في الوقت الذي يسيطر المشهد السياسي على الأوضاع الملتهبة في الجزائر في ظل ما تشهده البلاد من توتر متصاعد، على خلفية ترشح الرئيس الحالي عبد العزيز بوتفليقة، لفترة رئاسية خامسة رغم تدهور حالته الصحية، يركز الغالبية على مناقشة الاحتجاجات في الجزائر من المنظور السياسي دون غيره، إلا أنه في الواقع لا يمكن حصر المشهد في هذه الزاوية فقط، فالجانب الاقتصادي هو عامل أساسي يساهم بشكل رئيسي في تحفيز الجزائريين لمواصلة الاحتجاجات وربما رفع سقف المطالب.
وتاريخيًا لم تشهد الجزائر مثل هذا الحراك منذ اندلاع الانتفاضة الشعبية في عام 1988، وذلك عندما قاد الشباب احتجاجات واسعة بسبب البطالة المرتفعة وارتفاع تكاليف المعيشة والتدابير التقشفية القاسية، وهذا على مستوى الثقافة العربية أمر طبيعي، فالاقتصاد غالبًا هو ما يحرك الشارع ليطالب بتغيرات سياسية، لكن السؤال الآن، ما هي الأسباب الاقتصادية التي دفعت الجزائريين للاحتجاجات؟ وهل تدفع تلك الأسباب نحو استمرار الاحتجاجات لمدة أطول؟.
تتلخص أزمة الاقتصاد الجزائري في السنوات الأخيرة في هبوط أسعار النفط منذ منتصف 2014، فمنذ ذلك الوقت تقريبًا لم يجد اقتصاد البلاد طريقه نحو الاستقرار، إذ أن نحو 95% من الإيرادات في الجزائر تأتي بشكل مباشر أو غير مباشر من قطاع الطاقة، وهو ما جعل البلاد تفقد أكثر من نصف إيراداتها من النقد الأجنبي بسبب هبوط النفط، إذ هوت من 60 مليار دولار في 2014 إلى 27.5 مليار دولار في 2016، كما أن القطاع الإنتاجي بالجزائر يبقى هامشيًا، ويمثل أقل من 5% من الناتج الداخلي، وهو ما يقوّض فرص البلاد في التنوع الاقتصادي الحقيقي.
فمع مرور نحو خمس سنوات على تراجع أسعار النفط فشلت البلاد حتى الآن في شق طريقها نحو التنوع الاقتصادي، وعدم الخروج من التبعيّة للنفط بشكل شبه كامل لتغطية مصروفات البلاد، وهذا الفشل كان السبب الأساسي في تفاقم عجز الميزان التجاري، بسبب عدم القدرة على تعزيز الصادرات، وكبح جماح الواردات، وذلك في الوقت الذي تعتمد فيه الحكومة على سد العجز من خلال الاقتراض الداخلي (طبع النقود ) والسحب من الاحتياطات النقدية، التي كانت في 2013 نحو 194 مليار دولار، ومن المتوقع أن تصل إلى قرابة الـ 76.2 مليار دولار أواخر 2020.
هذا على مستوى الواقع الاقتصادي الكلي لكن على مستوى المواطن الجزائري، فقد بات يواجه منذ ذلك الحين كل أنواع التحديات الاقتصادية وهو ما ظهر في انخفاض لنصيبه بالدخل القومي كما توضح بيانات البنك الدولي، ففشل الحكومة في التعامل مع هبوط النفط جعل المواطن الجزائري هو من يدفع فاتورة هذا الفشل في عدة اتجاهات، سواء بطالة أو فقر أو تراجع في القوة الشرائية أو ضرر ناجم عن الفساد، ناهيك بالطبع عن إجراءات التقشف المستمرة، كل هذه الأسباب ساهمت في اشتعال الأوضاع في الجزائر حاليًا، فمن غير المتوقع أن هذا الحراك كان ليكون بالقوة نفسها لو فرضنًا استقرار الأوضاع الاقتصادية، وخلال السطور القادمة سنناقش هذه الأسباب بتفصيل أكثر.
