هو لم يعلم بترشيحه، إلا بعد أن دخل عليه السعيد إلى غرفة ذلك المستشفى السويسري الهادئ في جنيف. أمسك الأخ الصغير ورقة، وكتب عليها بخط عريض يظهر من بعيد « رشحناك للخامسة خويا ».
امتعض عبد العزيز، وندت عنه بادرة تأفف لم يستطع أن يحولها إلى كلمات.
أشاح بناظريه إلى الجهة الأخرى، ولمح من زجاج النافذة سماء جنيف الصافية على غير العادة في هاته الفترة من العام، وقال لنفسه « لا خيار، حتى الختام سيريدونك معهم، حتى الختام ».
أقلعت الطائرة من مطار جنيف الدولي دون راكبها الأساسي. الطاقم كان هناك، والمضيفات أيضا والسعيد وبقية العائلة المقربة. أما المريض فبقي في المستشفى يتابع عن بعد مايمكن متابعته، ويغفو في وقت فراغه المتبقي أي في بقية الساعات الثلاث والعشرين التي يدومها اليوم بالنسبة له.
المظاهرات في الجزائر تتمدد، والشعب خرج عن بكرة أبيه يتذكر سنوات النضال لأجل التخلص من التبعية لفرنسا ومن أجل العودة إلى الحرية، وحتى الصغار أصبحوا قادرين على ترديد الشعار بلكنة الطفولة ولثغتها الخاصة من نوعها « لانونيد..لانونيد…بوتفليقة والسعيد »، مقلدين الكبار وهم يصرخون في الشوارع « لانريد لا نريد بوتفليقة والسعيد ».
في المرادية أجواء حزن قبل الجنازة التي لن يطول زمن انتظارها بكل تأكيد، تخيم على المكان. الجنرالات يتحسسون الرتب العسكرية الكثيرة التي يضعونها على بزات متهالكة لم تخض إلا قليل الحروب، أهمها في نهاية المطاف حرب الرمال ضد…المغرب الجار الشقيق
يحاولون العثور على شبه مخرج من الفخ، ويكشتفون أن الزمن لم يعد متوقفا في ستينياته وأن الأشياء تغيرت، وأن هؤلاء الصغار الصارخين في الشوارع لا يشبهون شباب التسعينيات. هم لا يريدونها إسلامية ولا يريدونها عسكرية ولا يريدونها إلا جزائرية حرة، تخلصت من ماضيها العتيق الذي لا يمت للعراقة بصلة، بل ينتمي إلى القدم فقط، ويريدونها قادرة على التطلع بهم إلى المستقبل الذي ينتمون إليه ..
ليست لدى الجنرالات أدنى فكرة عن طريقة تصريف الوضع، وكل أعواد الثقاب التي استعملت في الفترات الماضية أضحت محترقة. أويحيي؟ الأكثر كراهية لدى الشباب .
لعمامرة؟ لا أحد يحبه.
الأخضر الإبراهيمي؟ ماضيه أطول بكثير من حاضره ومستقبله؟ من يخلف عبد العزيز؟ من يخلف عبد العزيز؟
في المستشفى السويسري الهادى يدخل السعيد مرة أخرى بورقة أكبر من تلك التي دخل بها أول مرة لكي يخبر الرئيس بعكس ما أخبره المرة الفارطة « أنت لن تترشح خويا ».
يتنهد المريض في غرفته بارتياح شديد، ويحرك رأسه هاته المرة دلالة فرح عميق اجتاحه، ثم يحرك حاجبيه طارحا السؤال بشكل أو بآخر « علاش؟ »
لا يكلف السعيد نفسه عناء الجواب، يجمع رفقة العائلة الأمتعة الكثيرة الموضوعة في الجناح، ويستحث الممرضين لنقل الرئيس إلى السيارة التي ستقله حيث المطار وبعدها إلى الجزائر العاصمة إلى الهواري بومدين، المطار نقصد وليس الرئيس الراحل…
تنزل الطائرة، وتلتقط العدسات صور الرئيس وهو يعبر ملوحا بيدين مرتجفتين نحو العدم.
يعلن الشباب العصيان، يقولون « هاته المرة باسطا »، و « المافيا لن تمر ».
يعلنونها بكل الوضوح الممكن: نعرف أن شخصا من العصابة هو الذي سيحكم، أوكي لا بأس ماعليهش خويا، لكن لن يكون هذا الرجل الذي يجعل العالم كله يضحك من الجزائر العظيمة »
يعدل الجنرالات في داخل القصر البزات العسكرية المتهالكة، تلك التي لم تخض حربا حقيقية واحدة، أو التي خاضت أهم حروبها ضد المغرب الجار، يتحسسون أماكن وضع النياشين الكثيرة والأوسمة الأكثر. يقول أحدهم للآخرين « c foutu ». يحركون الرؤوس جميعا دلالة الموافقة.
يقرأ التلفزيون في الليل الخبر أن العهدة الخامسة لن تكون. يهتز الشعب فرحا، ثم يواصل التلفزين قراءة البلاغ الجديد مخبرا الناس أن العهدة الرابعة ستستمر إلى حين.
تقف فرحة الجزائريين عند هذا الحد.
يتبادلون النظرات فيما بينهم في العاصمة، في وهران في تلمسان في المدية في قسنطينة، في باريس حيث يتابعون عن بعد أخبار « البلاد »، وفي مارسيليا أكثر مدن فرنسا جزائرية، ويتساءلون…
يترقبون،يستفسرون، يحارون ثم فجأة… يبتسمون في وجه بعضهم البعض ويقولون « لقد ابتدأت معركة التحرير الجديدة مرة أخرى ولن تتوقف عند هذا الحد خويا ».
تحياالجزاير خويا
المختار لغزيوي