح مواقف ابن رشد الحقيقية؟ لقد اختلف الباحثون في هذا الصدد، فالبعض يرى اليوم بأن الكتب السجالية والجدالية هي التي لا تمثل مواقف ابن رشد الحقيقية، لأنه يوجد في سجال مع الأشاعرة، مما يجعله لا يصرح بفلسفته الحقيقية التي أخفاها في الشروح. ومهما اتفقنا أو اختلفنا مع هذا الرأي أو ذاك، فإن معدن الشروح ليس هو عين معدن الثالوث. وهذا الاختلاف القائم بين الكتب الرشدية، يفسر لنا كون ابن رشد شخصية فلسفية لها عدة قراءات. فالسلفيون تعرفوا على ابن رشد في الكتب السجالية والأقرب إلى المنحى الديني، بينما قرأ الآخرون الشروح، وعولوا على رينان ومونك، وقراءتهما لابن رشد. ويكفي أن نستدل هنا بالمناظرة الشهيرة والخطيرة بين الشيخ محمد عبده وتلميذه رشيد رضا من جهة، وفرح أنطوان من جهة أخرى. فقد كانت الفجوة بينهما شاسعة، بمقدار شساعة الفجوة بين الكتب الرشدية ذاتها، فبينما كان الإمام محمد عبده ينهل من الكتب الجدالية، كان فرح أنطوان ينهل من الشروح الرشدية، ولطالما خاطب أستاذ رشيد رضا بنبرة لا تخلو من تحد، قائلا: "والأستاذ أعزه الله يعرف اللغة الفرنسوية، فإذا شاء بعثنا إليه بكتاب رينان، وعليه العلامات التي جعلناها في مواضعه المهمة بقلم الرصاص". فكيف يمكن تعليل هذا التناقض طبقا للمثل القائل: "إذا عرف السبب بطل العجب"؟ قبل الإجابة على هذا السؤال، أو على الأصح حتى نجيب عليه، سنحاول النظر إلى هذه المسألة بثنائية السلطة السياسية والسلطة الشعبية.
حصار السلطة السياسية:
إن التناقض الذي وضعنا عليه أصبعنا في النصوص الفارابية والنصوص الرشدية التي أوردنا بعضها سابقا، يجد تفسيره إلى حد بعيد في الحصار الذي ضربه أصحاب السيف على أصحاب القلم. فتاريخ الفلسفة والتصوف والكلام والفقه، هو تاريخ المحن والنكبات والملاحقات. فسواء عزينا نكبة ابن رشد إلى تلفظه بـ"ملك البربر" حسب بعض المصادر، أو إلى تشيكه في قوم عاد الذين وردوا في القرآن حسب البعض الآخر، أو إلى قوله بأن "الزهرة أحد الآلهة" حسب مصادر أخرى، فإننا نعتقد جازمين بأن نكبة ابن رشد –عند التحقيق والتدقيق لا تحتمل غير الدلالة السياسية، "صار من الضروري، بعد أن تبين لنا تهافت التهم المروية، البحث في القضية من هذه الزاوية. إن السبب الحقيقي في نكبة ابن رشد لا يمكن أن يكون إلا سياسيا، تماما مثلما كان الأمر في محنة ابن حنبل". فأسباب اضطهاد ابن رشد دنيوية قحة، تتأرجح بين الحسد والوشاية، ولا علاقة لها بالدين كما قد يوهمنا البعض، فكل ما يقال في هذا الصدد من تبريرات، لا يعدو أن يكون ذرا للرماد في العيون. فالفلسفة عرفت حماية في بعض المراحل، ومواجهة في مراحل أخرى، وهل نحتاج هنا إلى التذكير بالكتب التي أحرقت في الإسكندرية ! وتلك التي دمرت في حملة المغول والتتار على بغداد، فألقيت في نهر دجلة ! لكن مع ذلك، فإن ما فعله الحاجب المنصور مثلا يجد تعليله بنزواته الخاصة والاستبداد. فالفلاسفة المسلمون كانوا "قلقين" على حياتهم، وواعين بالمصائب السياسية المحدقة بهم، ومن هنا مغزى ودلالة الارتباك و"الكذب الرشدي" على الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب عندما قدمه ابن طفيل إليه. هذه الحادثة الدالة الارتباك و"الكذب الرشدي" على الخليفة الموحدي أبي يوسف يعقوب عندما قدمه ابن طفيل إليه. هذه الحادثة الدالة التي يلخصها فرح أنطوان على لسان ابن رشد الذي يقول: "أما الأمير فإنه التفت إلي، وبعد أن سألني عن اسمي واسم أبي واسم أسرتي، افتتح الحديث بهذا السؤال: