إن الذين تتراءى لهم مصابيح مضيئة في مظاهرات الجزائر بعد كل التجارب الحالكة المتكررة لشعوب الشرق الأوسط وشمال أفريقيا والتي تنتهي كلها الى محرقة شاملة؛ لهم ممن لا يعتبرون حتى ولو بألف تجربة وألف رأس مقطوعة. فإذا كان الغربيون في صحفهم وتحليلات مراقبيهم ومراكز أبحاثهم ينظرون الى الشعارات الرنانة والحشود الملتحفة بالإعلام الوطنية وزغاريد النساء على انها أعراس الحرية وانوار فجر الانعتاق من قبضة حديدية لنظام عسكري غاشم؛ فان الذين هم في الداخل يفترض انهم على معرفة عميقة بالمرجعية التي تضمرها غالبية تلك الجموع، والتي ليست سوى مرجعية الأصوليات الإسلامية الأشد بربرية وهمجية، وما ان تتراخى عنها يد الأمن وتترك لطبيعتها وديناميتها حرية الحشد والتفاعل حتى ترتع في مجاهل الحروب والتقتيل وتنادي بعضها لأداء فريضة الجهاد المقدس.
لسنا هنا نرسم صورة سوداوية ماكرة ومغرضة، ولا نحن ضد قيم العدالة الاجتماعية والحق في التعبير عن الراي ولا حتى ضد المنطق الواضح الذي يصرخ في وجه العبثية والغباء بأن رئيسا مشلولا لا يمكن بحال ان يستمر في استغفال شعبه، ولا نحن ننحدر في مدارج الميلودراما التي تميل نحو التهويل والمبالغات والتخويف والمهاترات، ولكنها الحقيقة التي وقفنا عليها بالبحث والاستقراء الموضوعي والمقارنة والقياس بعد كل هذه السنوات التي تلت ما سمي بالربيع العربي والاحداث التي تخللتها، وهي النتيجة التي ستظل في رايي تتكرر وتتعزز مادامت المقدمات التي تصنعها متوفرة والعوامل التي تنتجها حاضرة، وإنه لمن صميم معنى السفه ان يكرر الناس الأخطاء نفسها في كل محاولة وينتظرون نتائج مختلفة.
ان الشعب الجزائري، أو الجيل الفتي منه الغالب عليه، و الذي يمثل زهاء أربعين في المائة منه شباب دون العشرين، قد نبت في احضان الأصولية الإخوانية والوهابية التي أرضعته حليبها و منحته هويتها وطبعته بخصائصها العامة وتصوراتها الكلية، وفِي وجدانه السياسي النامي و رؤيته للعالم والتاريخ خيال ممارسات القرون الوسطى وآمال عريضة لاحياء ارث الغزوات وأحلام الجهاد، هذا الجيل الذي يحمل مشروعا جهاديا يشكل الكتلة الحرجة في المظاهرات، اما الآخرون الذين يركز عليهم الاعلام في البدايات يحملون احلاما وآمالا مدنية وديموقراطية فسرعان ما تسحقهم الجحافل تحت اقدامها عندما يختلط حابل الامور بنابلها.
هناك تراث وهابي متخشب محشور في زور الجماهير الغاضبة.. هناك حنق شديد على واقع لا يَرَوْنه الا على ضوء ما يسمعون ويقرؤون ويتلقفون من اقلام و افواه الايديولوجيا والأيديولوجيين الذين يترصدونهم في كل مكان وفوق كل منبر وتحت كل لسان. فهي جموع تثور ليس على الفساد المالي أو التسلط السياسي، فتلك مجرد وسائل نقل وانتقال، وآلات عبور وتعبير ومجازات ومحطات عليهم ان يمروا بها لانها روح التغيير واثارة الاعجاب في الحضارة المعاصرة.. وليست الديموقراطية غايتهم، فهي المركب الخشبي الذي يركبون متنه مرة واحدة ثم يحرقون أشرعته بعد الوصول، فما هي غاية الجماهير؟
انها -ولا افشي سرا عندما أقول- جماهير تتوق للخليفة الاسلاموي الذي يقيم لها الحدود الجنائية ويصيغ لها القوانين على الطريقة الفقهية، ويفرض نوعا معينا من التعاملات المالية في الاقتصاد ونمطا من المظهريات المتاحة في الهندام، ويقرر للجنسين نوعا محددا من الوظائف الحصرية، ويحدد أنواع السلوكات المقبولة والمرفوضة، وأنماط الفنون التي تمارس والآداب التي تقرا والأناشيد التي تسمع…
فهي -الجماهير- صورة وفية للكراهية والتطرف ورفض التسامح والتعددية، وهي حبلى بدوغمائيات كارهة للأمم الأجنبية والأديان البشرية والثقافات المختلفة، وهي قاسية صارمة لا تتوانى عن اللجوء الى العنف باعتباره جهادا بالنفس لتحقيق ما تتوهمه إرادة الاهية، وترى من يقف في وجه مقصدها وأهدافها معاند ومحارب لتلك الإرادة التي لا تقبل الأخذ والرد، وبالتالي تَستحلّ غير عابئة الدماء والأعراض، وتدمر في نشوة هياجها البنيان والعمران، وتستمر في حصد كل ما يقف في وجهها حتى تحقق مرادها او تنال وسام استشهادها.