الفساد.. الآفة التي تنهش في جسد اقتصاد الجزائر
من البديهي اقتصاديًا أن هناك ارتباطًا مباشرًا بين الفساد والتحسن الاقتصادي، فكلما زاد الفساد في مجتمع ما تأثر الاقتصاد سلبًا، وعندما ينخفض الفساد ينتعش الاقتصاد، فرغم الثروة النفطية الضخمة التي تمتلكها البلاد ما تزال الجزائر حتى الآن ضمن بلدان العالم الثالث بسبب تفشي الفساد على جميع الأصعدة، ومناقشة الفساد قد تحتاج إلى مزيد من الوقت، ولذلك سنقصر حديثنا على الفترة الأخيرة فقط.
يعتبر قرار الرئيس الجزائري في منتصف أغسطس (آب ) 2017، بإعادة السياسي المخضرم أحمد أويحيى إلى رئاسة الوزراء، ليحل محل عبد المجيد تبون الذي شغل المنصب ثلاثة أشهر فقط، بمثابة انتصار كبير للفساد في الجزائر، إذ لم يكن إعفاء تبون من منصبه وتعيين أويحيى، مجرد تغير سياسي بل كان تغييرًا في طريقة لحل الأزمة الاقتصادية بالبلاد، وكذلك تغير وسائل علاج عجز الموازنة، ولكن كيف ذلك؟
«أويحيى».. كيف استبدل محاربة الفساد في الجزائر بالضرائبَ والقروض.
انتهج تبّون منذ أول يوم له في رئاسة الوزراء سياسة واضحة، اعتمدت بشكل أساسي على محاربة الفساد، إذ يعتبر أول شخص يشغل هذا المنصب ويعترف بشكل صريح بوجود الفساد بقوة في بلاده، وهو الأمر الذي لاقى قبولًا واسعًا بين أوساط الجزائريين، بل أنه وضع يده على مكمن الفساد عندما قال: «سيكون من اليوم وصاعدًا حدود واضحة بين الدولة ورجال الأعمال، وسيتم التفريق بين السلطة والمال»، وذلك خلال عرضه مخططَ عمل الحكومة أمام البرلمان، لكن لم يصمد تبّون نفسه أمام هذا النوع من الفساد لأكثر من ثلاثة أشهر ووقع ضحية للفساد الذي حاول محاربته.
الوزير الأوّل الجزائري أحمد أويحيى
لا يمكن إنكار أن هذا الأمر يعتبر تحولًا مهمًا في الجزائر، لكن بشكل عام يعاني الجزائريون من تبعات الفساد السلبية، إذ لا تكمن الأزمة في القوانين ولكن في تطبيق هذه القوانين وإفلات الفاسدين من العقاب، وذلك عندما يفلت المتورطون مثل بعض المسؤولين على أعلى مستوى أو أقاربهم، في قضايا الفساد الكبيرة والفضائح المالية من قبضة القانون، وهو الأمر الذي يجعل المواطن العادي أو حتى المستثمر الصغير في عجز كامل عن مواجهة الفساد، فبحسب دراسة صدرت عن منظمة الشفافية الدولية في 2016 فإن 69% من الجزائريين يرون أن جهود حكومتهم في محاربة الفساد سيئة.
ووفقًا لمؤشر مدركات الفساد لعام 2017 الصادر عن منظمة الشفافية الدولية، احتلت الجزائر المرتبة 112 من أصل 180 دولة، وفي تقرير التنافسية العالمية 2017-2018، احتلت المرتبة 92 من بين 137 دولة في مؤشر «المدفوعات غير النظامية والرشاوى»، وهكذا يساهم الفساد في تشويه مناخ الأعمال في البلاد كل مرة وينفر المستثمرين، ويشعر المواطن العادي بأنه لا يحصل على حقه في البلاد، وهو ما ساهم في حماس المواطن للخروج إلى الشارع مؤخرًا.
