حتي الآن ما زلنا بعيدين عن النقاش الجدي، وما يسود في الساحة السياسية هذه الأيام شعبويتان تثيران الضجر بالنسبة إلي على الأقل، شعوبية اتحادية في قراءة الدستور، وشعبوية العدالة والتنمية في تسويق وزرائه.
منذ جلسة انتخاب رئيس مجلس النواب، والاتحاد الاشتراكي يواصل غاراته الدستورية على الحكومة، يطعن تارة في شرعية تسليم السلط، ويدفع تارة أخرى بعدم دستورية وجود وزير دولة أو أمين عام في التشيكلة الحكومية، ثم يختم هجوماته بالطعن في دستورية انعقاد المجلس الحكومي، وعرض مشروع البرنامج الحكومي علي المجلس الوزاري.
هي بالفعل غارات مكثفة، إنما برصاصات طائشة، أو بقذائف فارغة إن شئنا التدقيق أكثر، حتى اليوم لم تقنعنا دفوعات الاتحاديين، فوفق ما أرى في منطوق الدستور وروحه، لا شيء في عملية تشكيل الحكومة الحالية تم خارج المقتضيات الدستورية، وقطاع واسع من المسؤولين الاتحاديين في القيادة مقتنع بالأمر، لكن قد تكون ضرورات الممارسة المبكرة للمعارضة الاتحادية، هي ما أنتج هذه الفقاعات الدستورية.
بالفعل، وحده الاتحاد الاشتراكي مؤهل بين أحزاب المعارضة للدفاع عن التزيل الديمقراطي للدستور، لكن ليس بهذه العجلة والإسهال، إن معركة الاتحاد باسم قوى الديمقراطية والحداثة، هي في وضع القوانين التنظيمية للدستور، في الدفاع عن تنزيل فصل السلط، إنها في الحماية الديمقراطية للحريات الفردية والجماعية، وفي إعمال مبدأ المناصفة والمساواة بين الجنسين، في سمو الاتفاقيات الدولية علي التشريعات المرتبطة بالمرجعية الدينية، وفي جعل الهوية الأمازيغية تجد في الواقع السياسي والتدبير نفس السمو الذي وضعها فيه الدستور الجديد…
في الضفة الأخرى، يمضي العدالة والتنمية غير مبال بالشعبوية الاتحادية، ربما لأنه بدوره منشغل بنوع آخر من التدبير الشعبوي لعمليات التواصل وتسويق وزرائه حتي أنه يبدو لافتا للانتباه، كون هذا التسويق لا يشمل سوى الوزراء الإسلاميين، ويستثني من عملياته وزراء الاستقلال والحركة الشعبية والتقدم والاتشراكية.
لقد كانت بالفعل لحظة تواصلية وتسويقية مؤثرة حين فتح رئيس الحكومة بيته للصحافة، أتاحت لنا اللحظة أن نتعرف على بنكيران الإنسان، والأب والإبن والزوج، مثلما تعرفنا علي تفكير زوجته ووالدته وابنه وابنته… مرة أخرى، هي بالفعل لحظة كانت قوية ومؤثرة، لم يسبقه إليها أي من الوزراء الأولين السبعة عشر الذين تعاقبوا على حكومات المغرب منذ الاستقلال، لكن، وكما يبدو ذلك بالفعل، فإن الإفراط في التواصل والتسويق يقتل التواصل والتسويق.
لم يعد من معنى لأن يجري تسويق صورة بنكيران وهو يبكي أو يصلي في الصفوف الخلفية خلال صلاة الاستسقاء، ولا تسريب خبر زيادة عبد العزيز الرباح في أجور عاملات النظافة، ولا فتح الخلفي المصعد للعموم، أو أداء الحبيب الشوباني الصلاة مع موظفيه في مسجد الوزارة، أو استغناء أعضاء الحكومة عن سيارات الدولة إلا في حالات المهام الرسمية…
يبدو لي العدالة والتنمية حزبا ذا شرعية انتخابية لا تناقش، وتعاطف شعبي تعكسه أرقام الانتخابات، ووفق هذا المنطق، هو ليس في حاجة إلى كل هذه التسريبات التي تؤجج المشاعر وتدغدغ العواطف. إن شعبوية من هذا القبيل قد ترفع سقف الطلب الشعبوي، ويصبح وزراء الحزب أمام اختبار لكل هذه الصورة الإنسانية، حين تتم مطالبتهم بالتخلي عن تعويضات الوزارة حفاطا على النفقات العمومية…
أنا لست من دعاة الشعبوية الصحافية التي تشهر بتعويضات الوزراء، لأني أعتبرها من صميم أعباء الدولة تجاه رجالاتها ومسؤوليها، لكن ينبغي لنا الآن أن ننتقل من اللحظات الإنسانية وأخبار “البيبل” التي طال أمدها كثيرا، إلى الأمور الأكثر جدية، إن ما ينبغي أن يسود ساحة النقاش العمومي الآن، هو تدابير التحكم في عجز الميزانية والميزان التجاري، وكيفية تمويل الاقتصاد والاحتياط من تداعيات الأزمة الأوربية، وأي معدل نمو ممكن هذه السنة للاستجابة للطلب المنفجر علي الشغل، وكيف يمكن تدارك العطب الحاصل في تمثيلية المرأة…
أجل، سواء بالنسبة للاتحاد الاشتراكي، قطب المعارضة، أو العدالة والتنمية، قطب الحكومة، الوضع المغربي صعب، يحتاج لكثير من الجدية، وبكل تأكيد، لن يكون الجواب عن انتظاراته في الفقاعات الدستورية والمؤثرات الإنسانية.
يونس دافقير