لا شكّ أنّ (أبا زُرَيْق) هو مَن يدير بلادنا، ويسيّر مؤسَّساتِنا، ويدبّر أحوالنا بمعرفته، ويتحكّم في أرزاقنا، وقد نما (أبو زرَيق) في بلادنا، وترعرع، وما عاد بالإمكان طردُه من أمّتنا، أو منْعه من إيذائنا، وقد استحال إلى ما يشْبه القدر في بلادنا للأسف الشديد.. قد يقول القارئُ الكريم: [أسْرِعْ يا هذا؛ مَن هو (أبو زُرَيق) هذا؟] وجوابي هو: [أمْهِلْني سيّدي القارئ، ولا تَعْجَلْ عليَّ؛ فليس في الأمر مسلاّة لأحدٍ منّا، فصبرًا جميلاً على الجليل من المصاب!]؛ لكنْ مِن حقّ القارئ أن يسأل، لأنّ من أخطاء هذه الأمّة أنّها لا تسأل.. فمَن هو إذن (أبو زُرَيق)؟ [أبو زُرَيق] يا سيّدي، هو طائرٌ كما يقول عنه (الدّميري)، على قدْر اليمامة، حادّ البصر، يشْبه صوتُه صوْت الجمل، ومأواه قرب الأنهار، والأماكن الكثيرة المياه، الملتفّة الأشجار، وله لونٌ حسَن، وتدبيرٌ في معاشه.. ويروي (الدّميري) كذلك، نقلاً عن (أرسطو) في هذا الطائر، أنه ربّما أفصح بالأصوات كالقمري، وربّما أبْهم كحَمْحَمة الفَرس؛ لكنّ الذي لم يذْكره (الدّميري ولا أرسطو) عن [أبي زُرَيْق] هذا، هو أنه ينهب حصادَ غيره؛ فغيرُه يعمل، وهو يحْصد؛ وهو ما يفْعله أشباهُ (أبي زُريْق) في هذا الوطن، أكانوا في الحكومة، أو البرلمان، أو المستشارين، أو في مختلف المجالس في جهات المملكة.
ويريد (أبو زُريْق) مثلاً أن يضع بيضَه، فلا يهمّ ببناء العشّ الذي يبيض فيه، بل ينتظر، ويرقُب الطيورَ المكافحة الجادّة والعاملة، حتى إذا ما وجد طائرًا منها قد فرغ لتوّه من بناء عشّه بيْن غصون الشجر، انتهز صاحبُنا (أبو زُرَيْق) فرصة غيابِه، وقفزَ إلى العُشّ الجاهز، ورقدَ فيه ليَبيض؛ فإذا كان في عالم الطّيْر إقطاع، ففي بلادنا إقطاعٌ أشدّ وأنكى.. كان (أبو زُرَيْق) بعمله هذا أبشَع إقطاعي عرفناه في عالم الطّيور، لكنْ له أشباهُه، وأتباعُه، في بلادنا بلا شكّ.. فمن هو الإقطاعي في دنيا الزّراعة والفلاحة؟ مَن هو الإقطاعي في مجال المقاصّة؟ من هو الإقطاعي الذي اقتطع من تعويضات المتقاعدين؟ مَن هو الإقطاعي الذي جعل أثمان المحروقات هي أغلى الأثمان في العالم بأسره؟ مَن هو الإقطاعي الذي جعل المواطنَ يرى الأسماكَ أو يسمع عنها ولا يقْدر حتى على تذوُّقها ولو مرّة في حياته في وطن محاط بالمحيط الأطلسي غربًا والبحر المتوسّط شمالاً؟ هل هذا معقول؟
