يجلس الرجل في الصفوف الخلفية. يرفع اليد بالدعاء. يضع قربه الحذاء العادي والبسيط. يصلي مع المصلين ويذهب لحال سبيله بعدها. هو أيضا لهج مع من لهجوا يومها بالذكر المأثور "اللهم اسق عبادك وبهيمتك, وانشر رحمتك, وأحي بلدك الميت". رأى الناس في الجلسة كلها, في الجو العام بأكمله صورة تواضع لم يألفوه في الوزراء وتساءلوا "واش حنا على عتبة شي حاجة جديدة في هاد البلاد؟". تركوا الإجابة للأيام المقبلة, ومضوا إلى أشغالهم يبحثون عن رتق ماعلق منها وما لايريد أبدا الانتهاء.
جالت الصورة كل الأمكنة. بنكيران جالسا على حصير عادي يوم صلاة الاستسقاء يطلب الغيث للبلد الذي أصبح رئيس حكومته منذ أسابيع قليلة. لكن ما بقي في ذهن الناس هي البساطة التي ميزت الرجل والتي ربما ستحمل الولاية الحكومية الحالية شعارها, وستكون الميسم المميز لوزراء العدالة والتنمية في مشوارهم الحكومي الصعب.
لنتفق منذ البدء. المظاهر ليست هامة إلى هذا الحد, والمغاربة يريدون من وزرائهم الجدد الاشتغال والإنتاجية, لا التواضع, لكن ومع ذلك تبقى هاته الحركات "المسرحية السياسية" أساسية لإبلاغ رسالة هامة إلى شعبنا مفادها أن شيئا ما قد تغير, وأن "الناس اللي فالحكومة دابا" ليسوا على شاكلة أغلبية من سبق من هناك.
الشعب أيضا يريد أن يرى أشباهه في الحكم, أن يعرف أو يوقن أو يحس أن الوصول إلى المناصب العليا لم يعد أمرا حصريا ومحصورا على أبناء الذوات من "الناس الألبة" الذين تعودوا في المغرب على قطف كل الملذات أمام أنظار شعب جائع يعد لهم يوميا عدد اللقيمات الكبيرة التي يزدردونها, ومن قرر أن الزمن هو زمن بنكيران وصحبه اليوم في الحكومة فهم جيدا أن الناس ملت هاته الفرجة الأحادية الجانب, واقتربت من اللحظة الشهيرة, تلك التي يقف فيها كلب متفرجا على سيده وهو يأكل ويأكل دون أن يفكر ولو في رمي عظمة صغيرة إليه, فيقرر الكلب _ أعز الله قدر الجميع _ أن يقفز على العظمة وعلى وجه سيده لكي يأكل الأولى, ولكي يشوه الثاني.
الحمد لله لم نصل إلى هاته المرحلة "الكلبية" بعد ولا نريد الوصول إليها, ولا نقارن أصلا بين الكلاب وبين مايقع لدينا, مع أن الكلب حيوان وفي وجميل وفيه من الخصال ما قد لا يتوفر في كثير من الآدميين, لكن ماعلينا. لنبق مع استسقاء بنكيران يوم الجمعة الفارط, ومع المشهد المتخشع الذي نعتده من رؤساء الحكومة عندنا, على الأقل منذ أن وعينا نحن كجيل وسط على السياسة مثلما ترتكب في المغرب. ذلك أنه لم يسبق لنا أن رأينا الوزير الأول (مثلما كان يسمى سابقا) جالسا على الحصير, بل نحن جيل كان "القايد" يحظى لدينا بالكرسي الأكثر فخامة في المدينة كلها, وكان الشرطي يأخذ "براد الأتاي" من داخل المنزل, وكان المخزني قادرا على أن يصنع الربيع والشتاء في الأحياء التي نقطنها, حسب "المورال" الذي استيقظ به كل صباح.
لذلك نفرح حين نرى بنكيران يطلب معنا الغيث كأيها الناس, ونفرح قبلها عندما رأينا ملك البلاد يبدأ هذه العملية ويمشي قرب الناس, ويقف في الشارات الحمراء, ويحيي فقراء القوم, ويعانق مرضاهم, بل ويمر في "الغيس" مثلما تقول الصورة الشهيرة. لماذا هذا الإحساس؟
هو في النهاية أمر طبيعي. فنحن نريد لمسؤولينا أن يعيشوا معنا الأشياء التي نعيشها بالتحديد. أن لايكونوا مسؤولين عنا نظريا فقط, وأن يعرفوا القليل أو الكثير من "التكرفيس" الذي يحس به الناس, وأن يعطونا الإحساس أنهم كائنات آدمية تشبهنا في نهاية المطاف. تعم هي تمكنت من أن تسير شأننا العام, وأعطتها صدف حياتية كثيرة مسارات معينة انتهت بوصولها إلى هاته المناصب التي هي فيها حاليا,لكن هذا لايعني أن تبقى في أبراجها العاجية بعيدة عن خلق الله, تراقب من بعيد وتسمع فقط عن شكاوى الناس ولا تعرف عنها "الذي بعث" في الختام.
هذا الدرس المغربي, وهذه الحصة من الترويض التي تشبه أي حصة علاجية من اللازم علينا وعلى وزراء الحكومة الجدد أن يمضوا فيها حتى النهاية, فهم أعرف منا أن الوزراء السابقين لم يتركوا أي مناسبة لاستفزاز الناس بلعبة المظاهر البئيسة هاته, ولسنا بحاجة حتى لكي نتذكر أودي منصف بلخياط, فقد مضى الرجل ومضى من اقترحوه للاستوزار يوما بوزر كل مافعله في القطاع, وأتى أناس لايترددون في القدوم بسيارات "الكانغو" إلى القصر دلالة أنهم "ماجايينش يشفرو, ولكن جايين يخدمو".
هل تستمر هذه الحالة حتى بعد الممارسة الحكومية؟
ذلك رجاؤنا جميعا, فلقد مل الشعب من "الشفارة" ونريد تجريب حظنا ولو لمرة واحدة في الحياة قبل أن نضمحل وننمحي منها, مع أناس مغاربة من بني جلدتنا يصلون إلى مناصب سامية, ويشتغلون فيها, قد يصيبون وقد يخطئون, لكنهم حين يغادرونها يخرجون منها مثلما تخرج الشعرة من العجين, مثلما دخلوا أول مرة دون أي انتفاخ في الجيوب أو الحسابات أو أي شيء آخر من مواطن الشبهات التي يعرفها الناس حق المعرفة وحق اليقين.
هل الأمر مستحيل وصعب إلى هذه الدرجة؟ دعونا نعطي لهؤلاء الجدد حق الشك, ولنر بعدها ما الذي يمكن أن يحدث, فأنا "بعدا" مقتنع أن شعبنا ليس كله "شفارا", وأن من بيننا بعض الصالحين.
نتسناو ونشوفو