أذكر ونحنُ شبابٌ صغارٌ في المراكز الصيفية أننا كنا نتغنى بالأناشيد التي تمجد تاريخنا الإسلامي، ونُمثَّل في مسرحيات تحكي ذلك التاريخ، حيث عُلَّمنا في مدارسنا، وفي المحاضرات التي نسمعها من الدعاة أن تاريخنا تاريخ مثالي، يمثل الذروة للرقي الإنساني، فهو أنموذج للعدل والمساواة والرخاء والحرية والكرامة؛ فالخلفاء والسلاطين كانوا قمة في العدل ونصرة المظلوم، والجيوش كانت أنموذجًا للرقي في التعامل مع الأسارى والشعوب المغلوبة، والعلماء كانوا مثالا نادرًا للورع وغزارة العلم، والأقليات الدينية كانت تنعم بالطمأنينة والعدل من السلطات، والشعوب كانت تنعم بالحرية والرخاء والأمن، ولهذا كانت عقولنا معلقةً بذلك الماضي الزاهي، نصبُّ لعناتنا على واقعنا، ونتحرق شوقًا لعودة ذلك الماضي، هذه القناعات التي ذكرتها عن جيلي ما زالت إلى اليوم تشكل الذهنية التقليدية للشباب المتدين، وهي بحق أحد عوامل التطرف؛ إذ إن الخطاب الديني المتطرف اليوم كثيرًا ما يحاكم الواقع بمقارنته بتاريخ ماضٍ زاهٍ أنموذجي كان يعيشه المسلمون، ويطرح فكرة وجوب إعادة ذلك الماضي الأخَّاذ، ويستنهض همم الشباب المتدين لإعادته، السؤال: هل تاريخنا هو كما يُصوَّر لنا في مناهجنا التعليمية، ومحاضرات الدعاة، والدراما التلفزيونية؟.
الحق أن ذلك وجهٌ من وجوهِ تاريخنا، فتاريخنا يمثل حضارة ضخمة امتدت زمنًا لأكثر من ألف وأربعمائة سنة، ومكانا من الصين إلى الأندلس، وكما هو واقعُ كلِّ حضارة ففيها الجانب المضيء والجانب المظلم، إذ الحضارة العربية والإسلامية ليست استثناء، لكننا اكتفينا بذكر الجانب المضيء، وهذا أيضًا أمرٌ ليس خاصًّا بأمتنا فغالب الأمم في العالم كله تُضخِّم الجانب المشرق من تاريخها، وتُقلِّل من الجانب المظلم، وذلك أن التاريخ يمثل جزءًا من الذات للأمة، والافتخار به يمثل تعويضًا للأمم التي لا تملك اليوم ما تفاخر به كأمتنا اليوم.
وإذا كان تاريخنا فيه ما يستحق الفخر والاعتزاز من جوانب مضيئة فإنَّ هذا الافتخار لا يجوز أن يمنع المثقفين وأصحاب الرأي من إطلاع الجمهور على الجوانب المظلمة في تاريخنا؛ إذ إن ذلك سيسهم في تكوين صورة واقعية للتاريخ، وسيقطع الطريق على الخطابات المتطرفة التي تصب لعناتها على واقعنا اليوم، وتسافر بعقول وأحلام الشباب المتدين إلى تاريخٍ زاهٍ رائعٍ مُصَفَّىً من كل عيب.
فمن الجوانب المظلمة في تاريخنا استبداد السلطة السياسية؛ فقد كان السلطان أو الخليفة صاحب سلطة مطلقة، ولم يكن للشورى وجود حقيقي، وكانت النخبة الحاكمة غالبًا تتصف بالفساد المالي؛ إذ كانت تنفق غالب ثروة الأمة على مصالحها، وعلى حاشيتها من الشعراء والأدباء، وتغوَّل فسادها المالي مع الأيام حتى وصل إلى مصادرة أموال التجار بحجج واهية، والمشاركة في ميراثهم بعد موتهم، وفي أيام المماليك أصبح السلطان محتكرا لبعض السلع؛ فلا يُـجْلب للسوق إلا ما يُنتجُ في مزارعه، مع فرض ضرائب مرتفعة على بقية السلع، وفي الجانب الاقتصادي كان الإقطاع هو السائد في اقتصاد الممالك الإسلامية؛ إذ يملك الخلفاء والأمراء والوزراء والأعيان قرى كاملة، والأهالي أُجَرَاء لديهم يعملون بقوت يومهم، وقد أنتج مثل هذا الوضع الاضطرابات، ولعل من أشهرها (ثورة الزنج ) وهي ثورة قامت في جنوب العراق قام بها الرقيق الزنوج، والفقراء من الفلاحين العرب الذين كان يطلق عليهم الفراتيون الذين يعملون في مجاري المياه ويقومون بكسح السباخ لإعدادها للزراعة، وكانوا يعملون في ظروف عمل غير إنسانية، وليس لهم أجر إلا ما يسد رمقهم من الطعام، كل ذلك تحت إشراف وكلاء قساة، ولحساب مُلَّاك الأرض من الأمراء والوزراء ووجهاء العرب والفرس، وقد امتدت الثورة من سنة 249هـ إلى سنة 256هـ.
ومن الجوانب المظلمة المفزعة في تاريخنا جانب التعامل مع المعارضين السياسيين فقد كانوا ضحية لأنواع من العذاب المخيف، وحسبك أن تقرأ (موسوعة العذاب ) لعبود الشالجي، في ستة أجزاء، وهي في أغلبها سجل مُرعِب لأنواع العقاب الذي تلقاه المعارضون السياسيون في الحضارة الإسلامية، ويكفي في المعارضة أن يتكلم الإنسان بنقد للخليفة أو السلطان فيكون مصيره مخيفًا، فمن أنواع العذاب السجن في (المطبق ) وهو سجن تحت الأرض ينزل فيه المتهم بحبال، ويمكث فيه سنوات في ظلام دامس، والسجن في الآبار العميقة مع تغطية فوهة البئر، والمعتقل فيها يوضع في عنقه غل من حديد مع ثقل مربوط فيه قد يبلغ مئة وعشرين رطلا، وقد وضع في (جَامِعة ) وهو قيد يجمع بين اليدين والرجلين، ومن صنوف التعذيب (التعليق )؛ حيث يعلق المعتقل من يديه، أو من يد واحدة، وقد يعلق بكلاليب من كتفيه، ومن صنوف العذاب (التسمير ) ويكون بدق مسامير في أيدي المعذبين، وتسمر في ألواح أو حيطان، والتعذيب بإطعام السجين طعام الحيوانات أو ما لا يؤكل كالتراب، وسقيه المـُسَهِّل وتركه يُـحدث على نفسه، ويترك من دون تنظيف، والتعذيب بإحداث الجروح ورش الملح فوقها، والتعذيب بنتف شعر البدن، والتعذيب بعصر الخصية، وقطع العضو الذكري، وإدخال العصي في الدبر، وسمل العينين، وسل اللسان، وجدع الأنف، وسل الأظافر من الأصابع، وقلع الأضراس، والتعذيب بالمساهرة وهي الحرمان من النوم، والتعذيب بتنعيل السجين بحدوات الحصان، وقرض اللحم بالمقاريض، والقتل بسلخ الجلد، والقتل بنشر بالمنشار.
هذه بعض الجوانب المظلمة (المسكوت عنها ) في تاريخنا التي تدل على أن حضارتنا كانت كالحضارات الأخرى فيها ما نفخر فيه، وفيها ما هو مخزٍ من حق أجيالنا الحاضرة الاطلاع عليه.
بقلم دكتور يونس العمراني