كيف يمكن لمن أمضى عمرا بأكمله، يدافع عن المظلومين وعن الطبقات المسحوقة، وعن المستضعفين، أن يتورط في مبادرة مثل هاته لطرف قوي على حساب أطراف ضعيفة وجدت نفسها في مأزق وموقف لا تحسد عليهما نهائيا؟
هذا هو السؤال الذي طرحه كل من تناهى إلى علمه خبر مبادرة طلب العفو عن الصحافي ومدير النشر المتابع بتهم جنسية توفيق بوعشرين، وهي المبادرة التي قادها القيادي الوطني الكبير محمد بنسعيد آيت يدر والتحق بها إلى حد كتابة هاته الأسطر كل من امحمد الخليفة القيادي الاستقلالي البارز واسماعيل العلوي الزعيم السابق لحزب التقدم والاشتراكية…
مبادرة تروم البحث عن مخرج فوقي خارج القضاء لقصة بوعشرين من خلال التوجه مباشرة إلى المؤسسة الملكية طلبا للعفو عن الرجل، وإقفالا لهذا الملف الذي انتهت مرحلته الابتدائية قضائيا بإدانة بوعشرين بإثنتي عشر سنة سجنا…
الذين علموا بخبر المبادرة. تناهى إلى علمهم أيضا الموقف الواضح للقيادي الكبير والزعيم الحقوقي والسياسي البارز عبد الرحمان اليوسفي، الذي رفض تماما أن يتورط في الحكاية معتبرا أن المسألة بيد القضاء، ولا بد من احترام قضاء بلادنا في إطار احترام كل مؤسساته، خصوصا وأن الحكاية لا تتوقف عند بوعشرين لوحده أو عند طلب العفو عنه والسلام…
الحكاية تضم أطرافا أخرى مقابل بوعشرين، هن الضحايا المشتكيات اللائي انتصر لهن القضاء في المرحلة الابتدائية.
هؤلاء النساء والفتيات موجودات. هن لسن وهما، أو حلما، أو أسماء خيالية، وغير متحققة على أرض الواقع تم استلالها من العدم، وتقديمها في هذا الملف ثم تبخرت في الجو وانتهت حكاياتها…
لا، الأمر يتعلق بنساء، فيهن الأم، وفيهن إبنة العائلة، وفيهن قريبة العديدين والعديدات، وهن ضحايا في هذا الملف ولن يخرجن منه أبدا إلا بندوب كثيرة مست سمعتهن، ومست شرفهن، ومست صورتهن لدى الرأي العام الوطني ككل ولدى عائلاتهن ومقربيهن وأصدقائهن وكل من يعرفهن .
أكثر من هذا ، وهنا لا مفر من قول الأشياء مثلما هي مبادرة مثل هاته قد يتفهمها الرأي العام إذا كان توفيق بوعشرين قد توبع من أجل مقال لاذع كتبه هنا، أو من أجل الخط التحريري لمنشوره، أو من أجل قضية تتعلق بحريتي الرأي والتعبير.
الواقع الذي لا يرتفع هو أن بوعشرين في هاته الحكاية يتابع ليس بسبب ما كتبه قلمه ولكن بسبب ماارتكبه « قلمه » الآخر، ـ مباشرة وأعز الله قدر الجميع أو « حاشاكم » مثلما نقول في دارجنا - حتى أن الوسط الصحافي، الذي لم يندهش كثيرا للحكاية لأنه كان يعرف بعض التفاصيل القليلة أو الكثيرة لكن كان يعتبر الحكايات شأنا شخصيا وحرية فردية للرجل، (هذا الرأي العام الصحافي) أطلق عليه إسم « بوقلمين »، في إطار سخرية مريرة ومؤلمة، من حكاية غير ساخرة كثير،ا مست هذا الوجه الصحافي المشروك الذي لم ولن يغسل أبدا وتركت على الجميع آثارا، وإن تظاهرنا جميعا بأننا لم نكترث بها أو لم نعطها أكثر من قدرها..
في هاته الحكاية هناك ضحايا موجودات، وعلى القادة السياسييين الثلاثة الذين اعتبروا أن الضحايا يمكن محوهن من الوجود أن يفسروا لهن واحدة واحدة سبب هذا الاصطفاف ضدهن، والعلة التي جعلت قيادات سياسية وطنية في هذا العمر المتقدم والمديد والتي نرجو لها مزيدا من طول العمر تقرر أنهن كاذبات وغير محقات فيما ذهبن إليه، وأن بوعشرين لم يغتصبهن، ولم يمسسهن، ولم يقترب منه. وهو رب عمل كن أجيرات لديه فيه..