البطالة.. مليون ونصف جزائري عاطلين عن العمل
لا يختلف وضع البطالة كثيرًا عن الفساد، فهي أزمة ضاق بها الجزائريون ذرعًا إذ تشير الإحصائيات الصادرة عن «الديوان الوطني للإحصائيات»، أن معدلات البطالة في الجزائر بلغت 11.7% في سبتمبر (أيلول ) الماضي، مقارنةً مع 11.1% تمّ تسجيلها في شهر أبريل (نيسان ) الماضي، وهو ما يعني وقوع ما يزيد على مليون ونصف جزائري تحت طائلة البطالة، وتوضح الأرقام أن معدل البطالة لدى الرجال ارتفع من 9% في أبريل 2018 إلى 9.9% في سبتمبر 2018، وهي زيادة كبيرة في مدة قصيرة جدًا.
«يلزمك الأكتاف لكي توظّف».. كيف تفاقم «المحسوبية» مشكلة البطالة في الجزائر؟
بينما يصل معدل البطالة إلى 29.1% لدى الشباب من الفئة العمرية (16 24 سنة ) في سبتمبر الماضي، مقابل 26.4% في أبريل 2018، كما بلغت معدلات البطالة لدى هذه الفئة 24.6% بالنسبة للرجال، و51.3% عند النساء، بينما يصل معدل البطالة عند شريحة الشباب البالغ من العمر 25 سنة وما فوق، إلى 8.9% في سبتمبر، وقدرت 7.4% لدى الرجال و15.2% لدى النساء.
وبالرغم من أن الأرقام المذكورة تعتبر كارثية إلا أن هذه الأرقام تتعرض إلى الانتقاد كونها بعيدة عن الحقيقة، إذ أنّ التقارير الحكومية تحتسب فقط العاطلين عن العمل الذين يتقدمون إلى مكاتب التشغيل لتسجيل أنفسهم، بينما لا تحتسب الأشخاص الذين تجاوز سنّهم 40 عامًا من الذين لا يملكون وظائف ثابتة، بحسب مراقبين، ومع هذه الأرقام كان من الطبيعي أن تشتعل الاحتجاجات في البلاد فهذا مناخ مناسب لمطالبة الناس بالتغير.
التضخم.. نتيجة حتمية للتوسع في طبع النقود
رغم أن آخر بيانات رسمية صدرت عن الديوان الوطني للإحصائيات، تشير إلى أن التضخم السنوي في الجزائر هبط إلى 4.2% خلال يناير (كانون الثاني ) الماضي مقارنة مع 4.3% في الشهر السابق مع انخفاض أسعار بعض السلع الغذائية، إلا أن التضخم يظل من أكثر الأسباب التي تثير غضب الشعوب عمومًا، و لأن زيادة الأسعار هو أول مؤشر يشعر به المواطن.
ويأتي التضخم في الجزائر نتيجة مباشرة لطباعة النقود بقوة والقيود على الواردات وانخفاض قيمة العملة، إذ اتجهت الحكومة إلى طبع النقود بكثرة خلال الفترة الأخيرة في محاولة لعلاج عجز الموازنة دون اللجوء إلى الاقتراض الخارجي، وهو ما يدفع التضخم للزيادة بسبب زيادة المعروض من النقود، وعلى الجانب الأخر أقرت البلاد قيودًا على الواردات؛ مما أدى إلى تعطل إمدادات وارتفاع أسعار بعض السلع الغذائية نظرًا لعدم كفاية الإنتاج المحلي.
ووفق تقرير صادر عن بنك الجزائر المركزي أنه ضخّ سيولة محلية في الأسواق بقيمة 2.18 تريليون دينار، حتى نهاية 2017، مشيرًا إلى أن قيمة الأوراق النقدية التي طبعتها البلاد حتى نهاية نوفمبر (تشرين الثاني ) 2017، تعادل قيمتها نحو 20 مليار دولار، في إطار التمويل غير التقليدي لسد العجز وتسديد الدين الحكومي الداخلي.
بينما طالب النائب عن حزب «جبهة التحرير الوطني»، الهواري تيغريسي، الحكومة ومحافظ بنك الجزائر، بالتوقف فورًا عن عملية طبع النقود التي بلغت أكثر من 55 مليار دولار على حد تقديره، موضحًا أن هذا الرقم مؤشر خطير ينذر بارتفاع ضخم في رقم التضخم سيرافق الجزائر والخزينة العمومية لـ10 سنوات كاملة.