ماذا يعتقد الفلاسفة في الكون، أهو قديم أزلي أم محدث, فداخلني الوجل عند هذا السؤال وأخذت ألتمس عذرا لأتخلص من الجواب، فأنكرت أنني أشتغل بالفلسفة، وما كنت عالما أن ابن طفيل اتفق مع أمير المؤمنين على تجربتي". فالفلاسفة القدماء كانوا مهددين دائما في آرائهم وأفكارهم، وملاحقين بدون هوادة من طرف عيون السلطة التي لا تتورع عن جعلهم "أكباش فداء" ومشجبا تعلق عليه هزائمها وانتكاساتها و"تضعضع" بنيان مشروعيتها، كما حدث في مراحل تاريخية معينة. وبناء على ذلك، فقد عانى فلاسفتنا من الاغتراب في المجتمع الإسلامي وكابدوا –بالمعنى الصوفي مرارة العزلة والتوحد والتهميش، بالرغم من أن لسانهم لم يكف يوما عن اعتبار أنفسهم سادة القوم وخاصة خاصتهم، كما هو لائح من كتابات المعلم الثاني والشارح الأعظم. وما نخال أن علي أومليل يجانب الصواب عندما يخلص إلى "أن الفلاسفة في بلاد الإسلام قد تموقعوا خارج قضايا المجتمع والسياسة. وقد اتخذوا هذا الموقع عن ضرورة واختيار معا، على رغم ما في ظاهر هذا القول من تناقض. أما الضرورة فقد نتجت عن طبيعة علمهم الغريب والنخبوي، قد تكون بعض العلوم والمهارات التي اختص بها الفلاسفة مطلوبة لدى الأعيان فيقربونهم ويشملونهم بالرعاية، لكن قد يحدث أن ينقلب حاكم على أصحاب الفلسفة تحت ضغط من الفقهاء أو تقربا إلى العامة، خصوصا إبان أزمات أو هزائم عسكرية، فيجعل منهم كبش الضحية". ويحضرني في هذا الصدد نفي ابن رشد إلى اليسانة بعد المنشور المشهور الذي أصدره الفقهاء –رهبة أو رغبة بإيعاز وإرادة من الخليفة في المغرب والأندلس لحظر الفلسفة. فالمنشور سياسي لا غير، وإلا فكيف نعلل تراجع الخليفة عن نفي ابن رشد واضطهاده؟ ! إذ أن "نكبة ابن رشد لم تدم إلا نحوا من سنتين أو ثلاث (593595هـ )". ولعل ما يلفت نظرنا في هذا المنشور هو عدم اشتماله على لفظة الفلسفة، وعدم تسميته لابن رشد صراحة !. فالمفكر المغربي الدكتور محمد عابد الجابري، بعد أن يحكم بالتهافت على العديد من الأسباب الشائعة، يعزو النكبة إلى العلاقة التي نسج ابن رشد خيوطها مع أخ الخليفة أبي يحيا والي قرطبة، معتمدا في ذلك على النص السياسي الرشدي، ونروم بذلك كتاب "جوامع سياسة أفلاطون"، وتدقيقا صيغة الإهداء التي وردت في آخره. فهذا الكتاب هو شرح موجز لـ"جمهورية" أفلاطون. "ويمكن الذهاب إلى أبعد من هذا وافتراض أن أبا يحيى هذا هو الذي طلب من ابن رشد تلخيص سياسة أفلاطون، في إطار التمهيد لحركته". وبالرغم من أن الدكتور محمد عابد الجابري يضع هذا القول موضع الافتراض لا غير، فإن الأكيد الذي يقرره، بشكل لا مواربة فيه ولا تلوين، هو "أن نكبة ابن رشد كانت بسبب ما نسب إليه من أمور ذات طبيعة سياسية، هي ما ورد في كتابه جوامع سياسة أفلاطون من انتقادات للأوضاع في الأندلس". والخلاصة التي يخلص إليها الدكتور محمد عابد الجابري، يوردها قائلا: "إذن لم يكن سبب نكبة ابن رشد هو ما ذكره المنشور الذي أصدره الخليفة المنصور، والذي يتهم ابن رشد وجماعة من أصحابه بالاشتغال بالفلسفة والعلوم القديمة. كلا، لقد وقعت الفلسفة هنا مرة أخرى ضحية للسياسة. وبدلا من أن يأمر الخليفة بإحراق الكتاب الذي أثار غضبه، كتاب جوامع سياسة أفلاطون، أمر بإحراق كتب الفلسفة كلها، ليس انتقاما من الفلسفة ذاتها، بل تغطية للكتاب المقصود بالذات. وبدلا من أن يحقق الخليفة المنصور مع ابن رشد في علاقاته بأخيه أبي يحيى، حقق معه في عبارة قيل إنه حكى فيها قول اليونان "إن الزهرة أحد الآلهة".