يجب على القيادات السياسية الثلاث أن تشرح للسيدة الحامل التي كانت تشتغل لدى بوعشرين ولصغيرتها التي كانت في بطنها آنذاك الحكاية التي منعتها من نقاء النسل الذي تضمنه كل الشرائع الأرضية والمساوية للناس. يجب أن يشرح السي بنسعيد والسي العلوي وسي الخليفة لزوج هاته السيدة الحامل وهو زميل صحافي محترم وكان يشغل لدى بوعشرين منصبا قياديا كبيرا في منشوره، والذي تعرض لطعنة غدر لا مثيل لها من طرف « بوقلمين » أن الأمر عادي وأنه من الممكن طيه بتقديم مبادرة يوقع عليها ثلاثة من كبار حياتنا الحزبية والسلام.
يجب أن يشرح القادة الثلاثة، ولهم منا كل الاحترام والتقدير للضحايا الأخريات اللائي تعرضن لكل أنواع التعريض بهن وبسمعتهن أن الأمر عادي، وأنه يحق لأنصار بوقلمين أن يقلن عنهن في مواقع التواصل الاجتماعي إنهن مجرد عاهرات رخيصات بعن أنفسهن فماذا يردن الآن؟
يجب أن يقنع السي بنسعيد والسي العلوي والسي الخليفة المغاربة، وهم يتقدمون بهاته المبادرة، أنهم سيقومون بالأمر ذاته حتى لو تعلق الأمر بقريبة من قريباتهن مستقبلا وجدت نفسها في مقلب سخيف مثل هذا، وتعرضت سمعتها للقتل الرمزي والمادي داخل مجتمع ينتصر دوما وأبدا للذكر وليس الرجل، ويظلم المرأة ويعتبرها مذنبة وإن كانت هي المظلومة التي تعرضت لكل أنواع الاستغلال.
ومرة أخرى لا مفر من قولها بكل الصراحة الممكنة ودون ذلك النفاق الذي أصيب به مشهدنا الصحافي منذ سنوات عديدة في مقتل: لو تعلق الأمر بقضية اعتقال لأجل رأي، أو مقال، أو كتابة، أو خط تحريري، لكانت هاته الجريدة بالتحديد المسماة « الأحداث المغربية » في مقدمة المدافعين عن بوعشرين، ولتصدت مثلما فعلت ذلك مرارا وتكرارا مع خصوم لها تعرضوا لهذا الأمر لأجل الدفاع عن حريتهم، والمطالبة بإطلاق سراحهم، معلنة جملتها الشهيرة التي رددناها دوما في مثيل هاته الحالات « أطلقوا سراح فلان فإننا نريد أن نختلف معه وهو حر طليق وليس وراء القضبان ».
لكن في هاته الحكاية بالتحديد، نجد أمامنا أسماء وصور وعائلات الضحايا، ونجد صعوبة في أن ننتصر للظالم ضد المظلوم، ونجد صعوبة أكبر في تمثيل دور من لم ير شيئا ولم يصدق شيئا، ولا يريد أن يعرف شيئا، لذلك لا نتصور أن مبادرة تروم توريط المؤسسة الملكية في العفو على مغتصب ضد ضحاياه هي الطريقة الأسلم لحل هذا الإشكال…
المنطق السليم في هاته الحكاية ، كما في حكاية حامي الدين التي لايراد هي الأخرى تركها تعرض على القضاء دون ضغوطات كثيرة، هو الامتثال لسلطة القانون، واحترام قضاء بلادنا والثقة فيه وفي أحكامه، وانتظار انبلاج الحقيقة كاملة، وعدم تلطيخ المسار السياسي الغني الذي صنعه الببعض بخطوات غير مدروسة كثيرا في أواخر العمر، لأن هذه الأشياء الأخيرة هي التي ستبقى، وهي التي سيتذكرها الوجدان الجماعي للمغاربة في الختام.
وصراحة، وبكل احترام الدنيا نقولها: لا نريد أن تظل الذكرى الأخيرة عنكم لدى الرأي العام -بعد العمر المديد الذي نتمناه لكل واحد منك - هي ذكرى الدفاع عن مغتصب في وجه ضحاياه النساء…
« مانبغيوهالكومش » بكل صراحة و « ماتبغيهاش حتى لعدوك » أيها السادة الأفاضل.
عيب في حق تاريخكم الذين بنيتموه على امتداد سنوات أن تهدموه بجرة قلم انتصرت ل « قلم » لايليق بكم أن تربطوا أسماءكم به.
إنتهى الكلام ولسيادتكم واسع النظر بطبيعة الحال…
المختار لغزيوي