يونس دافقير
ربما كان بعضهم ينتظر أن يصطف الأمنيون على جنبات شوارع الرباط ويوزعوا الورود على أفواج بشرية اختار محرضوها، عن قصد وسوء نية، أن تتجه رأسا ودون أن تعرف الوجهة نحو القصر الملكي بتوجيه من فاعل يعرف إلى أين يذهب بالناس.
وكان لزاما أيضا ربما، حسب هذا البعض الجبان في كشف هويته دائما، أن تخفر سيارات الشرطة ودراجيها وخيالتها، وعلى أنغام الجوقة النحاسية، المئات من الأساتذة المتعاقدين وهم في طريقهم إلى اقتحام المشور السعيد.
في الفوضى الديمقراطية غير الخلاقة وحدها يمكن أن تتحقق مثل هذه الأوهام، أما في المجتمعات الديمقراطية التي تلتزم بالمشترك القانوني وبتوقير رموز الدولة، فالجواب يكون أمنيا حين يرفض منفلتي التظاهر أجوبة الإقناع القانوني.
وطبعا، هناك الكثير ممن قالوا إن بصمة الوالي محمد اليعقوبي القادم من الحسيمة إلى الرباط كانت حاضرة في الأحداث، لكنه ربط تعسفي بين الأزمنة والسياقات والأحداث، وأي مسؤول أمني مهما كانت تسميته وهويته، لا يمكن أن يسمح بخرق قانون التظـاهر، ولا بتنظيم مسيرة غير مرخص لها، ولا بأن يبلغ الانفلات أوجه بتوجيه شباب غير مؤطرين، ولا واعين بما يقترف باسمهم، في مسيرة نحو القصر الملكي.
والذين سبق لهم وأطروا عشرة آلاف متعاقد في تنسيقيات وطنية ومحلية، وأولئك الذين لديهم القدرة على استقدام ذاك الكم البشري الهائل إلى الرباط وتوحيد شعاراته والتحكم في مسارات احتجاجه، هم أنفسهم الذين خططوا لأن تكون مسيرة الأساتذة المتعاقدين في الرباط جبهة متقدمة في تصفية الحساب السياسي مع رموز السيادة والدولة، وسعوا بكل ما أوتوا من قوة لأن يجروا قوات الأمن نحو المواجهة.
وكانت مثيرة للدهشة حقا تلك المشاهد التمثيلية لمتظاهرين ممدين على الأرض كما لو أنهم تعرضوا للقصف في اليمن أو سوريا، كل شيء في الإخراج المشهدي للوقائع كان يؤكد أن الإخراج والسيناريو متحكم فيهما مسبقا، وآلات التصوير وعبارة «بارطاجي» يا مواطن كانت جاهزة.
كان إخراجا مسرحيا لمزيد من خطاب البؤس والعدمية والشعبوية.
وفي ما حدث في الرباط، كان البعض ضحية لسياسات رئيس الحكومة السابق ووزرائه في التوظيف، وكان البعض الآخر قد تصيد هذه الهدية الثمينة حتى قبل أن تنضج ثمار فاكهتها.
كلهم كانوا هناك في الرباط: ثلاث مركزيات نقابية، هيئات تنسيق فئوية من بينها الأساتذة المتعاقدون، جماعة العدل والإحسان... ولكل حسابه الذي جاء لأجله بعيدا عن الشعارات الرسمية للإضراب الوطني في الوظيفة العمومية والجماعات المحلية.
مسيرة الأساتذة المتعاقدين كانت فرصة للعدل والإحسان من أجل توجيه رسائلها للدولة من جديد: نحن القادرون على التحكم في إيقاع الشارع، ويمكن أن نقود المتظاهرين نحو القصر الملكي وتلك الرسالة الأكثر عنفا، وإن اقتربتم مجددا من مساكن عبادتنا سيكون ردنا ميدانيا كما كان كذلك في جرادة وغيرها.
والنقابات، التي دعت إلى الإضراب، لاختبار قدرتها على شل الإدارات العمومية في وجه سعد الدين العثماني احتجاجا منها على أزمة الحوار الاجتماعي، وجدت نفسها في الرباط مثل صاحب العرس، الذي انفلت منه الحفل وعبث به ضيوف غير منضبطين، كانت كارثة تأطيرية بامتياز، وإلا كيف يمكن أن تدعو لإضراب وأنت عاجز عن تأطير مسار أشكاله الاحتجاجية؟ وكيف تسمح لتظاهرة غير مرخص لها بأن تندس وسط الإضراب النقابي؟
وفي أصل كل هذه الحكاية الحزينة فاعلون لم يعودوا في صدارة مشهد المسؤوليات العمومية، وضعوا قنبلتهم الاجتماعية بإحكام وانسحبوا بهدوء ليحصوا من بعيد خسائرها وضحاياها.
والذي حدث هو أن تحالفا انتهازيا وقع بين السياسي والتقنقراطي: اعتقد رئيس الحكومة السابق المهووس بالخطابة في البؤس أنها فرصة أخرى للتواصل الانتخابي فوافق على توظيف الآلاف بالتعاقد، ووجدها وزيره في التربية الوطنية فرصة ذهبية لتيار التقنقراط في إبراز مهاراتهم في وضع الأرقام حول تراجع الإنفاق واستعادة توازنات الميزانية.
وغادر الطرفان الصفقة رابحين، والنتيجة البئيسة كانت من نصيب المتظاهرين والأمنيين، بينما الثمار السياسية، أو ما يعتقد البعض أنها كذلك كانت من نصيب المزايدات النقابية والإسلاموية المناهضة للدولة ورموزها.
وتلك صورة أخرى للحالة التدبيرية الفاشلة، التي يؤدي فيها البحث عن حلول انتخابية ومالية ظرفية وعابرة إلى خلق حركة اجتماعية جديدة يتربص بها الكثيرون في سوق المزايدة السياسية.
نعم هو تدبير فاشل يذهب اليوم ضحيته الآلاف من الشباب الذين اختاروا بمحض إرادتهم أن يشتغلوا في إطار عقود، قبل أن يتدخل من يقنعهم بأن معركتهم يجب أن تكون من أجل الترسيم.
وكل عاقل يعرف أن ميزانية الدولة لن يكون بإمكانها ترسيم عشرات الآلاف في وظيفة عمومية منهكة وتنهك معها ميزانية الدولة، وحتى الهوامش المالية المتاحة لا تسمح بتحمل عبء يهدد بنسف التوازنات المالية الهشة أصلا.
لقد كان هناك من باع الوهم للأساتذة المتعاقدين، ومازال مصرا على الاستثمار في هذا الوهم لتأزيم الوضع وتوظيفه سياسيا، والذين يقولون الحقيقة كما هي لمتظاهري الرباط ليسوا ضد حقهم في الشغل، ولا في الاستقرار المهني، لكن المطالب لها سقف واقعي وممكن التحقق، وليست أوهام تعجيزية لن تخدم لا مصلحة الأساتذة ولا مصلحة الدولة، لكنها تهدد بمزيد من الاحتقان الذي يخدم أجندة التخريب المعروفة عناوين أصحابها.