حصار السلطة الجماهيرية:
إن العامة تمثل السواد الأعظم من المجتمع، فهي قوة يحسب لها ألف حساب، وسلطة وازنة لا يستهان بها، لها تمثلاتها Les représentations وحقائقها السوسيولوجية التي تتضاد مع الحقائق المجردة والبراهين العقلية والحجج المنطقية التي تصيب الرؤوس بالدوار. وتبعا لذلك، فالعامة سلطة تفرض على الفيلسوف "التواصل" معها بذكاء ودهاء وكياسة، حتى يسلم من أذاها، وينجو بجلده. فالثورات والتمردات الشعبية والجماهيرية تربأ بغير الرؤوس النادرة، و"سبب ذلك أن الشعب في كل مكان مطبوع على بعض الامتياز، سواء كان ذلك الامتياز بالعلم أو بالمال، وفضلا عن هذا فإن الفلسفة تبعد الفيلسوف عن بعض القواعد المادية التي قد يتخذها البشر لعبادة الله، وتجعله يكتفي بالعبادة بالروح والحق. ومعلوم أن الشعب لا يفهم هذه العبادة الروحية، ولا يرى عبادة حقيقية غير العبادة التي اعتادها منذ نشأته، ولذلك يعزو الكفر إلى كل من يروم الخروج عنها قيد أصبع". ونحن نعتقد بأن هذا الحصار العددي الذي ضربته العامة على الفلسفة، هو الذي يفسر لنا الكيل بمكيالين عند الفلاسفة المسلمين الذين كتبوا صنفين من الكتب:
أولا: كتب جمهورية يتقربون فيها من العامة.
ثانيا: كتب فلسفية بامتياز يقدمون فيها فلسفتهم الخاصة بهم للخاصة، وهي الكتب التي تسمى بـ"المضنون بها على غير أهلها"، ويمنع الجمهور من "التملي" –بالمعنى الصوفي برؤيتها والتعرف عليها حتى لا تهدد طمأنينته العقائدية. فالفيلسوف يلجأ إلى الغموض والالتباس –أو التناقض كما رأينا عند الفارابي وابن رشد تقية لكي يخفي آراءه الحقيقية عن الجمهور الذي لا يستأهل الفلسفة، بل فقط فضلاتها وبقاياها، ويحضرني هنا قول المتنبي وهو يذم أهل زمانه:
ودهر ناسه ناس صغار وإن كانت لهم جثث وهام
وما أنا منهم بالعيش فيهم ولكن معدن الذهب الرغام
وقول أبي القاسم الشابي وهو يصف شعبه:
أيها الشعب أنت طفل صغير لاعب بالتراب والليل مغس
أنت روح غبية تكره النو ر وتقضي الدهور في ليل ملس
وبناء عليه، فالغموض الذي يعتمل في أحشاء الكتابات الفلسفية التي تفوق مدارك العامة وتدق عن أفهامها، هو غموض مقصود حتى لا يقرأها الجمهور. فالفلسفة كانت ولا تزال في المخيال الاجتماعي l’imaginaire social رديفة الزندقة والثرثرة واللغو والأساطير. يقول حسن حنفي بنبرة مفعمة بالأسى والمرارة: "إننا نصارع من أجل العقلانية منذ مائتي عام، والنقل عندنا مازال له الأولوية على العقل، فتهزم عقلانية وعي الخاصة أمام العمق التاريخي للشعور الجماعي. وماذا تستطيع الخاصة في مواجهة العامة؟ والقلة في مواجهة الكثرة؟ والعصا في مواجهة تنين". ومن هنا يمكن القول بأن الفيلسوف المسلم، كان أشبه بالسائر فوق حقل من الألغام، يضطر إلى تغيير جلده كالثعبان، حتى لا يموت قبل أن يموت، آخذا بعين الاعتبار في كتابته نوع القراء.