ان الكتاب والروائيين الجزائريين مثل ياسمينا خضرا او داود كمال او بوعلام صنصال الذين يملأون الصحف الفرنسية هذه الأيام بالأشعار والأماني الرومانسية التي تشبه عمل الكهانة في تنبؤاتها بالقادم المشرق الجميل عن حراك الجزائر الذي تتغنى به الدنيا شرقها وغربها، ويرسمون لقرائهم لوحات ملونة يتفنون في زخرفتها ونقشها على ما تشتهي الأذواق الديموقراطية والقرائح الليبرالية؛ فهم على شاكلة المترفين الحالمين وهم لشدة اغترابهم باتوا خارج السياق تماما وخارج الزمن الحقيقي لشعوبهم، ولا زالوا ينظرون الى الجزائر بمنظار الستينات قبل اجتياحها من طرف التيار الإسلامي، وحتى من يدرك منهم تلك الحقيقة فإنه يخفيها بين عطفيه و لا يجرا على النطق بها في اجواء الحماس والإخاء والالتحام الوقتي الزائف الذي تعيشه الجماهير الهائمة في شوارع الجزائر. والحق أن كثيرا من الكتاب العرب في الغرب عندما يكتب للفرنسيين تحذوه رغبة محمومة ليصف لهم شعبا مدنيا عصريا كما تتمناه نفسه ويرسمه خياله لا كما هو في واقع الحال.
والذي يعتقد انه من المفروض ان يكون هناك حل فليس هناك في الحياة امرا حتميا او مصيرا مشرقا لابد ان تنتهي اليه الامور، تلك أماني الحكماء وتعابير الحِكَم والأمثال الأدبية السائرة لكنها ليست حقيقة الحياة وسجيتها، وليس التاريخ والتجربة مما يؤيدها ويسندها، وليست هناك حتمية تقول بان شعوب الشرق الأوسط ستجد مخرجا من النفق المظلم الذي تتخبط فيه لا بالثورة على انظمتها ولا بالركون اليها، وقد تستمر على حالها حتى تنفذ ثرواتها الطبيعية ثم ترتد الى حال من المجاعة والبؤس الاجتماعي التام مع تضاعف النمو الديموغرافي، وسيظل مستقبل أجيالها كئيبا عابسا لانها رافضة للعلم والحداثة اللذان هما السبيل الأوحد لخلاصها والتحاقها بركب الحضارة الذي بدأ إيقاعه يأخذ نمط الطفرات وليس الخطوات.
ولكن الحل الواقعي والمجدي هو الاستبداد المستنير، شاء من شاء وكره من كره، المستبد المستنير الذي مدحه فولتير وأيده هو الذي يأخذ بيد الشعوب المتخلفة نحو العلم والتنوير، نحو الثقافة والاخلاق العلمية التقدمية، بداية بالتعليم الحديث و مرورا بتحرير المرأة وإدماجها وتطوير الاقتصاد وتنويعه الى امتلاك ناصية الخيال والبحث العلمي وروح الإبداع والابتكار، من هنا فقط تبدا المسيرة في هذه المنطقة المنكوبة من العالم، اما الثورات والانقلابات فقد جربتها العرب لستين عاما فما أفلحت.
طه لمخير