يشار إلى أن محافظ بنك الجزائر محمد لوكال، كان قد أعلن في يناير (كانون الثاني ) الماضي، عن أن الدينار فقد 34% من قيمته خلال العام الماضي 2018، مع اعتماد البنك «سياسة التعويم الموجه» لمواجهة تبعات تراجع عائدات النفط وكبح فاتورة الواردات.
«طباعة النقود».. هل تكون الدوامة الأخيرة التي تُسقط اقتصاد الجزائر؟
الفقر يهدد 27% من الطبقة المتوسطة.
تعتبر الطبقة المتوسطة هي الطبقة الأكثر تأثرًا بالقرارات الاقتصادية الحساسة من رفع الدعم وزيادة الضرائب وتعويم العملة، فهي الخط الفاصل بين الفقراء والأغنياء، وهذه القرارات يمكن أن تصعد بها إلى الطبقة العليا، أو تهبط بها إلى الطبقة الفقيرة، كما أنها الطبقة المحركة للاقتصاد سواء من جانب الإنتاج أو الاستهلاك، فهي طبقة في وضع حساس جدًا، ويمكن القول أن هذه الطبقة هي التي تشكل النسبة الأكبر في الاحتجاجات في الجزائر وذلك بسبب ما تعرضت لها مؤخرًا.
إذ بدأ تدهور الطبقة المتوسطة مع انهيار أسعار النفط العالمية في منتصف 2014، فمنذ ذلك الحين تغيرت الأوضاع الاقتصادية في البلاد، إذ خفضت الجزائر من نسب الدعم الموجه للوقود وبعض المنتجات الغذائية، بينما اتجهت تدريجيًّا نحو الدعم النقدي، وذلك استجابة لتوصيات صندوق النقد الدولي، فيما انخفض نصيب الفرد من الناتج المحلي الإجمالي انخفاضًا حادًا خلال هذه الفترة
وإجراءات التقشف الشديدة التي لجأت إليها الحكومة الجزائرية كان للطبقة المتوسطة نصيب الأسد فيها، وسط معاناة البلاد وتباطؤ اقتصادي كبير، وهو الأمر الذي ظهر بوضوح في موازنة 2017 التي قدرت نفقاتها بنحو 63 مليار دولار، مقارنة بـ110 مليارات دولار نفقات في موازنة 2015، وهو تراجع حاد، كان أثره أن الجزائريين واجهوا موجة غلاء شديدة طالت كل أسعار السلع والمواد الغذائية.
وبالرغم من أن الطبقة المتوسطة عاشت فترة يمكن تسميتها بالوردية منذ عام 2010 وحتى 2014، وذلك من خلال رفع الأجور، وإقرار زيادة في الحد الأدنى، لكن حاليًا تعيش هذه الفئة ظروفًا سيئة في ظل تدهور قدرتها الشرائية بسبب تراجع قيمة الدينار وارتفاع الأسعار، وبحسب دراسة صادرة عن البنك الأفريقي للتنمية فإن 27% من الطبقة المتوسطة في الجزائر باتت مهددة بالفقر.
ومع تزايد هذه الأرقام فنحن بالطبع أمام تقلص ملحوظ للطبقة المتوسطة، وسط تمدد كبير للطبقة الفقيرة، خاصة أن مديونية الجزائريين لدى البنوك تسجل ارتفاعًا من سنة إلى أخرى، بالإضافة إلى التخلف عن السداد، في إشارة واضحة إلى عجز الجزائريين عن التعامل مع الظروف الاقتصادية الحالية، فبحسب تقرير لبنك الجزائر فإن 1071 مليار دينار قروضًا خرجت من البنوك ولم تسدد.
في النهاية ربما لا تكون هذه الأسباب فقط هي المحرك الرئيسي للاحتجاجات في الجزائر، لكن يمكن القول بأنها أبرز الأسباب التي زادت من اشتعال الوضع في البلاد، بينما استمرارها سيدفع الجزائريين إلى عدم التراجع عن مطالبهم بسهولة، وهو ما يرجح استمرار الاحتجاجات لمدة أطول.
سكينة عشوبة طالبة وباحثة