إن هذا التعليل الذي اعتمدناه لتفسير الازدواجية عند الفلاسفة المسلمين، ليس هو التفسير الأوحد، فنحن لا نستهدف الاستيفاءة في هذا المقال، لأن تعليلات الباحثين المعاصرين لهذه المسألة تذهب مذاهب شتى، وتتبنى تفسيرات مختلفة، إن لم نقل متغايرة. فالدكتور عبد المجيد الصغير يدافع عن أطروحة بصدد نكبة ابن رشد خاصة، والفلسفة عامة، مفادها أن هذه النكبة تجد تعليلها في مواطن الوهي ومكامن الوهن التي اشتملت عليها فلسفة ابن رشد التي لا تخلو من نتوءات ومثالب وثغرات تشهد لها فلسفة الشارح الأعظم ذاتها. ذلك "أن الامتحان الذي سيتعرض له ابن رشد لا يمكن أن يفسر بمحض الكره العلوم الفلسفية، إذ أن "المحنة"… تجربة مشتركة بين علوم مختلفة، شرعية وفلسفية، وربما كان حظ كتب الغزالي من تلك المحنة أكبر من حظ كتب ابن رشد". وتبعا لذلك، فإن سلوك طريق "معاداة الفقهاء للفلسفة" ليس سلوكا معقولا دائما، ولا اختيارا صائبا باستمرار، رغم أهميته. فالفقهاء أنفسهم كان لهم نصيبهم من المحن. وكل قسمة لا تقوم بتوزيع هذه المحن والنكبات بالتساوي بين الفقهاء والمتكلمين والفلاسفة، ستكون قسمة ضيزي تتجنى على هذا الطرف أو ذاك. فالتركيز على "محنة الفيلسوف" دون غيرها من المحن التي اكتوى بنارها حملة الأقلام الآخرون ينم عن تجاهل كبير لما تمليه الموضوعية، "بل إن محنة ابن رشد التي يضرب بها المثل عادة في متابعة الفقيه للفكر الفلسفي، ربما كانت، بخلاف ما يظن، المحنة الوحيدة التي يبدو أن الفقهاء لم يلعبوا فيها دورا بارزا. فقد جاءت تلك المحنة وصدرت عن أكبر معارض للفقهاء ولعلم الفروع طيلة تاريخ المغرب، وهو الخليفة المنصور الموحدي، أما ما يقال عن اضطرار الخليفة إلى نفاق ومداراة العامة أو الفقهاء تقربا إليهم لكسب تأييدهم في مهمة حربية، فهو قول بلا دليل، خاصة إذا علمنا أن المحنة وقعت بعد معركة "الأرك" المعنية وليس قبلها". فتراجع المنصور عن تشجيعه لابن رشد، وقراره بنفيه إلى اليسانة، يبدو يسيرا متى تمت مقارنته بفعلته حيال الفقهاء، "وهو على كل حال هين إذا قورن بموقفه من الفقهاء الذين أرادوا محو مذهبهم بالمرة، وقد عاشوا عليه لعدة قرون، ورام تخويفهم، بل وأمر بإحراق كتبهم، وذلك ما لم يقع بالنسبة لابن رشد !".
وصفوة القول: إن التناقض الذي يجثم في ثنايا كتابات الفلاسفة المسلمين، لا يمكن أن يفهم فهما قويما وسديدا بمعزل عن صولة السلطة السياسية وهيمنة السلطة الشعبية، سواء كان هذا التناقض علامة على الفشل الذاتي للفلسفة الإسلامية حسب بعض الباحثين المعاصرين، أو آية على مرونة هذا الفكر الفلسفي كما يرى البعض الآخر. فالكتابة المزدوجة حصار لحصار السلطة السياسية والسلطة الجماهيرية، وتبعا لذلك فقد تكون تناقضا "مشروعا"، وتراجعا "مبررا"، وتقية متحايلة و"ضرورية"، ودرعا واقيا من سيف ذي حدين.
سكينة عشوبة طالبة وباحثة