عندما يحتاج فراخُه إلى قُوت، يقوم باختطاف قوت فراخ طائرٍ آخَر، ويحْمله إلى فراخه.. أشباه هذا الطائر مَبْثُوثون في كافة الوزارات، والإدارات، والرُّؤساء أو الـمُدراء لا سلْطة لهم إلاّ على الغلابة، والمسحوقين الذين لا مِظلاّت لهم ولا دُروع.. ففي كل إدارة، إلاّ وتجد فيها فراخ (ابن زُرَيْق)؛ فتجد موظّفةً نالت المنصبَ بالتعْيين المباشر، دون اجتياز مباراة.. تجدها لا تشتغل، وهي بالسّلم (11)، وإذا أعطاها رئيسُها عملاً رفضتْه، ثم أخذت الهاتف النّقال، وشكتْ رئيسَها لـمَن يحميها؛ فيهدّد الرئيس، ويطالبه بالاعتذار لها ترْهقُه ذِلّةٌ، فيأخذ الملفّات من مكتبها، ويضيف عملَها إلى عمل موظّفٍ مكسور الجناح، في حين تستمرّ الموظّفة التي لها حمايةٌ، في اللّعب بالهاتف النقال، أو تغادر مكتبها دون استئذان، ثم لا أحد يسألها، ومَن سألها فويلٌ له.. ثم تجد الموظفين البائسين، يتابعون (دراما مسلسل الحوار الاجتماعي)، وهو من إخراج الحكومة، وبتنسيق مع نقابات ميّتة؛ وفجأة يفاجأُ الموظّفون بالزيادة في الاقتطاعات الشهرية من الأجور، وبزيادة ساعة في التوقيت، ليذوقوا العذاب، والموت البطيء؛ إلى متى؟
فتعرّجُ نحو التعليم، لتجدَ أنّ المشرفين على إصلاحه لا علاقة لهم بالميدان إطلاقا؛ فإذا بالمدرّسين يفاجؤُون بقرار الشغل بالعقدة، ومن جنود في خدمة وطنهم، وهم يخوضون معاركَ في الخنادق ضدّ الجهل والأمّية، وجدوا أنفسَهم قد تحوّلوا إلى مرتزقة يشتغلون بالتعاقد مع منظمات انقلابية، مثْل ما كان ذات يوم في [أنغولا، وملاوي، والكونغو]؛ والغريب في الأمر، تسمع كذبة إصلاح منظومة التعليم، فيما الإصلاح منطقيًا، وعقليًا، يجب أن يطالَ أوّلا أحوالَ وظروفَ الجنود، حتى يمكن كسْب الرّهان في معركة الإصلاح.. لكنّكَ وبعد تأمُّل ودون أن تشعر، ينفلت من لسانِكَ سؤال: [على مَن يضحك هؤلاء في هذه البلاد؟] وتسْمعهم يتحدّثون عن الانتحار وأسبابه، وطرُق معالجته، فيركّزون على (علم النفس)، وسياسة رئيس الحكومة (وهو طبيب مختصٌّ في (علْم النّفس))، هي من وراء ظاهرة الانتحار، بسبب البطالة، والفقر، والتهميش.. فالانتحار مردُّه إلى عدم التوفيق بين عالم داخلي مرهِق للفرد، وبيْن عالم خارجي محبط، وهو العالم المادّي المحيط بالفرد؛ فلكي يستقيم العالمُ الداخلي، لابدّ من إصلاح وتعديل العالم الخارجي؛ أما التعليل فقط بالحالة النفسية، فمن يعلّل بها كما يقول (التجريبيون) كمن يعلّل بلا شيء؛ وبذلك يحوّل الطبيب النفسي إلى (charlatan). خلاصة القول هو أنّ (أبا زُريْق) ثبت لدينا بالأدلّة أنه حقيقة في بلادنا وليس خيالاً كما كنّا نعتقد في السابق؛ وما دام (أبو زُرَيْق) موجودًا، فلا إصلاح ممكن في هذه البلاد رغم حماس (الطّبالة) في التلفزة، وهي تقدم لنا على شاشتها أوثانًا عُرِفَتْ (بضخامة المونة، وتعْواج القمُّونة)..