في إحدى المقالات السابقة بعنوان: [منْ قال إنّ الحروب الصليبية انتهتْ] لاحظتُ بعد قراءة هذه المقالة أنّي لم أعْطِ أجوبةً كافيةً ولا أدلّةً شافية على استمرار الحروب الصليبية وإنْ كان المؤرّخون هم الذين قالوا بذلك، مما اضطرّني إلى صياغة هذه المقالة في محاولة لإيجاد أجوبة مقنعة، ولا أنكر أنّ العمل قد كلّفني ليلةً متعبةً وأنا ألتمس بيْن المراجع هذه الأجوبة، وقد جمعتُها وصغتُها في مقالة هي هذه التي بيْن يديْك سيّدي القارئ المحترم.. نحن نعْرف دينيًا وتاريخيًا أنّه لا مودّةَ بيْن يهود ومسحيين؛ ونعرف أن النصارى نكّلوا باليهود عبْر التاريخ قبل (هتلر)؛ ففي عهد الملكة [إيزابيلاّ] ملكة (إسبانيا) قام الرّاهبُ [توركيمادا] بإحراق آلاف اليهود، لأنّ اليهودي وإلى أواخر القرن (19) كان يلقَّب [يهُوذا الخائن]، وهكذا كان يلقّبه [هتلر] في خُطبه الحماسية، لأنّ [يَهُوذا] هو الذي أوشى بالسّيد (المسيح)، وكان سببًا في صلْبه كما هو معروف..
بدأتْ تظهر للوجود وبشكل جليٍّ ما يسمّى [المسيحية الصهيونية]، ولا شك أن وصول الرئيس [بوش] في يناير (2001) إلى رئاسة الولايات المتحدة الأمريكية كان يعني بكل وضوح وصول (المسيحية الصُّهيونية) إلى (البيت الأبيض)، حيث قال بالحرف: [إنّ تأييد (إسرائيل) مسألة يأمر بها (الكتابُ المقدّس)، واحتفاظ (إسرائيل) بالأراضي الفلسطينية ضرورة لأنّ الله يأمر بذلك].. (جورج بوش) مُخلِص لوصية جدّه [بريسْكُوت بوش] الذي قال في كتابه [حياة محمّد] ما نصُّه: [ما لمْ يتمّ تدمير إمبراطورية المسلمين، فلن يتمجّدَ الرّبُّ بعودة اليهود إلى وطنِ آبائِهم وأجدادهم]، ممّا يبيّن أنه كان يستبطن نزعةً صليبية وأنه كان يرى في الصهيونية امتدادًا للحركة الصليبية في الشرق.. لكن [بريسْكوت بوش] هذا، كان هو المتصرّف المالي للنازيين، وكان له مصنعان في (بولونيا) يشتغل فيهما السجناءُ اليهود؛ وها أنت ترى اليوم الرئيس (ترامب) تَصْهين، وابنته تزوّجت إسرائيليا عنصريا..
لكن على أيِّ أساس قامت (المسيحية الصهيونية)، وكيف صار المسيحيون يوالون اليهود؟ قام كلّ ذلك، على نصوص (الكتاب المقدّس) نفسه، بعدما تمّ تأويلُها وتفسيرها بطريقة شاذّة؛ كيف ذلك؟ هناك آية موجودة في كل الأناجيل، يعني (لُوقا ومتّى ومَرقُسْ) وأنا اعتمدتُ ههُنا إنجيلَ (يوحنّا) الإصحاح: (3 ــ 16): [هكذا أحبَّ اللهُ العالم، حتى لإنّه بذل ابنَه المتفرِّدَ الوحيد لينالَ الخلاص كلُّ من آمن به، وتكون له الحياةُ الأبدية]؛ فالله ضحّى بابنه (المسيح) على الصّليب فداءً لخطايا بني آدم، ولكي ينْعَموا بالخلاص.. فمن يقول إنّ اليهودي (يهوذَا) كان واشيا بالمسيح أو خائنا، فهو كافر ومُعْترض على إرادة الله؛ (يهوذا) كان مُرسَلاً من الله حتى تتمّ عملية الصَّلب؛ وهل كان الله عاجزًا عن تخليص (ابنِه) من عملية الصَّلب؟ فالمسيح ضحّى بحياته في سبيل كلِّ مَن يؤمنون به؛ يقول [أقْبِلوا عليَّ يا مَن تُرهقكُم الأحمالُ الثّقيلة، واطْرَحوا ردائي عليكم، وأنا أمنحكُم الرّاحة].. فلماذا يلجأ الله إلى هذه الحيلة، ويُعرِّض حياةَ نبي جليل للصلب، لينال ابن آدم الخلاص؟ فهو ربّ العالمين، فإنْ شاء غفَر، وإن شاء عذّب، (وما ربُّكَ بظلام للعبيد).. يقول السيد (المسيح) في القرآن الكريم: [إنْ تُعذّبْهم فإنهم عبادُك، وإنْ تغفرْ لهم، فإنّكَ أنتَ العزيزُ الحكيم]؛ كانت هذه الملاحظةُ سببًا في مَنْعي من متابعة دراستي بالمراسلة في مدرسة إنجيلية في (سويسرا) سنة (1978).. تلْكُم هي حرّية التعبير عندهم..
كان وزيرُ العدل [جون أشكروفت] أوّل من هاجم القرآن علنًا، وهاجم الإسلامَ معتبرًا أنّه دين (الموت): [إلاه المسيحية يضحّي بابنِه من أجل الحياة؛ أمّا إلاه المسلمين، فيأمرهم بأنْ يرسلوا أولادهم للموت]. ونحن نسأله: [وإلى أين أرسل الصليبيون أولادهم في القرون الوسطى؟]. إنّ المجازرَ التي ارتكبها (الصليبيون) في المدن الإسلامية قد لا تعكس مجرّد الخوف المرَضي والإسلام وأتباعه، بل تعكس درجةً متقدّمةً من الحقد والرّغبة في الانتقام، وكأنّ في الانتقام الدّموي البشع من المسلمين ضربًا من ضروب التعويض عن الخوف المزمن منهم ومن دينهم.. يروي أحدُ شهود العيان من رُهبان الفرنْجة الذين شهدوا احتلال (الصّليبيين) لمدينة (القدس) سنة (492) هجرية، قوله: [كان قومُنا يجوبون الشوارع، والميادين، وسطوح البيوت ليَرْوُوا غَليلهم من التّقتيل؛ كانوا يَذْبحون الأولادَ ويقطِّعونهم إربًا إربًا، وكانوا يشنقون أناسًا كثيرين بحبل واحد بغية السرعة، وكان قومُنا يقْبضون على كل شيء يجدونه، فيبْقُرون به بطونَ الموتى ليُخرجوا منها قطعًا ذهبية! فيا للشّرَه وحبّ الذهب، وكانت الدماءُ تسيل كالأنهار في طُرق المدينة المغطّاة بالجُثَث]..
وهكذا ترى سيّدي القارئ الكريم، أنّ الصهيونية هي وريثُ الصّليبية، وأنه لا فرقَ بيْن صليبي وصهيوني في قتْل، وذبْح، وتهجير العربي من أرضه، وقد ساندهم صهاينة عرب في سياستهم، ولا يجوز أن نلقي باللاّئمة إلاّ على أنفسنا نحن العرب.. نحن العرب نعيش استبدادًا طال واستطال تاريخيًا، وهو استبدادٌ لا يقتصر بهذا المعنى على الجانب السياسي، وإنّما يمتدّ ليشمل كافّة الجوانب التنظيمية: اقتصادًا؛ وتعليمًا؛ وإرادةً، وتشريعًا؛ وثقافة.. أما ثقافة الكراهية فترجِع إلى عناصر دينية، ومذهبية، وسياسية. ثم إنه من أبرز سمات هذا الاستبداد، الانفرادُ بالرأي في الشأن العام، أو فيما يتعلّق بالغير، ودون أيّ اعتبار لرأيه.. كلّها عواملُ تكرّس الجهل، والفقر، وتؤبّد الضعفَ، والوهنَ في الأمّة، وتجعلها عاجزةً تمامًا عن الوقوف على قدميْها؛ فكيف بها ستردّ أرضَها، وعِرضَها، وتكافح من أجل كرامتها بين الأمم؟! مستحيل!